الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبناؤنا وتاريخنا (2)
نشرت نحو سنة 1930
وإني لفي ذاك وإذا بالباب يُدق، وإذا بصديق لي من كرام الحجازيين جاء يزورني، فاستقبلته وحييته وملت معه بالحديث يميناً وشمالاً، ثم قلت له: ألك في أن تسمع طفلة صغيرة تسأل عن الخنساء وتَتَقصّى حديثها، وترجو أن تكون مثلها؟
قال: ما أرغبني في ذلك!
فناديت: يا فلانة
…
أقبلي.
فجاءت تعدو، وجاء معها أخ لها في الصف الخامس، أي أنه سيكون مشهوداً له بعد ثلاثة أشهر بأنه أكمل الدراسة الابتدائية. فسرني أن يأتي معها، وقلت في نفسي: لعل الصغيرة تعجز أو تجبن عن الجواب، فيجيب هذا ولا تسودُّ وجوهنا أمام ضيفنا.
وآنسها الضيف ولاطفها، ثم قال: يا بنيّة! بلغني عنكِ ان نك تحبين التاريخ، وإني سائلك سؤالاً هيناً، فإذا أنت عرفتِه، فلك هذه السكرة. وأخرج لها سكرة محشوة، سال لها لعاب الطفلة، فقالت: سَلْ!
فقال: وإني مسهّلٌ عليك السؤال، ما اسم والد النبي صلى الله عليه وسلم؟
قالت: لا أدري.
قال: من هو أبو بكر؟
قالت: ما هذا تاريخنا. نحن لم نصل إلى هذا، سلني عن الحثيين، عن العبرانيين، عن
…
فكاد يطير عقل الرجل من رأسه، وما من رجل عربي مسلم لا يطير لمثل هذا عقله، وقال لي: أفتقرأ ناشئتكم تاريخ الحثيين والعبرانيين قبل أن تعرف سيرة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن تعرف من هو أبو بكر رضي الله عنه؟
قلت وأنا أرشح عرقاً: هذه طفلة لا تفهم، سَلْ هذا فهو في الصف الابتدائي الأخير.
فقال لهذا: تعال يا بنى، أخبرني عن سيرة محمد بن القاسم الثقفي؛ الفاتح العظيم.
قال: هذا ما قرأناه، ولكن إن شئت أخبرتك عن سيرة نابليون.
فحوقل الرجل واسترجع، وقال: إذن فاحكِ لي تاريخ سيف الدولة صديق الشعراء ومشجع الأدباء.
قال: ما درسناه. ولكن إن شئت حكيت لك تاريخ لويس الرابع عشر، فإنه صديق الشعراء، ومشجع الأدباء، ولولاه ما نشأ -من بعد- مونتسكيو وروسو وفولتير.
قال: ومن هؤلاء؟
قال: أدباء وكتاب.
قال: أظنك تعرف عنهم مثلما تعرف عن ابن خلدون والغزالي.
قال: أما هذان فما أعرفهما!
قال: فمثلما تعرف من سيرة أبي حنيفة والشافعي؟
قال: إذن أسقط في الامتحان، إن كل ما أعرف عن أبي حنيفة والشافعي أنهما أبو حنيفة والشافعي. ولكن أعرف تاريخ الحضارة الأوربية في القرون الوسطى، وأعرف وقائع نابليون كلها.
قال الرجل: مثلما تعرف عن وقعة اليرموك والقادسية؟
قال: ليس في تاريخنا يرموك ولا قادسية!
قال الرجل: حسبك، حسبك.
ونظر إليّ نظرة كانت أبلغ من خطبة، ومسح دمعة الشرف التي سالت على خده، ثم قام مودعاً، وأنا أودّ لو تبتلعني الأرض.
***