الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسائل متفرقة حول إفشاء السر
إفشاء سر الميت:
(قال ابن بطال: الذي عليه أهل العلم أن السر لا يباح به إذا كان على صاحبه منه مضرة وأكثرهم يقول إنه إذا مات لا يلزم من كتمانه ما كان يلزم في حياته إلا أن يكون عليه فيه غضاضة.
قلت -القائل ابن حجر-: الذي يظهر انقسام ذلك بعد الموت إلى ما يباح وقد يستحب ذكره ولو كرهه صاحب السر كأن يكون فيه تزكية له من كرامة أو منقبة أو نحو ذلك وإلى ما يكره مطلقا وقد يحرم وهو الذي أشار إليه ابن بطال وقد يجب كأن يكون فيه ما يجب ذكره كحق عليه كان يعذر بترك القيام به فيرجى بعده إذا ذكر لمن يقوم به عنه أن يفعل ذلك) (1).
(ولقد أجاز بعض العلماء إفشاء سر الرجل بعد موته مستدلين بما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أجلس فاطمة بجواره ثم سارها، فبكت بكاء شديدا، فلما رأى حزنها سارها الثانية، فإذا هي تضحك، فقلت لها أنا من بين نسائه: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسر من بيننا، ثم أنت تبكين، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها: عما سارك؟ قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره، فلما توفي، قلت لها: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما أخبرتني، قالت: أما الآن فنعم، فأخبرتني، قالت: أما حين سارني في الأمر الأول، فإنه أخبرني: أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإني نعم السلف أنا لك قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني الثانية، قال: يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة)) (2).
والحق أن إفشاء سر الرجل بعد موته فيه تفصيل فأحياناً يكون مباحاً وقد يستحب ذكره ولو كرهه صاحب السر، كأن يكون فيه تزكية له من كرامة أو منقبة، وأحياناً يجب كحق عليه تعذر القيام به فيذكره لمن يتسنى له القيام به، وأحياناً يكره، وقد يحرم، مثل ما كان به ضرر بصاحب السر أو بعشيرته من بعده) (3).
إفشاء الغاسل حال الميت:
قال الخطيب الشربيني: (فإن رأى الغاسل من بدن الميت خيراً كاستنارة وجهه وطيب رائحته ذكره ندباً ليكون أدعى لكثرة المصلين عليه والدعاء له أو غيره كأن رأى سوادا أو تغير رائحة أو انقلاب صورة حرم ذكره؛ لأنه غيبة لمن لا يتأتى الاستحلال منه)(4).
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة)) (5).
صفات أمين السر:
قال الماوردي: (ومن صفات أمين السر أن يكون ذا عقل صاد، ودين حاجز، ونصح مبذول، وود موفور، وكتوماً بالطبع. فإن هذه الأمور تمنع من الإذاعة، وتوجب حفظ الأمانة، فمن كملت فيه فهو عنقاء مغرب)(6).
صفات من يفشي سر نفسه:
قال الماوردي: (وفي الاسترسال بإبداء السر دلائل على ثلاثة أحوال مذمومة:
إحداها: ضيق الصدر، وقلة الصبر، حتى أنه لم يتسع لسر، ولم يقدر على صبر.
والثانية: الغفلة عن تحذر العقلاء، والسهو عن يقظة الأذكياء. وقد قال بعض الحكماء: انفرد بسرك ولا تودعه حازما فيزل، ولا جاهلا فيخون.
والثالثة: ما ارتكبه من الغدر، واستعمله من الخطر. وقال بعض الحكماء: سرك من دمك فإذا تكلمت به فقد أرقته) (7).
ضوابط في إفشاء السر:
(1)((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 82).
(2)
رواه البخاري (6285)، ومسلم (2450).
(3)
((وقاية الإنسان من الجن والشيطان)) لوحيد عبد السلام (ص319).
(4)
((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (2/ 46).
(5)
رواه مسلم (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنها.
(6)
((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص308).
(7)
((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص307).
قال الماوردي: (واعلم أن من الأسرار ما لا يستغنى فيه عن مطالعة صديق مساهم، واستشارة ناصح مسالم. فليختر العاقل لسره أمينا إن لم يجد إلى كتمه سبيلا، وليتحر في اختيار من يأتمنه عليه ويستودعه إياه. فليس كل من كان على الأموال أمينا كان على الأسرار مؤتمنا. والعفة عن الأموال أيسر من العفة عن إذاعة الأسرار؛ لأن الإنسان قد يذيع سر نفسه ببادرة لسانه، وسقط كلامه، ويشح باليسير من ماله، حفظا له وضنا به، ولا يرى ما أذاع من سره كبيرا في جنب ما حفظه من يسير ماله مع عظم الضرر الداخل عليه. فمن أجل ذلك كان أمناء الأسرار أشد تعذراً وأقل وجوداً من أمناء الأموال. وكان حفظ المال أيسر من كتم الأسرار؛ لأن إحراز الأموال منيعة وإحراز الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق، ويشيعها كلام سابق)(1).
الحالات التي يجوز فيها إفشاء السر:
لا يجوز إفشاء السر الواجب كتمانه إلا في أحوال محدودة منها:
1 -
انقضاء حالة كتمان السر.
2 -
موت صاحب السر – بشرط أن لا يعود عليه بالضرر-.
3 -
أن يؤدي الكتمان إلى ضرر أبلغ من ضرر الإفشاء.
4 -
دفع الخطر (2).
أكثر من يذيع السر:
قال الجاحظ: (وأكثر ما يذيع أسرار الناس أهلوهم وعبيدهم، وحاشيتهم وصبيانهم، ومن لهم عليهم اليد والسلطان. فالسرّ الذي يودعه خليفة في عامل له يلحقه زينه وشينه، أحرى ألّا يكتمه. وهذا سبيل كل سرّ يستودعه الجلّة والعظماء، ومن لا تبلغه العقوبة ولا تلحقه اللائمة.
وقال سليمان بن داود في حكمته: ليكن أصدقاؤك كثيراً، وصاحب سرّك واحدا من ألف) (3).
أكثر الأمور عرضة لإفشاء السر:
وإفشاء السرّ إنما يوكّل بالخبر الرائع، والخطب الجليل، والدفين المغمور، والأشنع الأبلق، مثل سرّ الأديان لغلبة الهوى عليها، وتضاغن أهلها بالاختلاف والتضادّ، والولاية والعداوة. ومثل سرّ الملوك في كيد أعدائهم ومكنون شهواتهم ومستور تدبيراتهم، ثم من يليهم من العظماء والجلّة، لنفاسة الملوك على العوامّ، وأنّهم سماء مظلّة عليهم، أعينهم إليها سامية، وقلوبهم بها معلّقة، ورغباتهم ورهباتهم إليها مصروفة. ثم عداوات الإخوان، فإنّما صارت العداوة بعد المودّة أشدّ لاطّلاع الصديق على سرّ صديقه، وإحصائه معايبه، وربّما كان في حال الصّداقة يجمع عليه السّقطات ويحصي العيوب، ويحتفظ بالرّقاع، إرصاداً ليوم النّبوة، وإعداداً لحال الصريمة (4).
وصية في عدم إفشاء السر:
وصية أمامة بنت الحارث ابنتها أم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني لما حان زفافها بعمرو بن حجر ملك كندة، وفيها:(فلا تعصين له أمراً، ولا تفشين له سراً، فإنك إن خالفت أمره أوغرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره)(5).
(1)((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص307 - 308).
(2)
((الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية)) لمجموعة باحثين (ص99 - 101) بتصرف.
(3)
((الرسائل الأدبية)) للجاحظ (ص95 - 96).
(4)
((الرسائل الأدبية)) للجاحظ (ص100).
(5)
((فقه السنة)) لسيد سابق (2/ 234).