الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صورتان واقعيتان
(1)
أعرض عليكم -في هذا الحديث- صورتين واقعيتين، صورة من حياتنا، وصورة من حياة المسلمين في الصدر الأول.
دخلت المستشفى من سنتين لعملية جراحية، فأعدوني للعملية بفحوص كثيرة أجروها؛ فحوص مجهرية وكيميائية مختلفة للدم، وصور شعاعية، وفحوص سريرية. فلما تيقنوا باحتمال الجسم للعملية استعد الطبيب، فغسل يديه وعقمهما ولبس القفازات المعقمة، وعقمت غرفة العمليات، وربطوا الجرح بالقماش المعقم، وأعطوني المضادات الحيوية (الأنتي بيوتيك) والبنسلين والستربتومايسين وأنواعاً أخرى من ذوات السين. وفي كل يوم يأتي الطبيب ليغير أربطة الجرح فيتخذ هذه الاحتياطات؛ خشية أن يتسرب جرثوم إلى الجرح فيفسده.
هذه الصورة الأولى، وليست جديدة عليكم، ففي كل يوم ترون أمثالها أو تسمعون به.
أما الصورة الثانية فلن آتي بها مما المستشفى بل من ساحة المعركة،
(1) لم أجد في مخطوطة هذه المقالة والتي تليها (وهما آخر ما استطعت اختياره لهذا الكتاب) ما يدل على تاريخ كتابتهما، ولكني أرجّح أنهما قد أُذيعتا من إذاعة دمشق في أوائل الستينيات (مجاهد).
معركة بدر، حين كان معاذ بن عمرو بن الجموح يقاتل، فأصابته ضربة سيف على عاتقه، فقُطعت يده وبقيت معلقة بجلده في كتفه، هل تدرون ماذا صنع؟
لا. لم يحملوه على محفة المستشفى العسكري المتنقل، ولم يُلقَ على سرير العمليات ليخدر ثم يخاط الجرح، ولم يعط شيئاً من مبيدات الجراثيم، بل استمر يقاتل، ولما ضايقته يده المقطوعة المعلقة بكتفه تقاصر حتى وصلت أصابعها إلى الأرض، فوضعها تحت قدمه ونهض فتمطى حتى قطع الجلدة الباقية، وأخذ اليد المقطوعة فألقاها، وعاد إلى الجهاد.
هذه قصة حقيقية. ولقد ذكرتها وأنا في المستشفى وأنا -رغم حفظ الجرح ولفه بالضمادات المعقمة وأخذي المضادات- أخاف، أو يخافون عليّ، تسمم الجرح
…
وهذا يصنع ما سمعتم به!
إنكم تقرؤون الخبر من أخبار السيرة ومن أخبار التاريخ، فتمرون به من غير أن تتصوروه حقيقة. وأنا لا أشك أن كثيرين منكم قرؤوا هذا الخبر، ولكن هل تصوره أحد منكم؟
الواحد منا تجرح يده فيسرع إلى القطن والغَول (الإسبيرتو)، وتهرس إصبعه أو تنشق كفه، فيركض إلى المستشفى ليخيط الجرح ويعقمه. فكيف استطاع هذا المجاهد احتمال قطع يده من الكتف؟ ألم ينزف منها دمه؟ ألم يتلوث الجرح؟ ألم يحمل من الألم ما يمنعه من القتال؟ فكيف استمر في القتال؟
هل نحن بشر وهو فوق البشر، أم هو بشر ونحن دون البشر؟ هل يختلف تركيب أجسادنا عن تركيب أجسادهم؟ هل خُلقنا نحن من طين وهم من الإسمنت المسلح؟
لا. ولكنهم كانوا يملكون دواء عجيباً يزيل الأوجاع كلها والآلام، ولكنه ليسر مخدراً كالمخدرات التي نعرفها. ويصب في الجسد قوة ونشاطاً، ولكن لا نعرف -ونحن في عصر التقدم- دواء مثله، ويحفظ الجروح في الحرب سليمة من الجراثيم من غير رباط ولا تعقيم، ويصبّر الجسد على الجوع فلا يحس به ولا يضره، وعلى العطش وعلى قلة النوم.
إنه دواء له عمل السحر وليس بسحر.
وبهذا الدواء كانت رفيدة، المرأة التي لم تدخل مدرسة التمريض، تداوي الجرحى في الحرب في خيمتها التي نصبتها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مَن قُطعت يده، أو شق جنبه، أو شج رأسه، فيخرج معافى بلا بنسلين ولا ستربتومايسين. وبهذا الدواء كان يتداوى من يصيبه السهم فيخرجه من جسده، ويوالي القتال. وبهذا الدواء صبر الجندي المسلم على الجوع والعطش والتعب، حتى استطاع أن يمشي من المدينة إلى مصر وليبيا وساحل الأطلنطي وقلب فرنسا، وإلى الشام والعراق وفارس والأفغان والهند. وبهذا الدواء تغلب علماء المسلمين على تعب السهر واستغنوا عن المنام حتى ألّفوا هذه الكتب التي كانت معجزة الفكر البشري.
ولما نسينا نحن تركيب هذا الدواء ضعفنا في أجسادنا وأرواحنا وعقولنا، وتخاذلنا، ونزلنا بعد الرفعة، ورجعنا بعد التقدم، وصرنا وراء الناس وكنا في مقدمة الناس.
هذا الدواء يا سادة اسمه
…
اسمه: الإيمان.
***