الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نحن والحضارة الحديثة (1)
هل تعرفون أن العرب يسمون الشيخ المسن «الكُنتيّ» ؟ إنها نسبة غريبة إلى قوله «كنت» و «كنت» ؛ لأن الشاب يعيش في المستقبل، يقول:"سأكون غداً"، أما الشيخ فيعيش في الماضي، يقول:"كنت أمس".
وأنا سأعترف الليلة بأني شيخ؛ لأني سأحدثكم حديث الماضي. لا أقول: «كنتُ» ، فما عن نفسي أتحدث، ولكن أقول:«كنّا» .
تذكرت الماضي وأنا أستمع اليوم إلى الإذاعة من رادّ صغير أمامي، وقلت عندنا الرادّ (أي الراديو) والرائي (أي التلفزيون)، وآلات التسجيل، والبرّاد، وموقد الغاز
…
فهل تدرون أننا لم نكن نعرف ونحن صغار في دمشق، بل لم تكن دمشق تعرف شيئاً من ذلك كله؟!
كنا نعيش في البلدة القديمة، ولم يكن قد فتح شارع واحد من هذه الشوارع التي تمتلئ بها اليوم دمشق، وأول شارع فيها شقه جمال باشا سنة 1916 ميلادية، أيام الحرب الأولى. وكنّا إذا جنّ الليل أوقدنا مصابيح الكاز (الكازات) وكانت صغيرة، فلما ارتقينا جاءت (الكازات نمرة 4) ذات الفتيل العريض. ولم أعرف الكهرباء إلا وأنا تلميذ في السنة الخامسة الابتدائية، أوصلوا إلينا شريطاً من دار الجيران، فلما خبرت التلاميذ في المدرسة بأننا نشعل المصباح بلا كبريت وزيت كذبوني، فضربتهم، فجاء
الأستاذ فضربني، وأعلن في الطلاب أني أكبر كذاب في المدرسة لأني أدّعي أن عندنا مصباحاً يشعل بلا كبريت ولا زيت.
وعرفنا السيارة يومئذ. جاءت دمشقَ سيارة واحدة، من سيارات فورد القديمة ذات الدرجة والدواليب الدقيقة العالية وسقف القماش، وكان الناس يزدحمون على جوانب الطرق حين كان يركبها جمال باشا؛ يتعجبون منها ويخشونها، ولا يصدقون أنها تمشي وحدها من غير أن تجرها الخيل. وعرفنا الطيارة وكانت ذات جناحين دقيقين، لا تحمل إلا راكبين اثنين.
أما الراد (الراديو) فلم يكن موجوداً في الدنيا -فيما أعلم- فضلاً عن الرائي (التلفزيون) وأدوات المطبخ الكهربائية، والكناسة الكهربائية، والمصعد الكهربائي.
ولم يكن على أيامنا إلا أربع مدارس ابتدائية في دمشق، وثانوية واحدة كاملة في سورية كلها. وكان في جامعة دمشق -لما كنا طلاباً فيها من قبل خمس وثلاثين سنة- أقل من ثلاثمئة طالب، فصار الآن فيها في كلية الآداب وحدها أربعة عشر ألف طالب.
وصار في كل بيت من بيوت المملكة في مدنها وقراها رادّ، وفي كثير منها تلفزيون، وفي أكثر عماراتها مصاعد، وفي أكثر مطابخها أحدث الآلات. مع أني -لما جئت مكة أول مرة- كانت المعابدة جبلاً أجرد، وجدة لها سور وله أبواب، والرياض أعرفها وما فيها إلا «الديرة» ذات الأسواق التي عرضها متران. ولم تكن الكهرباء إلا في الحرم المكي فقط، توقد من محرك خاص.
لقد تقدمت بلادنا كلها وتحضرت، وما كنّا نتعجب نحن منه قديماً صار اليوم مألوفاً للبدوي لا يرى فيه عجباً، بل إنه ليقتني من الآلات والأدوات
ما لم نكن نعرفه نتخيله تخيلاً ولا نعلم بأنه يمكن أن يوجد.
لقد أخذنا من هذه الحضارة بأَكبر الحظوظ، ولكن السؤال الذي سقت من أجله هذا الحديث هو:
هل نحن اليوم أسعد حالاً مما كان عليه أجدادنا؟ هل يعدل ما ربحناه من متع العيش وسهولة الحياة، ما خسرناه من الدين والخلق؟
أنا لا أقول: اتركوا ما أخذتموه من مظاهر الحضارة، ولكن أسأل فقط والبقية غداً إن شاء الله.
***