الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: [في التكليف بغير الممكن]
ويجوز الأمر من الله -سبحانه- لما في معلومه أن المكلف لا يتمكن من فعله.
وعند المعتزلة: لا يجوز ذلك إلا أن يكون تعلقه بشرط تحققه مجهولا عند الآمر، أما إذا كان معلوما أنه لا يتحقق الشرط، فلا يصح الأمر به؛ لأن الأمر طلب، فكيف يطلب الحكيم ما يعلم امتناعه؟
وكيف يقول السيد لعبده: خط ثوبي إن صعدت السماء؟
وبهذا يفارق أمر الجاهل؛ لأن من لا يعرف عجز غيره عن القيام: يتصور أن يطلبه منه.
أما إذا علم امتناعه: فلا يكون طالبًا، وإذا لم يكن طالبًا: لم يكن آمرا. ولأن إثبات الأمر بشرط يفضي إلى أن يكون وجود الشيء مشروطًا بما يوجد بعده، والشرط ينبغي أن يقارن، أو يتقدم أما أن يتأخر عن المشروط، فمحال.
وهذه المسألة تنبني على النسخ قبل التمكن، وأن فيه فائدة، على ما مضى1.
1 حاصل هذه المسألة: أن الآمر والمأمور إما أن يكونا عالمين بانتفاء شرط التكليف، أو جاهلين به، أو أحدهما عالم به والآخر جاهل به. فالقسمة العقلية رباعية.
فإن كانا عالمين بانتفاء التكليف، فلا يصح التكليف؛ لانتفاء فائدته في حق المكلف.
وإن كانا جاهلين بانتفائه، فيصح، لحصول فائدته في حق المكلف، وصحة =
ولنا:
الإجماع على أن الصبي إذا بلغ يجب عليه أن يعلم ويعتقد أنه مأمور بشرائع الإسلام، منهي عن الزنا والسرقة، ويثاب على امتثال المأمورات، وترك المنهيات، ويكون متقربًا بذلك وإن لم يحضر وقت عبادة، ولا يتمكن1 من زنا ولا سرقة.
وعلمه بأن الله -تعالى- عالم بعاقبة الأمر: لا ينفي عنه ذلك.
وإن احتمل أن لا يكون مأمورا منهيًّا، لعدم مساعدة التمكن يجب أن يشك في كونه مأمورًا منهيًّا، وفي كونه متقربًا؛ إذ لا خلاف في أن العزم على امتثال ما ليس بمأمور، وترك ما ليس بمنهي ليس بقربة، وهذا لا يتيقن أنه مأمور ولا متقرب وهذا خلاف الإجماع.
ودليل ثان:
الإجماع على أن صلاة الفرض لا تصح إلا بنية الفرضية، ولا تقبل نية الفرضية، إلا بعد معرفة الفرضية والعبد ينوي في أول الوقت فرض الظهر، وربما مات في أثنائها، فتبين -عندهم2- أنها لم تكن فرضًا،
= الطلب من الآمر، إذ ما يعلم انتفاء شرطه لا يصح طلبه ممن يجوز جهله به.
أما إذا كان الآمر عالمًا به دون المأمور: فيصح إذا كان المأمور عالمًا به دون المأمور: فيصح إذا كان الآمر هو الله تعالى؛ لابتلاء المكلف واختباره، بخلاف العكس: وهو ما إذا كان المأمور عالمًا به دون الآمر، فلا يصح؛ لانتفاء فائدته من جهة المكلف، وعدم صحة طلبه من الآمر، لجهله به.
والمسألة مفرعة على مسألة: النسخ قبل التمكن من الامتثال، وقد تقدم ما فيها.
انظر: شرح مختصر الطوفي "2/ 423-424".
1 في الأصل "لا يمكن" ولا يستقيم المعنى بذلك.
2 أي: عند المعتزلة.
فليكن شاكًّا في الفرضية، فتمتنع النية لأنها لا تتوجه إلا إلى معلوم.
فإن قيل: فإذا مات في أثنائها كيف يقال: إن الأربع كانت فريضة على الميت؟
قلنا: هو قاطع بأنها فرض عليه، لكن بشرط البقاء، والأمر بشرط أمر في الحال، وليس بمعلق من عزم عليه يثاب ثواب العزم على الواجبات؛ فإن قول السيد لعبده:"صم غدًا" أمر في الحال بصوم الغد، لا أنه أمر في الغد.
ولو قال: "فرضت عليك بشرط بقائك": فهو فارض في الحال، لكن بشرط.
ولو قال لوكيله: "بع داري في رأس الشهر": كان وكيلًا في الحال، يصح أن يقال: وكّله، ويصح عزله.
وإذا قال: وكّلني، وعزلني: كان صادقًا، فإن مات قبل رأس الشهر لم يتبين كذبه.
بخلاف ما إذا قال: "إذا جاء رأس الشهر فأنت وكيلي"، فإنه لا يكون وكيلًا في الحال.
الثالث: الإجماع على لزوم الشروع في صوم رمضان، فإن كان الموت يتبين به عدم الأمر، والموت مجوّز1، فيصير مشكوكًا فيه، فكيف تلزمه العبادة؟.
قالوا2: لأن الظاهر بقاؤه، والحاصل يستصحب، والاستصحاب أصل تنبني عليه الأمور، كما أن من أقبل عليه سبع: لم يقبح الهرب، وإن
1 أي: جائز.
2 أي: المعتزلة.
كان من المحتمل موت السبع دونه، ولو فتح هذا الباب: لم يتصور امتثال أمر.
قلنا: هذا يلزمكم، ومذهبكم يفضي إليه، وما أفضي إلى المحال محال1.
وأما الهرب: فحزم، وأخذ بالأسوأ من الأحوال، ويكفي فيه الاحتمال البعيد والشك، فإن من شك في سبع في الطريق، أو لص: حسن منه الاحتراز عنه.
وأما الوجوب: فلا يثبت بالشك والاحتمال، بل ينبغي أن من أعرض عن الصوم لم يكن عاصيًا؛ لأنه أخذ بالاحتمال الآخر.
وقولهم2: "الأمر طلب، وطلب المستحيل من الحكيم محال".
قلنا: الأمر إنما هو قول الأعلى لمن دونه: "افعل" مع تجردها عن القرائن، وهذا متصور مع علمه بالاستحالة3.
وعلى أنا لو سلمنا أن الأمر طلب، فليس الطلب من الله -تعالى- كالطلب من الآدميين؛ وإنما هو استدعاء فعل لمصلحة العبد، وهذا يحصل مع الاستحالة؛ لكي يكون توطئة للنفس على عزم الامتثال، أو الترك؛ لطفًا به في الاستعداد، والانحراف عن الفساد، وهذا متصور.
ويتصور من السيد -أيضًا- أن يستصلح عبده بأوامر ينجزها عليه،
1 خلاصة رد المصنف على المعتزلة: أن هذا يلزمكم، حيث قلتم: إن الظاهر بقاؤه، ونحن نقول بلزوم الشروع في نحو صوم رمضان، فما كان جوابًا لكم، فهو جواب لنا أيضًا.
2 أي: قول المعتزلة.
3 وتكون الحكمة: هي اختبار المأمور، هل سيأخذ في الأسباب أو لا؟ فيكون ذلك دليلًا على الامتثال أو المخالفة.