الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأدب والتربية
كنت قاعداً أفكر في موضوع أتحدث به إليكم (وأصعب شيء على المحدث اختيار الموضوع، لا سيّما إذا كان مثلي يحدث الناس من قديم، من أكثر من ربع قرن)، وإذا بي أسمع من رادّ الجيران أغنية:«أراك عصيّ الدمع شيمتك الصبر» .
وأنا قديم الإعجاب بهذه القطعة؛ فهي من أروع ما قال أبو فراس، فانصرفت أتتبع الرادّ بسمعي، وإذا بي أنتبه إلى شيء عجيب في هذه القطعة لم أنتبه له من قبل: بيت فيها يوحي إلى سامعه بما يأباه الدين، ينكره الخلق الرفيع؛ لأن الدين والخلق يدفعان إلى الإيثار وحب الناس، وهذا البيت يدفع إلى الأثرة (أو الأنانية كما يقولون اليوم) وحب الذات، بل إن فيه أبشع صور الأنانية وأبعدها عن الخلق القويم، هو قوله:«إذا مت ظمآناً فلا نزل القَطْرُ» .
انظروا كم بين قوله هذا وبين قول المعري:
فلا نزلت عليّ ولا بأرضي
…
سحائبُ ليس تنتظمُ البلادا
أبو فراس ينحط إلى أدنى دركات الأثرة والأنانية؛ لا يرتفع درجة فيهتم بأهل أو ولد، ولا يرتفع درجة أخرى فيهتم ببلد أو وطن. إنه لا يبالي إلا بنفسه. فإذا مات عطشان فلينقطع المطر، وليحترق الزرع، ولتقفر الأرض،
وليعم القحط، وليهلك القريب والبعيد، والصديق والعدو، ولا يبقى أحد.
والمعري يرتفع إلى أعلى درجات الإيثار فلا يرضى أن ينزل المطر عليه ولا على أرضه وحدها، لا يرتضي إلا غيثاً عاماً يشمل خيره البلاد والعباد. كم بين هذا وبين قوله ذلك البيت: وإذا مت ظمآناً فلا نزل المطر؟!
ومثله البيت الآخر:
ونحن أناس لا توسط بيننا
…
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
الصدر أو القبر؟ أما من توسط بينهما؟ هذا -والله- أسوأ منهج في الحياة!
أي أنك إذا ركبت في سفينة ومعك أهلك وولدك وأوشكت على الغرق فقال لك الربان: ألقِ في البحر نصف أمتعتك تخلص من الغرق، قلت: لا، لنا الصدر دون العالمين أو القبر. فإما أن أنجو بمتاعي كله أو أن أموت أنا أهلي.
وأن الطالب في الامتحان إذا ألقي عليه سؤال رأى أنه إن أجاب عليه نال درجة النجاح ولكن لم ينل درجة التفوق، قال: لنا الصدر
…
، فإما مئة على مئة وإما الصفر.
والتاجر إذا أمل أن يربح في البضاعة ألفاً، فنقص ربحه مئتان ركب رأسه وقال: لا، لنا الصدر
…
، وآثر أن يخسر ثمن البضاعة كله عن أن ينقص ربحه مئتان.
إن من المؤسف أن هذا البيت قد جرى على ألسنة الناس واتخذه كثير منهم منهاجاً لحياتهم، فأضاع على من أخذ به خيراً كثيراً.
وأنا أتمنى أن يتنبه إخواننا مدرسو الأدب العربي، فلا يقتصروا على بلاغة اللفظ حين يختارون النصوص والشواهد للطلاب؛ فبلاغة اللفظ هي المعيار الأول للكلام في رأي أستاذ الأدب، ولكنها لا تكفي وحدها، بل يجب أن ينظر إلى ما تثير في نفس الطالب من ميول، وما توحي به من توجيه في الحياة، وما يكون لها من أثر في الخلق وفي السلوك.
إن خطة زياد -مثلاً- من أبلغ الخطب، وخطبة الحجاج مثلها، وهما نافعتان في تقويم الملكة الأدبية؛ ولكن ما توحيان به من توجه سيء جداً؛ ففيهما إعلان خطة الظلم التي ينكرها الإسلام في أخذ البريء بالمجرم في خطبة زياد، وطريقة الاستبداد التي يأباها الدين في خطبة الحجاج
…
وفي دراسة نقائض جرير والفرزدق أدب كثير، وفيها -كما قال يونس- ربع اللغة، وهي أنفع شيء في إقامة اللسان وتقوية السليقة، ولكنها توحي بتحسين الأعراف الجاهلية في الحياة؛ تلك الأعراف التي كان إبطالها من جملة أغراض الإسلام
…
وفي شعر بشار وأبي نواس وأمثالهما أدب كثير، ولكن فيه هدم الأخلاق، ونشر الفساد
…
وفي شعر أبي العتاهية أدب كثير ولكن فيه قتل الطموح والاستسلام لليأس
…
والشواهد كثيرة.
وأنا ما أردت الاستقصاء، لكن التمثيل؛ لأبيّن أن أستاذ الأدب يستطيع أن يكون موجهاً ومصلحاً إذا لم يكتفِ -عند اختيار النصوص للدراسة والاستظهار- ببلاغة لفظها وصفاء ديباجتها، بل نظر إلى ما توحي به من خلق وما تشتمل عليه من توجيه.
***