الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نحن والحضارة الحديثة (2)
ظن قوم أن حديثي بالأمس دعوة إلى ترك مظاهر الحضارة والابتعاد عنها. وعجب هذا الظن!
هل أنا مجنون حتى أقول دعوا السيارة واركبوا الحمار، واتركوا طيارة البوينغ وعودوا إلى الإبل، واقطعوا أسلاك الكهرباء وأشعلوا مصابيح الزيت، واتركوا المستشفيات وتداووا بأعشاب البادية، وإذا قاتلتكم إسرائيل بالصواريخ والطيارات والدبابات فقاتلوها بالسيف والرمح والقوس والنشّاب؟!
لا يا سادة، لا يقول هذا إلا مجنون.
ولكن أقول: أما كان من الممكن أن نأخذ النافع من هذه الحضارة ونترك الضار؟ وأن نجعل الشرع هو الميزان؛ فما كان محرّماً نتركه ولو أجمع الناس على الأخذ به، وما لم يكن محرماً وكان نافعاً نأخذه؟
والحضارة العالمية مثل بناء له ثلاثة أدوار، أنشأ الدورَ الأول دولُ الشرق الأدنى في القرون الأولى: الفراعنة والفنيقيون والحثيون والبابليون، ثم اليونان والرومان.
وأنشأ الدورَ الثاني فوقه المسلمون في القرون المتوسطة. فالقرون الوسطى كانت عصور تأخر ووحشية في أوروبا ولكنها كانت في الشرق
الإسلامي عصور تقدم ومدنية.
وأنشأ الدورَ الثالث فوقه الإفرنج.
فنحن -المسلمين- لسنا غرباء عن هذه الحضارة، بل نحن من أصحابها، ونحن شركاء في صرحها. ولكنا نمنا دهراً والقافلة تمشي فأضعنا مكاننا في المقدمة، فلما استيقظنا هرعنا لنستعيد ما أضعنا.
وفي إبان يقظتنا وجدنا شيئاً لا عهد لنا به، فوقف فريقان منّا موقفين غريبين: فريق أخذ بكل ما جاءت به هذه الحضارة أخْذَ تقليد بلا فهم ولا تمييز، وهذا خطأ
…
وفريق رفض كل ما جاءت به بلا فهم ولا تمييز، وهذا خطأ.
والصواب أن نأخذ ما لا يخالف الثابت في ديننا ولا يناقض الصحيح من سلائقنا وعاداتنا، ما دام فيه النفع لنا.
ولماذا نرفض نِعَم الحضارة؟
إن أفقر فقير فينا يعيش أحسن من عيشة عبد الملك بن مروان وهارون الرشيد. عبد الملك كانت له ضرس منخورة وكان به بَخَر من ذلك (أي أن رائحة فمه كانت قبيحة) ولم يجد طبيباً يحشوها له، وأفقر فقير فينا يجد الطبيب الذي يحشو الضرس ويلبسها.
وأبو جعفر المنصور كان يشكو من أمعائه ويتألم منها، فلا يجد حبة أنتروفيوفورم أو حبة نوفالجين، وأفقر فقير فينا يجدها فيسكن ألمه، وتتطهر من الجراثيم أمعاؤه.
وهارون الرشيد كان يسافر على الإبل وعلى الدواب، ويقطع الطريق
من بغداد إلى مكة في شهرين، وأي واحد فينا يستطيع أن يركب الطيارة، ويقطع هذا الطريق في ساعتين.
فمن الذي يقول إن علينا أن نرفض نِعَم هذه الحضارة؟ {مَنْ حَرّمَ زينةَ اللهِ التي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ والطيّباتِ مِنَ الرّزْق؟} .
لا، ولكن الذي نقوله إن علينا أن نرفض رفضاً باتاً ما يفسد عقائدنا ويوقعنا في المحرمات، ولو عدّه الناس كلهم من أركان الحضارة ومن لوازم الحياة.
***