الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كونوا مثل عمر
روى الإمام ابن عبد الحكم -في سيرة عمر بن عبد العزيز- أن عمر رضي الله عنه كان يأمر أصحاب البريد أن يحملوا إليه كل كتاب يُدفع إليهم، فخرج البريد (الرسمي) من مصر يوماً، فدفعت جاريةٌ اسمها «فرتونة السوداء» مولاة رجل يسمى «ذا أصبح» كتاباً تذكر فيه أن جدار منزلها قصير وأنه يقتحم عليها منه فيسرق دجاجها.
فكتب إليها عمر: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح. بلغني كتابك وما ذكرت من قصر حائطك وأنه يدخل عليك فيه فيسرق دجاجك، وقد كتبت إلى أيوب بن شُرحبيل (1) آمره أن يبني لك ذلك حتى يحصنه مما تخافين إن شاء الله. والسلام".
فيا أيها القراء، سألتكم بالله: هل تتصورون أن يكون في الدنيا شخص أهون على الناس وأدنى منزلة فيهم وأقل شأناً من هذه الجارية السوداء؟ وهل تتصورون أن يكون في الدنيا رجل أسمى مكانة، وأكثر شغلاً، وأعز
(1) هو أيوب بن شُرَحْبيل الأصبحي، أميرٌ من الصلحاء، ولي مصر لعمر بن عبد العزيز أول سنة 98 وحسنت أحوالها في أيامه، واستمر بها سنتين ونصف سنة إلى أن توفي سنة 101 (عن الأعلام للزركلي، ج 2 ص 38).
وأكرم من عمر الذي كان يحكم -وحدَه- ما بين حدود فرنسا وحدود التُبَّت، لا رادّ لحكمه ولا ناقض لإبرامه، وليس فوقه إلا الله؟ وهل تتصورون أن يكون في الدنيا موضوع أتفه وأسخف من جدار فرتونة ودجاجها؟
ومع ذلك لم تمنع عمرَ بنَ عبد العزيز جلائلُ الأمور من أن يهتم بشكَاة فرتونة، ويكتب بشأنها إلى والي مصر وقائدها العام أيوب بن شرحبيل، وأن يجيبها مطمئناً ومخبراً.
هذا خبر من آلاف الأخبار التي يطفح بها تاريخنا أسوقه إلى رجلين: رجل يزهد في تاريخنا ويحقره ويولي وجهه تلقاء الغرب في كل شيء؛ يظن أن الخير لا يأتي إلا منه، والنور لا ينبثق إلا من جهته، وينسى أنها من الشرق تشرق الشمس، ومن الغرب تأتي الظلمات
…
ورجل ولي ولاية، أو نال وزارة، فتكبر وتجبر، وطغى وبغى، وحسب أنه ساد الدنيا، فلم يعد يردّ على كتاب ولا يحفل بشكَاة ولا ينظر إلى أحد
…
لعله يتنازل فيرضى أن يكون بمنزلة عمر الذي كانت الدولة السورية كلها ضيعةً واحدة في دولته، ثم لم يمنعه ذلك أن يهتم بحائط فرتونة السوداء ودجاجاتها، وأن يشغل والي مصر وقائد جندها بشأنها، وأن يرد بيده على كتابها!
ألا تتنازلون -يا سادتي- من معاليكم فتكونوا مثل عمر؟!
***