الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استعدوا للحرب
أحلف بالله ليصدق القراء أن ما أكتبه اليوم قد وقع البارحة، وأنه ليس خيالة من خيالات الأدباء.
أنا رجل أشتغل بالقانون وبالأدب، وأعمل للوظيفة وللجريدة، ولكني أقسم لها وقتي، ولا أقسم لها نفسي؛ فإذا كنت في المحكمة نسيت الأدب، وفرغت ذهني منه، وألقيت عني رداءه. وإذا كنت في دنيا الأدب خلعت ثوب القضاء وخليت فكري من مواد القانون. أما هذه الكلمة فإني أفكر فيها إذ أضع رأسي على الوسادة، وأختار موضوعها، وأكتب في ذهني أول جملة منها، ثم أنام. فإذا صحوت أجدها قد اختمرت في عقلي الباطن ونضجت، فأكتبها دفعة واحدة، لا أقف فيها إلا ريثما أغط (1) القلم، أو أبدل الصحيفة.
ونمت البارحة وفي ذهني موضوع الاستعداد للحرب، والتيقظ له، وما يجب على الحكومة، وما ينبغي للشعب. وكانت ليلة حارة من ليالي الصيف، فجرّت عليّ حرارتها ما أطار مني نومي، ونغص علي ليلتي، وأقامني الآن خائر الجسم، دائر الرأس، ثقيل الأجفان: جاءتني بعوضة، كلما أغمضت عيني تحوم علي وتطن في أذني، فأنهض وأفتش عنها وأستعد لها، فلا أراها،
(1) أغط: من العامي الفصيح.
فأقول انصرفت لا ردت، وأحاول المنام فتعاود التحويم والطنين، واستمرت على ذلك الليل أكثره إلى مطلع الفجر، فكدت أعتذر من صاحب الجريدة، وأدع الكتابة اليوم، ثم قلت: لماذا لا أصف حالي مع البعوضة، فأكون قد دخلت في موضوعي وأنا لا أشعر؟ وإذا كانت بعوضة واحدة قد طردت النوم عني، وسهدت عيني، فكيف لعمري ننام ويهود في فلسطين، لا تزال تطن إذاعتها في آذاننا؟
هذا هو الموضوع.
…
قلت أمس في خطبة الجمعة التي أذاعتها محطة دمشق أننا في حرب، أن كل دولة عربية في حرب، ما بقي في فلسطين يهودي واحد، وأننا قد خسرنا الجولة الأولى. نقول ذلك بلسان الرياضي الذي ينهزم ولكنه يعلم أن أمامه جولات، وأن عزمه لمتين وأن عضلاته لقوية، وأن الظفر في يديه. ونحن نرحب بالحرب، فنحن بنو الحرب، ونحن رجال الجلاد، ونحن لا نخشى الغارات ولا تطير قلوبنا شعاعاً عند أول قنبلة تلقى، ولكنا لا نريد -مع ذلك- أن نتلقى الضربات تلقّي الغنم ضربة الذئب.
إن علينا أن نعد وأن نستعد. وإني أجمل هنا المنهج الذي أراه، لعلي أعود إليه -بعدُ- بالتفصيل والبيان.
يجب -أولاً- أن توضع الموازنة على أسلوب جديد، فتمحى منها كل نفقة يستغنى عنها، ويلغى كل مصرف لا ضرورة إليه، ولا لزوم له، ويشترى بذلك كله السلاح والعتاد.
ويجب -ثانياً- أن يكون عند كل مدرسة ملجأ يعلم الطلاب سبيل
اللجوء إليه إن كانت غارة، وفي كل حي ملاجئ، وأن يدرب الناس على ذلك. ولا يقل أحد أن الحرب لم تقع بعد، فإنها واقعة بيننا وبين اليهود حتى نطردهم إن شاء الله من بلادنا، إن لم يكن اليوم فغداً.
ويجب -ثالثاً- أن تعنى الحكومة بالدعاية والحرب الأدبية، وإلا فما معنى أن لنا محطة إذاعة من أقوى محطات العالم إذا كانت الجرائد كلها قد نشرت أمس نبأ العدوان على القرية العربية وحرقها، ولم تذع ذلك الإذاعة، مع أن إذاعة إسرائيل
…
اسمعوا، إذاعة إسرائيل، قد أذاعت الخبر!
ويجب -رابعاً- تعميم الفتوة على المدارس كلها، وعلى الجامعة، وتدريب الناس جميعاً (من شاء منهم) فنون الحرب، ونشر روح الصبر والاحتمال والحماسة في الأمة.
يجب -خامساً- محاربة كل مظهر للرذيلة وللخنوثة، لأن ذلك كله إضعاف لنا وتقوية لليهود.
…
إن بعوضة طنت في أذني جعلتني لا أستطيع المنام، فهل تستطيعون النوم -يا ناس- وإسرائيل تطن إذاعتها في آذانكم، وإسرائيل تتربص على حدودكم، وإسرائيل قد سلبتكم أرضاً من أرضكم، وقتلت إخواناً من إخوانكم؟
من نام على عدوه فما أقر الله عينه بمنام.
***