الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جريدة «الأيام»
لقد جددت لي «اليوم» شبابي، وأعادت لي مواضي أيامي، ورجعتني مسيرة عشرين سنة في طريق الزمان، حتى كأني أرى مولد جريدتَي «الأيام» و «الإنشاء» وأشهد ذلك العهد -سقى الله لياليه- عهد الشباب، عهد النضال، العهد الذي كان -على رغم الانتداب- عهد وثبة وطنية عزيزة المثيل.
وكأن التاريخ يعود واقعاً والماضي يصير حاضراً، فقد كان مولد جريدة «الأيام» حدثاً في تاريخ الصحافة في بلاد الشام، وكان لها هزة في قلوب الحاكمين والمحكومين على السواء؛ هزة فرح في قلوب، وجزع في قلوب، وكان الناس يرقبون صدورها ويزدحمون على بابها كل يوم ازدحامهم على الأفران أيام الحرب، وبيعت أعداد منها بأضعاف أضعاف ثمنها، ورأت من العز ما لا أظن جريدة رأت مثله.
وما ذلك لمجرد أنها جريدة الكتلة الوطنية (والكتلة يومئذ قائدة الجهاد وزعيمة الوطن) ولا لأنها حشدت لها قواها ومالها، ولا لأنها أول جريدة صدرت بالصفحات الكثيرة والمظهر الفخم، بل لأن الناس رأوا فيها شيئاً جديداً لم يروه من قبلها؛ رأوا فيها رجولة الرجل الذي كان يقوم عليها. الرجل حقاً القوي الأمين ذي العزم المتين والقلم المبين عارف النكدي. كانت الصحف تهجم على الحكومات المحلية فهجم هو على الدولة
المنتدِبة، وكانت تنقد رئيس الوزراء فنقد هو المفوض السامي
…
وجعل الجريدة مدرسة للرجولة وللجرأة، وعلّم قراءها أننا إن كنّا أضعف من المستعمرين لا نملك دباباتهم ولا مدافعهم فإننا أقوى بإيماننا وأشرف بماضينا، وأنّا المحقون وأنهم الغاصبون المبطلون، وأن الباطل قد يغلب الحق حيناً والمستعمر قد يسطو بالشعب زمناً ولكن ذلك لا يمكن أن يدوم.
وكانت -فوق ذلك- مدرسة للبيان العربي، والأسلوب المشرق، والبلاغة التي تهز حبات القلب وتثير سواكن النفس حتى تجعل البَكِيّ فَرِحاً والعييّ فصيحاً والجبان جريئاً والشعب الأعزل جيشاً يهزأ بالحديد والنار.
ولقد كانت للناس ثقة بها لم يكن مثلها لجريدة، وكان من المظاهر الكثيرة لهذه الثقة أنها لما دعت الناس إلى مساعدة أطفال الصحراء (أبناء الثوار الذين كانوا في وادي السرحان مع سلطان) أقبل الناس على البذل إقبالاً لا شبيه له، وكانت هي محلاً لهذه الثقة فنشرت أسماء المتبرعين ومقدار ما دفعوا ووجوه إنفاق المبلغ ووثائق وصوله؛ فلم يضع قرش واحد ولم يسرق.
لقد كان لي شرف العمل في «الأيام» ، وأنا أشهد أن دارها كانت كعبة الوطنية وقبلة رجالها وكانت «مقر أركان حرب» الجهاد الوطني وفيها كانت اجتماعات قادة الأمة وفيها كانت مجالس الشباب، وكان فيها بهو للجنة الطلبة المركزية التي تمثل طلاب دمشق جميعاً وكان كاتب هذا المقال هو رئيسها وكان أول داع لتأليف لجان للطلاب عقب عودته من مصر سنة 1928. مضى وقت طويل ولجان دمشق كلها يديرها رجلان: الدكتور صبري القباني وكاتب هذه السطور، وكان الأول طالباً في كلية الطب والثاني طالباً في كلية الحقوق.
لقد سايرت هذه الجريدة الأمة في جهادها، ورافقتها في نكباتها وأعيادها، وكانت معها في بيض أيامها وسوادها، حتى غدت مجلداتها تاريخاً لنهضتها.
إن الأمة تريد جرائد محترمة رزينة ذات مبدأ تصدر عنه وغاية تسعى إليها، تعيش لقرائها فقط وتعيش على قرائها فقط. وإنّا لنرجو أن تكون «اليوم» كما تريد الأمة أن تكون الجرائد، فتصل مجدها الطريف بمجدها التليد، وتبني مستقبلها العظيم على أركان ماضيها العظيم.
***