الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب: الأمر
مدخل
…
باب: الأمر
الأمر: استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء1.
وقيل: هو القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به2.
1 معنى "استدعاء الفعل": أي طلبه، ومعنى "الاستعلاء": أن يكون الأمر على كيفية فيها ترفع وغلظة على المأمور، كالسيد مع عبده، وكالسلطان مع رعيته.
وكون شرط الأمر على وجه الاستعلاء هو مذهب الإمام فخر الدين الرازي وأتباعه، وأبي الحسن البصري، والآمدي وابن الحاجب وغيرهم.
وقيل: يشترط العلو: وهو أن يكون الآمر أعلى منزلة من المأمور في الواقع ونفس الأمر، وهو مذهب المعتزلة وأبي إسحاق الشيرازي، وابن الصباغ والسمعاني.
وقيل: يشترط العلو والاستعلاء معًا، وهو مذهب القشيري والقاضي عبد الوهاب من المالكية.
وقيل: لا يشترط فيه علو ولا استعلاء، فيصح من المساوي والأدون على غير استعلاء، وهو مذهب المتكلمين، واختاره كثير من متأخري الأصوليين. انظر: نهاية السول "2/ 7" المعتمد "1/ 49" المسودة ص41.
وقد اختار المصنف كون الأمر على هيئة الاستعلاء. فقوله: "استدعاء الفعل" أي: طلبه، خرج به النهي؛ لأنه: استدعاء الترك.
2 وهو تعريف أبي بكر الباقلاني، واختاره إمام الحرمين والغزالي وأكثر الأشاعرة.
انظر: البرهان "1/ 203" والمستصفى "3/ 119".
وهو فاسد؛ إذ تتوقف معرفة المأمور على معرفة الأمر، والحد ينبغي أن يعرف المحدود، فيفضي إلى الدور1.
وللأمر صيغة مبينة فتدل بمجردها على كونها أمرًا إذا تعرت عن القرائن وهي: "افعل" للحاضر، "وليفعل" للغائب. هذا قول الجمهور2.
وزعمت فرقة من المبتدعة: أنه لا صيغة للأمر، بناء على خيالهم: أن الكلام معنى قائم بالنفس3.
1 وضح الطوفي هذا الدور في شرحه "2/ 348-349" فقال: "هذا التعريف دوري، يلزم منه الدور؛ لأنه تعريف للأمر بالمأمور، والمأمور به، المتوقف معرفتهما على الأمر، فصار تعريفًا للأمر بنفسه، بواسطة المأمور والمأمور به وهذا -كما سبق- في تعريف العلم بمعرفة المعلوم".
2 معناه: أن للأمر صيغة موضوعة له، تدل عليه حقيقة، كدلالة سائر الألفاظ الحقيقية على موضوعاتها. "شرح الطوفي 2/ 353-354".
3 أي: أن القائلين بأن الأمر لا صيغة له، بنوا ذلك على إثبات الكلام القائم بالنفس، فإنه معنى لا صيغة له.
قال الآمدي: "وقد اختلف القائلون بكلام النفس: هل الأمر صيغة تخصه وتدل على دون غيره في اللغة أم لا؟ فذهب الشيخ أبو الحسن رحمه الله، ومن تابعه إلى النفي، وذهب ممن عداهم إلى الإثبات" الإحكام "2/ 12".
قال الطوفي: "قلت قول الأشعري: ليس للأمر النفسي صيغة تدل عليه مع قوله: إن القرآن صيغ وعبارات مخلوقة؛ تدل على كلام الله عز وجل القائم بنفسه، تناقص.
والأشهر عنه: أن للكلام والأمر صيغًا تدل على معناه، فلعل ما حكاه الآمدي عنه، قول مرجوع عنه، أن أن المراد به غير ما ظهر لي، والله سبحانه وتعالى أعلم" شرح مختصر الروضة "2/ 354".
وقد رد المصنف على من قال: إنه لا صيغة للأمر بأنهم خالفوا الكتاب والسنة وأهل اللغة والعرف -كما سيأتي-.
فخالفوا الكتاب والسنة وأهل اللغة والعرف:
أما الكتاب:
فإن الله -تعالى- قال لزكريا: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا، فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} 1. فلم يسم إشارته إليهم كلامًا.
وقال لمريم: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} 2. فالحجة فيه مثل الحجة في الأول.
وأما السنة:
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الله عفا لأمتى عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به"3.
وقال لمعاذ: "أمسك عليك لسانك" قال: وإنا لمؤاخذون بما نقول؟ قال: "ثكلتك أمك وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"4.
1 سورة مريم الآيتان: 10، 11 فلم يسم إشارته كلامًا، مع أنها تعبير عما في النفس.
2 سورة مريم الآية: 26.
3 حديث صحيح: رواه البخاري: كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكر أو الجنون من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، كما رواه مسلم: كتاب الإيمان، باب: تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، وأبو داود: كتاب الطلاق، باب في الوسوسة بالطلاق، وأحمد في مسنده "2/ 398-425، 474".
4 أخرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، كلهم من رواية أبي وائل عن معاذ وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح" كما رواه البيهقي وغيره عن =
وقال: "إذا قال الإمام {وَلا الضَّالِّين} فَقًُولُوا: آمين" 1 ولم يرد بذلك ما في النفس.
وأما أهل اللسان2:
فإنهم اتفقوا -عن آخرهم- على أن الكلام: اسم، وفعل وحرف2.
واتفق الفقهاء -بأجمعهم- على أن من حلف لا يتكلم، فحّدث نفسه بشيء دون أن ينطق بلسانه: لم يحنث، ولو نطق: حنث.
وأهل العرف -كلهم- يسمون الناطق: متكلمًا، ومن عداه: ساكتًا، أو أخرس3.
= ميمون بن أبي شيبة عن معاذ، كما في الترغيب والترهيب "5/ 165" طبعة دار الفكر، بيروت.
1 رواه مالك: كتاب النداء، باب ما جاء في التأمين خلف الإمام. الموطأ "1/ 87" والبخاري: كتاب الأذان، باب جهر المأموم بالتأمين، وباب جهر الإمام بالتأمين، ومسلم: كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين، وأبو داود: كتاب الصلاة، باب التأمين وراء الإمام، والنسائي، كتاب افتتاح الصلاة، باب جهر الإمام بآمين، وباب الأمر بالتأمين خلف الإمام، وابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة، باب الجهر بآمين، وأحمد في المسند "2/ 233، 238، 270، 449، 450".
2 معناه: أن من قال: إن الكلام معنى قائم في النفس قد خالف أهل اللغة واللسان العربي؛ فإنهم قسموا الكلام إلى اسم وفعل وحرف، وما في النفس ليس واحدًا منها، فإنهم هم الحجة في هذا المقام.
3 أي: أن من قال بالكلام النفسي فقد خالف إجماع الفقهاء، فإن من حلف أن لا يتكلم، ثم حدثته نفسه بأشياء لم ينطق بها لا يحنث، بخلاف ما لو نطق، فإنه يحنث وتجب عليه الكفارة.
ومن خالف كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الناس كلهم -على اختلاف طبقاتهم- فلا يعتد بخلافه.
فأما الدليل على أن هذه صيغة الأمر: فاتفاق أهل اللسان على تسمية هذه الصيغة أمرًا.
ولو قال رجل لعبده: "اسقني ماء" عُدَّ آمرًا، وعُدَّ العبد مطيعًا بالامتثال، عاصيا بالترك، مستحقا للأدب والعقوبة.
[معاني صيغة الأمر]
فإن قيل: هذه الصيغة مشتركة بين:
الإيجاب كقوله-تعالى-: {أَقِمِ الصَّلاةَ} 1.
والندب كقوله-تعالى-: {فَكَاتِبُوهُمْ....} 2.
والإباحة كقوله-تعالى-: {فَاصْطَادُوا
…
} 3.
والإكرام كقوله-تعالى-: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} 4.
والإهانة كقوله- تعالى-: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} 5.
والتهديد كقوله-تعالى-: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ.....} 6.
1 سورة الإسراء من الآية: 78.
2 سورة النور من الآية: 33.
3 سورة المائدة من الآية: 2.
4 سورة الحجر من الآية: 46.
5 سورة الدخان الآية: 49.
6 سورة فصلت من الآية: 40.
والتعجيز كقوله -تعالى-: {كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} 1.
والتسخير كقوله -تعالى-: {كُونُوا قِرَدَةً} 2.
والتسوية كقوله -تعالى-: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} 3.
والدعاء -كقوله-: "اللهم اغفر لي"4.
والخبر كقوله -تعالى-: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} 6.
والتمني كقول الشاعر:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي7.
فالتعيين يكون تحكمًا.
1 سورة الإسراء الآية: 50.
2 سورة البقرة من الآية: 65.
3 سورة الطور من الآية: 16.
4 هذا مجرد تمثيل، وإلا فالوارد في القرآن الكريم بلفظ:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي} [الأعراف: 151]{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [إبراهيم: 41]{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} [نوح: 28] .
5 سورة مريم من الآية: 38.
6 حديث صحيح: أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، وفي الأدب المفرد باب: إذا لم تستح فاصنع ما شئت، من حديث أبي مسعود البدري، وأبو داود: في الأدب، باب في الحياء، وابن ماجه في الزهد، باب الحياء.
كما أخرجه من حديث حذيفة: أحمد في المسند "5/ 383" وأبو نعيم في الحلية "4/ 371" والخطيب في تأريخ بغداد "12/ 135".
7 الشاعر: هو امرؤ القيس. تقدمت ترجمته. وهذا صدر بيت من قصيدته المشهورة من المعلقات العشر.
قلنا: هذا لا يصح لوجهين:
أحدهما: مخالفة أهل اللسان؛ فإنهم جعلوا هذه الصيغة أمرًا، وفرقوا بين "الأمر" و"النهي" فقالوا: باب الأمر: "افعل"، وباب النهي:"لا تفعل"، كما ميزوا بين الماضي والمستقبل.
وهذا أمر نعلمه بالضرورة من كل لسان: من العربية، والعجمية، والتركية، وسائر اللغات، لا يشككنا فيه إطلاق مع قرينة التهديد ونحوه في نوادر الأحوال.
الثاني: أن هذا يفضي إلى سلب فائدة كبيرة من الكلام، وإخلاء الوضع عن كثير من الفائدة.
وفي الجملة: كالاشتراك على خلاف الأصل؛ لأنه يخل بفائدة الوضع، وهو: الفهم.
والصحيح: أن هذه صيغة الأمر، ثم تستعمل في غيره مجازًا مع
= وعجز البيت:
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
وروي:
وما الإصباح فيك بأمثل
ومعنى البيت: أن الشاعر يشكو من طول ليله، لأن ليل المحب كأنه مستحيل الانجلاء، ولذلك حمله الشاعر على التمني، بخلاف الرجاء، فإنه يكون في الممكنات.
انظر: ديوان امرئ القيس ص8 الطبعة الثانية بدار المعارف بمصر.
وهناك معان أخر لصيغة الأمر، أوصلها بعضهم إلى أكثر من ثلاثين معنى.
انظر: أصول السرخسي "1/ 14"، المعتمد "1/ 49"، المحصول "جـ1 ق2 ص57 مختصر الطوفي ص84، شرح الكوكب المنير "3/ 17 وما بعدها".