الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النفقات
حديث اليوم باب من الفقه. لا، لن أسرد عليكم الأحكام سرداً، ولن أفتح الكتاب وأقرأ عليكم؛ فالكتب عندكم ويستطع من شاء أن يقرأ فيها. ولكني أثبت لكم أن فقهنا الإسلامي كنز لا ينفد، وأنه نبع للخير في كل زمان ومكان، وأنه هو وحده الذي يحقق العدالة الاجتماعية، التي صدعوا رؤوسنا بترديد اسمها، ولم نجد عندهم أثراً من رسمها.
هذا الباب هو باب النفقات، وإذا سمحتم قلت لكم كيف انتبهت إليه.
كنت سنة 1941، من خمس وعشرين سنة، قاضياً في منطقةٍ في الشام اسمها جبل القلمون. وكانت تلك السنة من أشد السنوات على الناس؛ فهي سنة شدة الحرب وعضتها، قد قلّت الأقوات وعم الضُّر، وكانت هذه المنطقة -بطبيعتها- أرضاً جبلية قليلة الزرع والضرع، يعيش أهلها على الهجرة إلى أميركا، فلم تكن أسرة تخلو من مغترب موسر، وسائر أفراد الأسرة فقراء.
ولقد ألهمني الله أسلوباً في الجمع والتوزيع سميته «مشروع الرغيف» ، اتبعناه في هذه القرى فنجح وقلدونا فاتبعوه في الشام؛ وهو أن نوكل من يدور كل صباح على البيوت، فيجمع من بيوت الموسرين والمتوسطين رغيفاً رغيفاً (والرغيف سهل عطاؤه، لا سيّما على هؤلاء الناس الذين تعودوا
أن يعجنوا ويخبزوا في بيوتهم، والخبز عندهم كثير). فكنا نجمع كل يوم مئات من الأرغفة؛ أي من أقراص الخبز، ونوزعها فنسد بعض الثغرة، ولكنها لم تحل الأزمة.
فانتبهت إلى باب النفقات في الفقه. وكنت أعمل به في المحكمة ولكن لم أنتبه إلى أثره في التضامن الاجتماعي.
وحكم النفقات شرعاً أن الزوجة نفقتها على زوجها ولو كانت تملك مليون ريال. أما غير الزوجة، فإن نفقة كل إنسان في ماله، لا يُكلف أحد بالإنفاق على أحد. حتى الولد الصغير، إن كان له مال ورثه من أمه مثلاً، أو من أحد أقربائه، لم يكلف أبوه بأن ينفق عليه، بل تكون نفقته من ماله.
فإن كان الإنسان فقيراً ليس عنده ما ينفق منه؟ إذا كان رجلا ًكُلف بأن يعمل؛ لأن الإسلام لا يسمح للرجل القادر القوي أن يعيش على الصدقات ولو كان فقيراً، ولا يقول له: اقعد في بيتك وتمدد واضطجع، أو اذهب إلى القهوة وخذ النفقة من الناس، إلا إذا كان والداً أو جداً وكان فقيراً وله ولد أو حفيد غني؛ فله أخذ النفقة منه.
فإذا كان عجوزاً كبيراً، أو كان مريضاً لا يستطع أن يشتغل، أو كان قد بحث عن عمل ولم يجد واضطر إلى البطالة اضطراراً فإن له أخذ النفقة.
والمرأة يكفي أن تكون فقيرة ليكون لها أخذ النفقة، ولا نقول لها اشتغلي؛ لأن الإسلام لا يكلف المرأة بالعمل بل يوجب نفقتها على الرجل. فإن كان لها زوج فنفقتها على زوجها، وإن لم يكن لها زوج وكانت فقيرة فعلى أقربائها.
ولكن على من تجب النفقة؟
إذا كانت المرأة فقيرة ما عندها ما تنفق منه، أو كان الرجل فقيراً ولا يستطيع العمال، فممّن يأخذ النفقة؟ ننظر في أقربائه: مَن الذي يرثه منهم إذا مات؟ فما كان يرثه إذا مات يُكلّف بنفقته إذا افتقر. فإذا كان الورثة متعددين، دفع كل منهم من النفقة بمقدار إرثه.
أعود إلى قصتي: لما رأيت ذلك أوعزت إلى خطباء المساجد وإلى المدرسين أن ينبهوا الناس إلى هذا؛ فصار كل فقير يفتش في أسرته عن قريب موسر، فإذا وجده ولم يعطِه أقام الدعوى عليه. وكثرت الدعاوى لدي، وصدرت فيها الأحكام.
فهل تصدقون إذا قلت لكم إنه لم يبق من الفقراء بلا نفقة إلا القليل، القليل الذين لا قريب لهم، وهؤلاء نفقتهم شرعاً على بيت المال. وتحقق نوع من التضامن الاجتماعي، تضامن بين الأسر ليس له نظير.
وهذا الباب مفتوح: الأب الفقير إذا كان له أولاد أغنياء يستطيع أن يطالبهم بالنفقة، والمرأة الفقيرة تطالب ولدها أو أباها أو أخاها، وكل فقير ينظر من هم ورثته إذا مات فيطالبهم بالنفقة، فإذا لم يعطوه اختياراً ذهب إلى القاضي فألزمهم القاضي بها إجباراً. فهل في قانون من قوانين الدنيا مثل هذا التضامن بين الأسر والعائلات؟
وهذا مثال من مئات الأمثلة على أن هذا الفقه الذي تركناه (في أكثر بلدان المسلمين) -مع الأسف- وأخذنا القانون المدني كنز لا ينفد، وأنه يصلح لكل زمان ومكان.
***