الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الناس خير
حدثني سَمِيَّ؛ الأستاذ علي الطنطاوي القاضي، قال: أقمت على قضاء النبك قرابة عام (1)، ما كنت أكلف أحداً من أهلها مالاً يبذله لوجه من وجوه البر إلا لبّى، على فقر أهل النبك وقلة ذوات أيديهم.
وما ذلك إلا لأنهم وثقوا أن ما نجمعه نؤديه ولا نحتجزه، ونقر به ولا نجحده، ونسلمه إلى أربابه لا ننسى شيئاً منه في زوايا جيوبنا. وما وثقوا بنا لأنا أعدنا الخُطَب عليهم، وكررنا القول لهم، وزكينا لهم أنفسنا بألسنتنا (كما تنظف القطة نفسها بلسانها، أو كما يفعل المرشحون يوم الانتخاب)، بل لأنهم رأوا ذلك منّا بعيونهم: كان يوم الفقير من أيام سنة 1941 الذي ابتدعته الحكومة ذلك الوقت عوناً للفقير وتفريجاً عنه، أو دعاية لها وتثبيتاً لكراسيها، وأي ذلك كان فقد كان فيه خيرٌ للفقيرِ كبيرٌ.
وأَحبَّ قائم المقام أن يكون جمعاً نظيفاً فوكلني به -حسنَ ظن منه بي- فعمدت إلى طريقة يستحيل أن يدخل عليها زيف، أو تمكن معها سرقة: جمعنا الناس في رحبة البلد وجئنا بصناديق مقفلة لها في ظهورها
(1) أقام جدي في النبك -قاضياً لها- نحو أحد عشر شهراً في سنة 1941، وله فيها أخبار يمكن الرجوع إليها في الجزء الرابع من «الذكريات» (مجاهد).
شقوق يُلقى منها المال، فحمّلناها أولاداً من أولاد المدرسة، وعمدنا إلى أكياس كبيرة وضعناها على ظهور دواب من دواب القرية، وسيّرنا ذلك أمامنا وسرنا مع ذلك الحشد. وجعلت أمام الموكب من ينادي: "هاتوا قليل، هاتوا كثير
…
هاتوا قمح، هاتوا شعير
…
كله مليح للفقير". فكان مَن يأتي بمال يرميه في الصندوق، ومَن يجيء بحبٍّ يلقيه في الكيس. ودرنا في الأسواق، وجزنا البيوت، حتى إذا أكملنا طوافنا عدنا إلى الرحبة فقعدنا ووقف الناس من حولنا وبسطنا بساطين، فطرحنا الحب على بساط، والمال على بساط، وكِلْنا وعدَدْنا ومئاتُ العيون -من حولنا- ترقب العد والكيل. وكنا قدم كتبنا أسماء الفقراء، على درجات فقرهم، في صحيفة؛ فقسمنا المال والحب عليهم، فجعلت أنادي الفقير فأدفع له وآخذ خطه بما استلم، حتى نفد ما جمعنا.
هذا ما وثّق الناس بي، ومن قبل رأى الناس في سنة 1930 أسلوب الأمانة في التبرع لأطفال الصحراء؛ أبناء الثوار اللاجئين يومئذ إلى وادي السرحان، وكانت قد قامت به «الأيام» أيامَ كنت أعمل فيها (1)، وكان يقوم عليها الأستاذ عارف النكدي، فكان ينشر أسماء المتبرعين وصور الإيصالات في الجريدة، فيعرف الناس طريق المال من منبعه إلى مصبِّه، فيقبلون على الدفع إقبالاً عجيباً. ولو غير النكدي تولاه، أو على غير هذا الأسلوب جرى فيه، لما أقبلوا عليه.
وأنا ما قلت هذا (يقول صديقنا القاضي
…
) فخراً بنفسي، ولا مدحاً للأستاذ النكدي، بل لأبيّن أن الناس لا يزال فيهم خير، ولا يزالون مستعدين للبذل في سبيل الله، بشرط أن يثقوا بأن أيدي الجامعين أيدٍ نظيفةٌ، وأن
(1) ولهذا المشروع تفصيل في «الذكريات» ، في الجزء الثاني، الحلقة 44 (مجاهد).
المال يصل إلى وجوه الخير التي يُجمع من أجلها.
ونحن مقبلون على الشتاء، والدين الأخلاق والإنسانية، كل ذلك يوجب على كل حي من أحياء دمشق إعانة فقرائه على دهرهم. والناس إذا وثقوا بأن من يجمع المال لا يسرقه يعطون الكثير، فألّفوا في كل حي لجنة من المعروفين بالأمانة واجمعوا للفقراء، فإنه لا يجوز أن يأوي الأغنياء غداً إلى بيوتهم الناعمة وغرفهم الدافئة ويتركوا الفقراء واللاجئين لبرودة المساجد وشقاء الأكواخ.
***