الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: [اختلاف الصحابة على قولين يمنع إحداث قول ثالث]
إذا اختلف الصحابة على قولين: لم يجز إحداث قول ثالث في قول الجمهور1.
وقال بعض الحنفية، وبعض أهل الظاهر: يجوز2؛ لأمور ثلاثة:
أحدها: أن الصحابة خاضوا خوض مجتهدين، ولم يصرحوا بتحريم قول ثالث.
1 ظاهر كلام المصنف قصر الخلاف في هذه المسألة على عصر الصحابة مع التابعين، والذي في كتب الأصول عدم التخصيص بعصر الصحابة، ولذلك يعبرون عنها بقولهم:"إذا اختلف أهل العصر على قولين امتنع على من بعدهم إحداث قول ثالث" فلا أدري ما السبب الذي جعل المصنف يقصر المسألة على عصر الصحابة وحدهم؟
قال ابن مفلح: "كما لو أجمعوا على قول واحد، فإنه يحرم إحداث قول ثان، ونص عليه الإمام الشافعي رضي الله عنه في الرسالة".
انظر: الرسالة ص596، شرح الكوكب المنير "2/ 264".
2 ومعهم الشيعة أيضًا، وهو رواية أخرى عن الإمام أحمد. انظر: التمهيد "3/ 311".
وهناك رأي ثالث مروي عن الشافعي، واختاره المتأخرون من أصحابه، ورجحه كثير من الأصوليين، منهم: ابن الحاجب، والقراقفي، والرازي، وابن السبكي، والطوفي وغيرهم، وهو: أنه إن رفع حكمًا مجمعًا عليه حرم إحداثه، وإن لم يرفع حكمًا مجمعًا عليه جاز إحداثه:
فمن أمثلة الأول: القول بأن الأخ يحجب الجد، فهذا لا يجوز؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في ذلك على قولين، فمنهم من جعله بمنزلة الأب، فيحجب الأخ، ومنهم من شرّك بينه وبين الإخوة -على خلاف بينهم في مقدار هذا التشريك- فكأن الصحابة رضي الله عنهم قد أجمعوا على أن للجد نصيب، فالقول بحجب الأخ له خرق لهذا الإجماع، فلا يجوز.
الثاني: أنه لو استدل الصحابة بدليل، وعللوا بعلة: جاز الاستدلال والتعليل بغيرهما؛ لأنهم لم يصرحوا ببطلانه، كذا هنا.
الثالث: أنهم لو اختلفوا في مسألتين، فذهب بعضهم إلى الجواز فيهما، وذهب الآخرون إلى التحريم فيهما: فذهب التابعي إلى التجويز في إحدهما، والتحريم في الأخرى: كان جائزًا، وهو قول ثالث.
ولنا:
أن ذلك يوجب نسبة الأمة إلى تضييع الحق، والغفلة عنه؛ فإنه لو كان الحق في القول الثالث: كانت الأمة قد ضيعته وغفلت عنه، وخلا العصر من قائم لله بحجته، ولم يبق منهم عليه أحد وذلك محال. وقولهم1:"لم يصرحوا بتحريم قول ثالث".
قلنا: ولو اتفقوا على قول واحد، فهو كذلك، ولو لم يجوّزوا خلافهم.
فأما إذا عللوا بعلة، فيجوز بسواها؛ لأنه ليس من فرض دينهم
= ومن أمثلة الثاني: اختلاف العلماء في جواز أكل متروك التسمية، فقال بعضهم: يحل أكله، سواء أكان عمدًا أم سهوًا، وقال البعض: لا يحل مطلقًا فالقول بأنه إن كان الترك عمدًا فلا يحل، وإن كان سهوًا فهو حلال، يعتبر قولًا ثالثًا، ولا حرج فيه.
ويبدو -والله أعلم- رجحان هذا المذهب.
يراجع في هذه المسألة: المحصول للرازي "2/ 1/ 179 وما بعدها" الإحكام للآمدي "1/ 269-270"، مختصر ابن الحاجب مع شرح العضد "2/ 39"، المحلى على جمع الجوامع "2/ 198" شرح الكوكب المنير "2/ 264 وما بعدها" شرح مختصر الروضة "3/ 88 وما بعدها".
1 أي القول الثاني، وهو جواز إحداث قول ثالث.
الاطلاع على جميع الأدلة، بل يكفيهم معرفة الحق بدليل واحد، وليس على الاطلاع على علة أخرى نسبة إلى تضييع الحق، بخلاف مسألتنا.
وأما إذا اختلفوا في مسألتين فإنهم: إن صرحوا بالتسوية بين المسألتين: فهو كمسألتنا، لا يجوز التفريق.
وإن لم يصرحوا به: جاز التفريق، لأن قوله في كل مسألة موافق لمذهب طائفة.
ودعوى المخالفة للإجماع ههنا جهل بمعنى المخالفة، إذ المخالفة: نفي ما أثبتوه، أو إثبات ما نفوه، ولم يتفق أهل العصر على إثبات أو نفي، في حكم واحد، ليكون القول بالنفي والإثبات مخالفًا، ولا يلتئم الحكم من المسألتين، بل نقول: لا يخلو الإنسان من خطأ ومعصية، والخطأ موجود من جميع الأمة، وليس محالًا، إنما المحال: الخطأ بحيث يضيع الحق حتى لا تقوم به طائفة.
ولهذا: يجوز أن تنقسم الأمة في مسألتين إلى فريقين، فتخطئ فرقة في مسألة، وتصيب فيها الأخرى، وتخطئ في المسألة الأخرى، وتصيب فيها المخطئة الأولى2. والله أعلم.
1 حاصل ذلك: الرد على ما استدل به أصحاب المذهب الثاني من قولهم:
"الثاني: لو استدل الصحابة بدليل
…
إلخ" وخلاصته: أن ما ذكروه قياس مع الفارق، فهناك فرق بين استنباط الحكم، وبين الدليل والتعليل، فإن الحكم يجوز إثباته بدليلين أو علتين، ويخفى أحدهما على أهل العصر الأول، ويظهر لأهل العصر الثاني، وليسوا متعبدين بالاطلاع على جميع الأدلة والعلل؛ لأنها وسائل لا مقاصد، وليس في اطلاعهم على علة أخرى، أو دليل آخر نسبة إلى تضييع الحق.
انظر: شرح مختصر الطوفي "3/ 90".
2 خلاصة هذا كله: أن الأصوليين اختلفوا في انقسام الأمة إلى قسمين في =
......................................................
= مسأليتن، وكلاهما مخطئ في إحداهما:
وحاصل ذلك في ثلاث حالات:
الحالة الأولى: اتفاقهم على الخطأ في المسألة الواحدة من الوجه الواحد، فهذا لا يجوز إجماعًا.
الحالة الثانية: اتفاقهم على الخطأ في مسألتين مختلفتين، كأن تكون إحداهما في المعاملات والأخرى في العبادات، فهذا جائز باتفاق.
الحالة الثالثة: المسألة الواحدة ذات الوجهين، مثل: المانع من الميراث فإنه جنس واحد، إلا أنه ينقسم إلى نوعين، مثل: القتل والرق، فهل يجوز أن يقول بعضهم: القاتل يرث، والعبد لا يرث، ويقول البعض: بعكس ذلك، فيخطئ كل منهما فيما أصاب فيه الآخر، فقيل: هذا لا يمتنع، لأن الأمة لا تجتمع على خطأ في شيء معين واحد وقيل: يمتنع؛ نظرًا إلى خطأ المجموع في الجملة.
انظر: مذكرة الشيخ الشنقيطي ص157.
قال الطوفي -موضحًا ذلك-:
"واعلم أن خطأ كل فرقة في مسألة هو واسطة بين طرفين، فلهذا خرج الخلاف فيه، وذلك لأن القسمة تقتضي أنه إما أن تخطئ كل واحدة من الفرقتين، في كل واحدة من المسألتين، أو تصيب كل واحدة في مسألة وتخطئ في الآخرى:
فالأول ممتنع؛ لأنه خطأ كلي، والثاني جائز حسن؛ لأنه إصابة كلية، والثالث واسطة، لأنه خطأ من وجه دون وجه، فبالنظر إلى ما فيه من الخطأ ألحق بالطرف الأول، وهو الخطأ الكلي في الامتناع، وبالنظر إلى ما فيه من الصواب ألحق بالطرف الثاني، وهو الصواب الكلي في الجواز" شرح المختصر "3/ 92".
هذا، وقد مثل الطوفي لذلك بأمثلة كثيرة، منها: خطأ الشافعية في إباحة البنت المخلوقة من الزني، وكراهة الماء المشمس، وإصابة الحنابلة في تحريمها "أي بنت الزنى" وعدم كراهة الماء المشمس. انظر: المصدر السابق.