الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعريف بالإمام ابن قدامة
تمهيد:
الإمام ابن قدامة علم من أعلام الفكر الإسلامي، وله من الآثار العلمية ما يشهد بفضله ومكانته العلمية، الأمر الذي جعل العلماء يكتبون عن حياته من نواحيها المختلفة، حتى سجلت فيه بعض الرسائل العلمية1.
فأرى أن الكتابة عن حياته هنا من فضول القول.
وسوف أكتفي هنا بالإشارة السريعة إلى تاريخ حياته، تمهيدًا للحديث عن منهجه في كتابه:"روضة الناظر وجنة المناظر".
1 راجع في ترجمته: معجم البلدان "2/ 113-114" مرآة الزمان "8/ 627-630" ذيل الروضتين ص139، والعبر "5/ 79"، دول الإسلام "2/ 93" فوات الوفيات "1/ 443-434"، البداية والنهاية "13/ 99-101"، الذيل لابن رجب "2/ 133-149"، شذرات الذهب "5/ 88-92"، سير أعلام النبلاء "22/ 165-173"، ابن قدامة وآثاره الأصولية للدكتور: عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عثمان السعيد الجزء الأول، مقدمة روضة الناظر وجنة المناظر للدكتور عبد الكريم بن علي بن محمد النملة جـ1 ص7-28، مقدمة "المغني" لابن قدامة بقلم الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي والدكتور عبد الفتاح محمد الحلو جـ1 ص5-56.
1-
اسمه ونسبه ونشأته:
هو: أبو محمد، موفق الدين: عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر بن عبد الله بن حذيفة بن محمد بن يعقوب بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن محمد بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه المقدسي، ثم الدمشقي الصالحي.
فأسرته -رحمه الله تعالى- أسرة عريقة، يتصل نسبها إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ولد رحمه الله في شهر شعبان من عام 541هـ الموافق 1146م في إحدى قرى نابلس، ثم رحل -بعد ذلك- إلى "دمشق" فحفظ القرآن، وتلقى العلوم على علمائها، وحفظ بعض المتون، ومنها:"مختصر الخرقي" للإمام: عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد، أبو القاسم الخرقي المتوفى سنة "334هـ" وهو مختصر في فقه الإمام أحمد بن حنبل، وهو الذي شرحه ابن قدامة -فيما بعد- وسماه "المغني".
وفي عام 561هـ رحل ابن قدامة إلى "بغداد" وأخذ العلم عن علمائها، وبعد فترة عاد إلى دمشق، ثم إلى "بغداد" مرة ثانية، ثم إلى "مكة المكرمة" فسمع من علمائها وأفاد منهم كثيرًا في جوار البيت الحرام.
وهكذا كانت حياته الأولى، حل وارتحال، في سبيل طلب العلم، حتى وصل إلى المكانة المرموقة بين العلماء.
قال عنه أبو شامة "
…
كان إمام عصره في علم العربية والنحو واللغة، ولم أتمكن من الإكثار من مجالسته والتعلم منه؛ لكثرة الزحام عليه"1.
1 الذيل على الروضتين ص141.
شيوخه:
إن كثرة رحلاته وتنقله بين دمشق، وبغداد، ومكة، جعل شيوخه كثيرين، والحديث عنهم يطول، وليس هذا مجاله، وسوف نكتفي بذكر بعضهم.
أولًا- شيوخه في دمشق:
1-
والده -رحمه الله تعالى- أحمد بن محمد بن قدامة المتوفى سنة "558هـ".
2-
أبو المعالي: عبد الله بن عبد الرحمن بن أحمد بن علي بن صابر السلمي الدمشقي المتوفى سنة "576هـ".
3-
أبو المكارم: عبد الواحد بن محمد بن المسلّم بن هلال الأزدي الدمشقي المتوفى سنة "565هـ".
ثانيًا- شيوخه في بغداد:
1-
أحمد بن صالح بن شافع الجيلي البغدادي المتوفى سنة "565هـ".
2-
أحمد بن المقرب بن الحسين البغدادي الكرخي المتوفى سنة "563هـ".
ثالثًا- من شيوخه من مكة:
المبارك بن علي البغدادي الحنبلي، المحدث الفقيه، إمام الحنابلة بالحرم الشريف، المتوفى سنة "575هـ"1.
1 انظر في شيوخه: ذيل طبقات الحنابلة "2/ 133 وما بعدها" سير أعلام النبلاء "22/ 166 وما بعدها".
تلاميذه:
وكما كان شيوخ "ابن قدامة" كثيرين، فإن تلاميذه كانوا -أيضًا- كثيرين.
فإذا كانت التلمذة -بالمعني العام- تثبت لكل من تلقى عنه وأفاد منه مباشرة، أو عن طريق مؤلفاته، فإن كان الأجيال المتأخرة عنه تعتبر من تلاميذه، ونحن منهم.
وسوف نقتصر على بعض المشهورين من تلاميذه الذين تلقوا عنه مباشرة. فمنهم:
1-
تقي الدين أبو العباس: أحمد بن محمد بن عبد الغني المقدسي الصالحي، شيخ الحنابلة في عصره، المتوفى سنة "643هـ".
2-
أبو شامة: عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المتوفى سنة "665هـ".
3-
أبو بكر: محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي، قاضي القضاة المعروف بابن العماد المتوفى سنة "676هـ".
4-
أبو الفرج: عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي المتوفى سنة "682هـ".
عقيدته:
كان -رحمه الله تعالى- سلفي العقيدة، يسير على منهج أهل السنة والجماعة، ويكره الخوض في طرق المتكلمين؛ لأنها لا توصل إلى يقين، ويحمل صفات الباري سبحانه وتعالى على ظاهرها، كما جاءت في الكتاب والسنة، دون تكلف ولا تعسف، ولا تشبيه ولا تعطيل، فيثبت ما أثبته الله -تعالى- على وجه لا يعلمه إلا هو سبحانه، عملًا بقوله
تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1.
يدل على ذلك ما ذكره -رحمه الله تعالى- في كتبه في مواضع مختلفة:
فمن ذلك ما جاء في كلامه على قضية المحكم والمتشابه في القرآن الكريم، يقول رحمه الله بعد أن أورد آراء العلماء في المراد من المتشابه: "والصحيح: أن المتشابه: ما ورد في صفات الله -سبحانه- مما يجب الإيمان به، ويحرم التعرض لتأويله، كقوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 3 {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 4 {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} 5 {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 6 ونحوه.
فهذا اتفق السلف رحمهم الله على الإقرار به، وإمراره على وجهه، وترك تأويله؛ فإن الله -سبحانه- ذم المتبعين لتأويله وقرنهم -في الذم- بالذين يبتغون الفتنة وسماهم أهل زيغ7.
يضاف إلى ذلك مؤلفاته في العقيدة، والتي منها:
1-
"ذم التأويل" وهي رسالة مطبوعة ضمن مجموعة رسائل بمطبعة كروستان بمصر عام 1329هـ.
1 سورة الشورى من الآية: 11.
2 سورة طه الآية: 5.
3 سورة المائدة من الآية: 64.
4 سورة "ص" من الآية: 75.
5 سورة الرحمن من الآية: 27.
6 سورة القمر من الآية: 14.
7 انظر: روضة الناظر "1/ 279-280" ط. مكتبة الرشد، تحقيق الدكتور عبد الكريم النملة.
2-
"لمعة الاعتقاد" وهي رسالة في عقيدة أهل السنة، والجماعة، نسبها إليه "بروكلمان" في تاريخ الأدب العربي1.
3-
"رسالة في مسألة العلو" نسبها إليه ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة2، وإسماعيل باشا في هدية العارفين3.
مذهبه الفقهي:
أما مذهبه الفقهي: فمعروف أنه من أئمة فقهاء الحنابلة، ومؤلفاته المتعددة في فقه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- شاهدة على ذلك، ومنها:"المغني" و"المقنع" و"الكافي".
وإذا كان كتابه "المغني" في الأصل موضوعًا على مذهب الإمام أحمد، فإن العلماء -وبالأخص في الأزهر- يعتبرونه مصدرًا مهمًّا من مصادر الفقه المقارن، ويضعونه بجانب كتاب "المجموع" للإمام النووي، و"بداية المجتهد" لابن رشد.
مكانته وثناء العلماء عليه:
أما مكانة "ابن قدامة" فحدّث ولا حرج، فقد شهد له علماء عصره، ومن بعدهم بالفضل والعلم والأخلاق الكريمة، ولا غرو، فهو شريف النسب، حيث يتصل نسبه إلى الخليفة العادل "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه كما تقدم.
قال عنه تلميذه أبو شامة:
"كان إمامًا من أئمة المسلمين، وعَلَمًا من أعلام الدين، في العلم
1 جـ1 ص368.
2 الذيل "2/ 139".
3 جـ1 ص460.
والعمل، صنف كتبًا حسانًا في الفقه، وغيره، عارفًا بمعاني الآثار والأخبار"1.
وقال عنه الصفدي:
".... كان أوحد زمانه، إمامًا في علم الفقه، والأصول، والخلاف، والفرائض، والنحو، والحساب، والنجوم السيارة والمنازل"2.
وقال عنه ابن الجوزي:
"كان إمامًا في فنون، ولم يكن في زمانه بعد أخيه "أبي عمر" أزهد منه، وكان معرضًا عن الدنيا وأهلها، هينًا لينًا متواضعًا، حسن الأخلاق، جوادًا سخيًّا، ومن رآه كأنما رأى بعض الصحابة، وكأن النور يخرج من وجهه"3.
وهذه شهادة تلميذ من تلاميذه الذين عاصروه وعاشروه عن قرب، وهي شهادة عدل فلا يطعن فيها كونه واحدًا من تلاميذه.
وفاته:
وبعد حياة حافلة بالبذل والعطاء ونشر العلم، تدريسًا وتأليفًا، توفي -رحمه الله تعالى- في يوم السبت غرة شوال عام 620هـ الموافق 1223م.
رحمه الله -تعالى- رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، آمين.
1 انظر: الذيل ص140.
2 الوافي بالوفيات "17/ 37".
3 مرآة الزمان "8/ 628".
مؤلفاته:
مؤلفات "ابن قدامة" كثيرة ومتعددة الاتجاهات، منها ما يتعلق بالعقيدة، ومنها ما يتعلق بالقرآن والسنة، ومنها ما يتعلق بالفقه وأصوله، ومنها ما يتعلق بالآداب وفضائل الصحابة رضي الله عنهم ومنها ما يتعلق بالتاريخ والأنساب، إلى غير ذلك من الفنون التي برز فيها "ابن قدامة" وألّف فيها الموسوعات والرسائل، التي أفاد منها طلاب العلم في شتى المعارف المختلفة.
وهذه هي المؤلفات التي وقفت عليها، والتي أوردها فضيلة الدكتور عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عثمان السعيد -يحفظه الله- في دراسته الضافية عن "ابن قدامة وآثاره الأصولية".
أولًا- في العقيدة:
1-
الاعتقاد.
2-
ذم التأويل.
3-
رسالة إلى الشيخ فخر الدين ابن تيمية في تخليد أهل البدع في النار.
4-
لمعة الاعتقاد، وهي رسالة في عقيدة أهل السنة والجماعة.
5-
رسالة في مسألة العلو.
6-
مسألة في تحريم النظر في كتب أهل الكتاب.
7-
كتاب القدر.
ثانيًا- في أصول الفقه:
لم أجد -فيما اطلعت عليه- أن له في الأصول سوى "روضة الناظر وجنة المناظر" والذي سوف نتحدث عن منهج المصنف فيه إن شاء الله تعالى.
ثالثًا- في الفقه:
أما مؤلفات "ابن قدامة" في الفقه، فكثيرة جدًّا، منها ما وقفنا عليه:
1-
المغني في شرح مختصر الخرقي.
2 -
المقنع.
3 -
الكافي.
4 -
عمدة الأحكام.
5 -
مختصر الهداية لأبي الخطاب.
6 -
رسالة في المذاهب الأربعة.
7 -
فقه الإمام.
8 -
فتاوى ومسائل منثورة.
9 -
مقدمة في الفرائض.
10-
مناسك الحج.
رابعًا- في الكتاب والسنّة:
1-
البرهان في مسألة القرآن.
2-
قنعة الأريب في الغريب.
3-
مختصر علل الحديث؛ لأبي بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال المتوفى سنة "311هـ".
4-
مختصر في غريب الحديث.
5-
جواب مسألة وردت من صرخد في القرآن.
خامسًا- في الفضائل والأخلاق:
1-
فضائل الصحابة.
2-
فضائل العشرة المبشرين بالجنة.
3-
فضائل عاشوراء.
4-
كتاب التوابين.
5-
كتاب الرقة والبكاء.
6-
كتاب الزهد.
7-
ذم الوسواس.
8-
كتاب المتحابين في الله.
سادسًا- في التاريخ والأنساب:
1-
الاستبصار في نسب الأنصار.
2-
التبيين في نسب القرشيين.
3-
مشيخة شيوخه.
4-
مشيخة أخرى.
هذا بالإضافة إلى رسائل أخرى في موضوعات متفرقة1.
1 يراجع في مؤلفاته: تاريخ الأدب العربي لبروكلمان، سير أعلام النبلاء، ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب، فوات الوفيات لابن شاكر، الوافي بالوفيات للصفدي، مرآة الزمان لابن الجوزي، معجم البلدان لياقوت الحموي، شذرات الذهب لابن العماد، ابن قدامة وآثاره الأصولية للدكتور عبد العزيز بن عبد الرحمن السعيد، مقدمة روضة الناظر، تحقيق الدكتور عبد الكريم النملة.
منهج ابن قدامة:
في كتابه: روضة الناظر وجنة المناظر
1-
من المعروف أن "ابن قدامة" حنبلي المذهب، والحنابلة -بصفة عامة- يسيرون على منهج المتكلمين الذي يعنون بتأسيس القواعد وإقامة الأدلة عليها.
والمؤلف سلك نفس المسلك، فيذكر مذاهب العلماء في المسألة مقرونة بأدلتها، ثم يذكر ما يراه راجحًا، مؤيدًا بالبرهان والدليل، ثم يناقش أدلة المخالفين ويبين وجه الخطأ فيما قالوه.
وقد بين -رحمه الله تعالى- منهجه هذا في مقدمة كتابه فقال:
"أما بعد: فهذا كتاب نذكر فيه أصول الفقه، والاختلاف فيه، ودليل كل قول، على وجه الاختصار، والاقتصار من كل قول على المختار، ونبين من ذلك ما نرتضيه، ونجيب على من خالفنا فيه".
فهو بذلك يريد أن يجعل كتابه في "أصول الفقه المقارن" كما فعل ذلك في كتابه "المغني" في الفقه، فهو موضوع أساسًا على مذهب الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- لكنه أضاف إليه أقوال بعض المذاهب الأخرى، مقرونة -أحيانا- بأدلتها، ثم يناقش هذه الأدلة ويبين الراجح في النهاية بقوله:"ولنا".
ولذلك يعتبره العلماء من أهم المراجع في الفقه المقارن.
2-
والمؤلف سلك في كتابه "الروضة" مسلك الإمام الغزالي في كتاب "المستصفى من علم الأصول" في الجملة، حتى إنه تبعه في إضافة المقدمة المنطقية إلى كتابه، والتي كانت مثار انتقاد له من بعض العلماء، حتى قيل: إنه حذفها فيما بعد من بعض النسخ.
كما تبعه في ترتيب أدلة الأحكام، فجعلها على هذا النحو: كتاب الله -تعالى-، ثم سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم الإجماع، ثم دليل العقل المبقي على النفي الأصلي، ثم في الأدلة المختلف فيها، وأخر القياس وجعله في باب: ما يقتبس من الألفاظ، مخالفًا ما عليه جمهور العلماء من المذاهب الأربعة، حيث يجعلون القياس من الأدلة الأربعة المتفق عليها: الكتاب، السنة، الإجماع، القياس.
جاء في شرح الكوكب المنير1: "أدلة الفقه المتفق عليها -على ما في بعضها من خلاف ضعيف جدًّا- أربعة:
الأول: الكتاب، وهو القرآن، وهو الأصل.
والثاني: السنة..... وهي مخبرة عن حكم الله تعالى.
والثالث: الإجماع..... وهو مستند إلى الكتاب والسنّة.
والرابع: القياس على الصحيح، وعليه جماهير العلماء.
وقال أبو المعالي وجمع: ليس القياس من الأصول، وتعلقوا بأنه لا يفيد إلا الظن.
قال في شرح التحرير: والحق هو الأول، والثاني ضعيف جدًّا، فإن القياس قد يفيد القطع -كما سيأتي- وإن قلنا: لا يفيد إلا الظن فخبر الواحد ونحوه لا يفيد الظن.
1 الجزء الثاني ص5، 6.
وهو: أي القياس مستنبط من الثلاثة: التي هي الكتاب والسنة والإجماع".
و"ابن قدامة" وإن كان قد سار على منهج "الغزالي" إلا أنه قد خالفه في بعض المسائل، وفي ترتيب الفصول، وتقديم بعض المباحث وتأخير البعض، كما أنه امتاز عن "المستصفي" بإبراز آراء علماء الحنابلة، كالقاضي أبي يعلى المتوفى سنة "458هـ"، وأبي حامد: الحسن بن حامد بن علي البغدادي المتوفى "403هـ" والتميمي: عبد العزيز بن الحارث بن أسد المتوفى سنة "371هـ"، وعبد العزيز بن جعفر بن أحمد الحنبلي، المعروف بغلام الخلال المتوفى سنة "363هـ"، وعلي بن عقيل بن محمد "ابن عقيل الحنبلي" المتوفى سنة "513هـ"، ومحفوظ بن أحمد بن الحسن أبو الخطاب الحنبلي المتوفى سنة "510هـ" وغيرهم من علماء المذهب، فضلًا عن النقل عن إمامهم جميعًا: الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-.
3-
ولما كان الغرض من الكتاب الاختصار والاقتصار على ما هو الراجح -غالبًا- كما جاء في مقدمة الكتاب، فإن المصنف كثيرًا ما يحيل على المسائل المتقدمة التي تشبه المسألة التي يعالجها، ومن أمثلة ذلك:
قوله في باب النهي: "اعلم أن ما ذكرناه من الأوامر، تتضح به أحكام النواهي؛ إذ لكل مسألة من الأوامر وزان من النواهي، وعلى العكس، فلا حاجة إلى التكرار إلا في اليسير"1 كما أنه -أحيانًا- يضطر إلى إضافة بعض الأشياء في نهاية المسألة، حتى لا تخفى على القارئ بسب الاختصار الذي يختصره من كلام الغزالي.
ففي مسألة الأفعال والأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع بحكمها
انظر: الروضة "2/ 652" تحقيق الدكتور عبد الكريم النملة.
ينقل كلام الإمام الغزالي -باختصار شديد- ثم يقول في ختام المسألة:
"
…
العقل لا دخل له في الحظر والإباحة..... وإنما تثبت الأحكام بالسمع.
وقد دل السمع على الإباحة على العموم بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} 1 وبقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} 2 وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ....} 3 وبقوله {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا
…
} 4 ونحو ذلك.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "..... وما سكت عنه، فهو مما عفا عنه""5".
4-
كما أن منهجه: أن يوضح حقيقة الخلاف والآراء المنسوبة إلى المذاهب، فقد ينقل الغزالي عن الحنابلة رأيًا معينًا، بينما يكون في المسألة روايات أخرى لم يذكرها، فيوضح ابن قدامة ذلك، ويبين الرواية الراجحة والمرجوحة، ومن أمثلة ذلك: ما جاء في "مسألة الفرض والواجب" وهل هما بمعنى واحد أو مختلفان؟
يقول الغزالي: "فإن قيل: هل من فرق بين الواجب والفرض؟ قلنا:
1 سورة البقرة من الآية: 29.
2 سورة الأعراف من الآية: 33.
3 سورة الأنعام من الآية: 151.
4 سورة الانعام من الآية: 145.
5 رواه الترمذي في سننه "1726" وابن ماجه "3367" والحاكم في المستدرك "4/ 115" والبيهقي "9/ 320" عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" والمراد بالفراء: حمار الوحش، أو الذي يلبس، وسيأتي الكلام على سند الحديث وما فيه في مسألة: حكم الأشياء قبل ورود الشرع.
لا فرق -عندنا- بينهما، بل هما من الألفاظ المترادفة، كالحتم واللازم وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله اصطلحوا على تخصيص اسم "الفرض" بما يقطع بوجوبه، وتخصيص اسم "الواجب" بما لا يدرك إلا ظنًا"1.
أما ابن قدامة فيقول: "والفرض هو الواجب -على إحدى الروايتين- لاستواء حدهما، وهو قول الشافعي.
والثانية: الفرض آكد...."2.
فابن قدامة أظهر أن في مذهب الحنابلة روايتين، وقوى الرواية التي توافق مذهب الحنفية من كون الفرض آكد من الواجب، ودلل على ذلك من نصوص علماء اللغة، ثم توصل في النهاية إلى أن الخلاف مبني على الاصطلاح، وهو أمر لا مشاحة فيه.
ولذلك قال في نهاية المسألة: "ولا خلاف في انقسام الواجب إلى مقطوع ومظنون، ولا حجر في الاصطلاحات بعد فهم المعنى".
5-
كذلك من منهجه: أنه -غالبًا- ما يبدأ المسألة بذكر المذهب الذي يراه راجحًا، ثم يتبعه برأي المخالفين وأدلتهم، ثم يناقشها، ثم يختم ببيان الأدلة التي تؤيد ما يرجحه، وغالبًا ما ينوع الأدلة التي يوردها مستندًا إلى كلام أهل اللغة، ثم إلى القرآن والسنّة والإجماع والقياس، إن وجد ذلك، وهو في ذلك كله لا يستهين بالرأي المخالف، حتى ولو كان ضعيفًا أو ظاهر البطلان، ولذلك ينقل عن المعتزلة، وأهل الظاهرة، والشيعة، حتى اليهود عنهم، كما جاء في باب النسخ.
وهذا -في الواقع- منهج علمي سليم، يقوم على الحجة والبرهان،
1 المستصفى "1/ 212-213" تحقيق الدكتور حمزة حافظ.
2 الروضة "1/ 151-152" تحقيق الدكتور عبد الكريم النملة.
حتى يكون المسلم على بينة من أمره، ولا ينخدع بما يزينه المخالفون لمنهج الإسلام، والطعن على أحكامه بأساليب مختلفة.
قيمة الكتاب العلمية ومزاياه:
أ- مما لا شك فيه أن كتاب "روضة الناظر" من أهم الكتب التي ألفت في علم الأصول -بصفة عامة- وفي مذهب الحنابلة -بصفة خاصة- فما من بحث أو كتاب في علم الأصول -من الكتاب المتأخرة عن "ابن قدامة"- إلا وتجده واحدًا من مصادره التي يعتمد عليها ومن أمثلة ذلك:
1-
فقد جعله الإمام القرافي المتوفى سنة "684هـ" من مصادره في شرحه لكتاب "المحصول" للإمام فخر الدين الرازي المتوفى سنة "606هـ" والمسمى "نفائس الأصول".
2-
كما نص الإمام بدر الدين الزركشي المتوفى سنة "794هـ" في مقدمة كتابه "البحر المحيط" على أن كتاب "روضة الناظر" من المؤلفات التي اعتمد عليها في كتابه.
3-
كذلك الإمام: محمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي المتوفى سنة "972هـ" جعله واحدًا من أهم الكتب التي رجع إليها ونقل منها.
وغير هؤلاء كثير ممن يطول الكلام عنهم.
ب- كذلك من المزايا التي تميز بها الإمام ابن قدامة: أنه ليس مجرد ناقل، وإنما له فكره المستقل، ورأيه المستنير الذي لا يرى حجية المسألة تابعة لرأي شخص معين، مهما كانت منزلته، وإنما يعتمد في أقواله وترجيحاته على الدليل الذي لم يتطرق إليه أي احتمال.
1 طبع مؤخرًا ونشر في المكتبة التجارية بمكة المكرمة.
ولذلك نراه يشتد في مناقشته للإمام الغزالي، ويصف رأيه بأنه خارج عن الإجماع، أو الكتاب في مسألة: إصابة كل مجتهد، أو أن المجتهد يخطئ ويصيب.
قال -رحمه الله تعالى-:
"وزعم بعض من يرى تصويب كل مجتهد: أن دليل هذه المسألة قطعي، وفرض الكلام في مسألتين:
أحدهما: مسألة فيها نص فينظر: فإن كان مقدورًا عليه، فقصّر المجتهد في طلبه، فهو مخطئ آثم لتقصيره، وإن لم يكن مقدورًا عليه، لبعد المسافة، وتأخير المبالغة، فليس بحكم في حقه...." إلى أن قال:"وزعم أن هذا تقسيم قاطع يرفع الخلاف من كل منصف"1.
ويقصد بذلك الإمام الغزالي.
والذي يدل على ذلك ما جاء في المستصفى: ".... والمختار عندنا وهو الذي نقطع به، ونخطّئ المخالف فيه: أن كل مجتهد في الظنيات مصيب، وأنها ليس فيها حكم معين لله -تعالى-"2 ثم فرض المسألة في طرفين، كما قال ابن قدامة.
وهذا يدل على أن للرجل رأيًا مستقلًّا، وليس مجرد ناقل.
جـ- ومما يدل على أهمية الكتاب العلمية: اهتمام العلماء بشرحه والتعليق عليه، أو اختصاره، فضلا عن كونه الكتاب الأساس في أغلب المؤسسات التعليمية.
1 روضة الناظر مع شرحه نزهة الخاطر العاطر "2/ 415".
2 المستصفى "2/ 363" المطبعة الأميرية بمصر.
ويدل على ذلك ما يلي:
1-
الإمام نجم الدين: سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي المتوفى سنة "716هـ" اختصر كتاب "روضة الناظر" في كتاب سماه "البلبل في أصول الفقه" طبع بمطبعة النور بالرياض عام 1383هـ.
ثم قام بشرح هذا المختصر شرحًا وافيًا، أضاف إليه أمورًا كثيرة من اجتهاداته، ومن أقول العلماء الآخرين، مما جعل لهذا الشرح أهمية بالغة.
وقد حقق هذا الشرح معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي -يحفظه الله- ونشر بمكتبة مؤسسة الرسالة.
2-
قام بشرح الكتاب والتعليق عليه الشيخ عبد القادر بن أحمد بن مصطفى بدران الدمشقي المتوفى سنة "1346هـ-1920م" وسماه "نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر".
وهو ليس شرحًا بالمعنى المعروف، لكنها تعليقات على بعض المسائل التي يصعب فهمها على المبتدئ في علم الأصول، وأغلبها منقول حرفيًّا من شرح الطوفي آنف الذكر.
وقد نبه -رحمه الله تعالى- على ذلك في أول الكتاب فقال: ".... وأخذت بكتابة تعليقات عليه، تقرب ما نأى من المطالب، وتفتح باب تلك الروضة لكل طالب، وتُهديه من ثمراتها، بلا ثمن، وتحرير مسائله تحرير ممارس مؤتمن، مع ترك الواضح منه، وصرف الهمة إلى ما أشكل"1.
3-
وقد سلك مسلك "ابن بدران" في التعليق على ما أشكل من
انظر: نزهة الخاطر العاطر "1/ 10" طبعة المعارف بالرياض.
الكتاب الشيخ محمد الأمين بن المختار الشنقيطي المتوفى سنة "1393هـ".
والظاهر أنه -رحمه الله تعالى- كان يتولى تدريس مادة "أصول الفقه" لطلبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة إبّان افتتاحها عام 1380هـ وكان الكتاب المقرر هو "روضة الناظر" وأن الطلاب وجدوا صعوبة في فهمه، فوضع هذه التعليقات، وطبعت مستقلة بعنوان "مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر للعلامة ابن قدامة رحمه الله".
4-
قدم فيه الدكتور عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عثمان السعيد -يحفظه الله- دراسة علمية نال بها درجة "الدكتوراه" من كلية الشريعة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، بعنوان "ابن قدامة وآثاره الأصولية" في قسمين:
القسم الأول: خصصه للحديث عن حياة ابن قدامة ونشأته ومراحل تعلّمه، ونسبه الذي أوصله إلى الخليفة العادل "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه ثم تحدث باستفاضة عن آثار هذا الرجل في المذهب الحنبلي بعامة، وفي أصول الفقه ومنهجه فيه بخاصة.
أما القسم الثاني: فقد خصصه لتحقيق كتاب "روضة الناظر" والتعليق عليه.
وهو عمل جليل أظهر مكانة هذا العالم وأهمية كتاب الروضة، الأمر الذي جعل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية تقوم بطبع الكتاب وتوزيعه على طلبة العلم، فجزى الله القائمين عليها خيرًا، وجعل ذلك في صفحات أعمالهم الصالحة.
5-
كما حقق الكتاب وقدم له بدراسة وافية فضيلة الدكتور عبد الكريم بن علي بن محمد النملة، الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن
سعود الإسلامية بالرياض -يحفظه الله- ونشرته مكتبة الرشد بالرياض.
والمطالع في هذه الطبعة يلمس الجهد المشكور الذي بذله المحقق في تصحيح النص ومقابلته على النسخ المخطوطة والمطبوعة للكتاب، مع تخريج شواهد الكتاب على أحدث طرق التحقيق، فجزاه الله عن هذا العمل خير الجزاء، ونفع بعلمه وعمله بقدر إخلاصه لله تعالى.
فهذه الأعمال المختلفة، وتلكم الجهود المتكررة حول كتاب "الروضة" خير شاهد على دعوانا: من أن لهذا الكتاب أهمية خاصة، ومكانة مرموقة بين أهل العلم، عبر العصور المختلفة.
وفي تصوري أن هذه العناية بهذا الكتاب بصفة خاصة، دون غيره من الكتب ترجع إلى إخلاص هذا الرجل في عمله، وأنه ما أراد به إلا وجه الله -تعالى- ورضاه.
ولذلك هيأ الله -تعالى- من يقوم بخدمة الكتاب ونشره بين أبناء العلم.
ما يؤخذ على الكتاب:
العمل البشري -دائمًا- يعتريه القصور، ويرد عليه الخطأ والنسيان وما من عمل يعمله الإنسان، ثم ينظر فيه -بعد ذلك- إلا ويجد نفسه قد قصّر في بعض الأمور، كما قال العماد الأصفهاني:
"إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابًا في يوم إلا قال في غده: لو غيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر".
وكتاب "الروضة" وإن كان يعتبر موسوعة علمية في أصول الفقه،
خاصة في ذكر آراء علماء المذاهب المختلفة، والمقارنة بينها، والاستدلال لكل مذهب، وبيان الراجح منها بالدليل، وإبراز مذهب الحنابلة على وجه الخصوص، إلا أنه يؤخذ عليه ما يلي:
1-
أحيانًا يعنون للشئ ولا يذكره، مثل ما جاء في الحكم وأقسامه.
عنون له بقوله: "حقيقة الحكم وأقسامه..... ثم قال: أقسام أحكام التكليف خمسة: واجب، ومندوب، ومباح، ومكروه، ومحظور
…
".
فلم يذكر شيئًا عن تعريف الحكم لغة واصطلاحًا، ولا عن تقسيمه إلى حكم تكليفي وحكم وضعي إلى آخر ما هو معروف في هذا المجال.
كما أنه عبر بقوله "واجب، ومندوب، ومباح، ومكروه، ومحظور" وهو خلاف ما عليه المحققون من العلماء، من أن خطاب التكليف هو: الإيجاب، والندب، والإباحة، والكراهة، والحرمة.
أما الواجب والمندوب، إلى آخره، فهو فعل المكلف الذي تعلق به الإيجاب أو الندب أو الكراهة أو الحرمة.
والوجوب: هو أثر الخطاب الشرعي، وهو الصفة التي تثبت للفعل.
فهناك فرق بين التعبيرات الثلاثة: الإيجاب، والواجب، والوجوب1.
كما أنه أهمل بعض تقسيمات الواجب، فلم يذكر شيئًا عن الواجب العيني والواجب الكفائي، وما يتعلق بهما من أحكام.
1 راجع: كشف الأسرار "4/ 243" فواتح الرحموت "1/ 128" تيسير التحرير "2/ 148".
2-
أحيانًا لا يصرح بالمذهب ولا بالقائلين به، وإنما كان يكتفي بعبارة:
"فإن قيل" فيستفاد منها المذهب والقائلون به.
وكثيرًا ما يورد هذه العبارة عند ذكر أدلة المخالفين، الأمر الذي يجعل طالب العلم، أو الباحث يرجع إلى أصل الكتاب، وهو "المستصفى" لمعرفة المقصود بهذه العبارة، أو إلى بعض المراجع الأخرى.
والأمثلة على ذلك لا تخفى على من طالع الكتاب.
3-
غالبًا ما تكون عبارة الكتاب غامضة تحتاج إلى شرح وتوضيح.
ومن أسباب هذا الغموض: أن المؤلف -رحمه الله تعالى- كثيرًا ما يختصر عبارة "المستصفى" فيحذف عبارة يتوقف عليها فهم المعنى، فيحصل الغموض.
ومن أمثلة ذلك:
أ- ما جاء في المرتبة الخامسة من مراتب رواية الحديث بالنسبة للصحابة رضي الله عنهم وهي: "أن يقول: "كنا نفعل، أو كانوا يفعلون كذا.... ثم قال: مثل قول ابن عمر رضي الله عنه كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول: أبو بكر، وعمر، وعثمان، فيبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينكره".
وأصل الرواية -كما في المستصفى-: "كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان
…
إلى آخره".
وقال في مثال آخر -في نفس المسألة-: "وقال: -أي: عبد الله بن عمر- كنا نخابر أربعين سنة" وهي في الأصل: كنا نخابر على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده أربعين سنة، حتى روى لنا رافع بن خديج.... الحديث".
ب- في مسألة: إفادة الخبر المتواتر العلم وإن لم يدل عليه دليل آخر، كما هو رأي جمهور العلماء.... حكى رأي "السمنية" في أنهم خالفوا في ذلك وحصروا العلم في الحواس الخمس
…
ثم رد عليهم بقوله: "ولا يستريب عاقل في أن في الدنيا بلدة تسمى بغداد، وبلدة تسمى مكة".
والأصل في المستصفى "ولا يستريب عاقل في أن في الدنيا بلدة تسمى بغداد وإن لم يدخلها".
ومحل الشاهد هنا في عبارة "وإن لم يدخلها" ومعناه: أن العلم بوجود هذه البلدة لم يتوقف على الحواس عن المشاهدة مثلًا، وإلا لكان موافقا للسمنية في حصر العلم على الحواس، فابن قدامة حذف عبارة "وإن لم يدخلها" ووضع مكانها "وبلدة تسمى مكة" فكرر المثال، وحذف محل الشاهد، ومثل ذلك كثير.
4-
أحيانًا يتساهل في نسبة الآراء إلى المذاهب المختلفة، فيقول: يرى الحنفية كذا، بينما هو رأي البعض منهم، أو لا يمثل المذهب.
ومن أمثلة ذلك: ما نقله عن الحنفية في مسألة: تكليف الكفار بفروع الإسلام فقال: "واختلفت الرواية: هل الكفار مخاطبون بفروع الإسلام؟
فروي أنهم لا يخاطبون منها بغير النواهي؛ إذ لا معنى لوجوبها، مع استحالة فعلها في الكفر، وانتفاء قضائها في الإسلام، فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله، وهذا قول أكثر أصحاب الرأي".
وهذا القول مخالف لما في كتب الحنفية أنفسهم، حيث حكموا
على هذا الرأي بالشذوذ، وأن الصحيح عندهم أنهم غير مكلفين مطلقا1.
وهو الذي ذكره الغزالي في المستصفى حيث قال: "مسألة: ليس من شرط الفعل المأمور به أن يكون شرطه حاصلًا حالة الأمر.
بل يتوجه الأمر بالمشروط والشرط، ويكون مأمورًا بتقديم الشرط.
فيجوز أن يخاطب الكفار بفروع الإسلام، كما يخاطب المحدث بالصلاة بشرط تقديم الوضوء، والملحد بتصديق الرسول، بشرط تقديم الإيمان بالمرسل.
وذهب أهل الرأي إلى إنكار ذلك"2.
5-
أحيانًا يورد في المسألة عدة آراء، ويستدل لها، ويترك أهم الآراء فيها فلا يشير إليه.
ومن أمثلة ذلك: ما جاء في مسألة دلالة الأمر المطلق، هل يقتضي التكرار أو لا؟
حكى الآراء المختلفة، واستدل لما رآه راجحًا، وأغفل أهم الآراء، وهو: أنه يدل على مجرد تحصيل الماهية، من غير نظر إلى المرة أو التكرار، وهو الرأي الذي رجحه المحققون من علماء الأصول.
6-
عدم تحريره لمحل النزاع فكثيرًا ما يطلق القول في المسألة، ويحكم عليها حكمًا عامًّا، مع أنه قد يكون هناك محال اتفاق ومحال خلاف وهذا قد يوقع القارئ في خطأ، وبالأخص المبتدئ.
1 راجع: كشف الأسرار "4/ 243"، فواتح الرحموت "1/ 128".
2 انظر: المستصفى "1/ 304" تحقيق الدكتور حمزة حافظ.
7-
وأخيرًا -كما هي عادة أغلب المؤلفين القدامي- لا يذكر عنوانًا لأي مسألة، بل يقول: فصل..... ثم يبدأ مباشرة في نقل الآراء في الموضوع، وهكذا....، بل أحيانًا يجعل المسألة الواحدة في فصلين، فيجعل رأي بعض العلماء فصلا، والبعض الأخر فصلًا مستقلا، الأمر الذي يوهم أنه موضوع مستقل.
ومن أمثلة ذلك: ما جاء في مسألة التعبد بخبر الواحد عقلًا، قال: "فصل: وأنكر قوم جواز التعبد بخبر الواحد عقلا؛ لأنه يحتمل أن يكون كذبًا، والعمل به عمل بالشك، وإقدام على الجهل، فتقبح الحوالة على الجهل
…
" إلى آخر الأدلة التي أوردها لهذا المذهب، ثم بعد أن ناقشها قال: "فصل: وقال أبو الخطاب: العقل يقتضي وجوب قبول خبر الواحد؛ لأمور ثلاثة....".
فمع أن الكلام لا يزال موصولًا بموضوع التعبد بخبر الواحد عقلًا، إلا أنه فصل بين الآراء كما هو واضح.
وأقول:
ومع ذلك كله، فإن قيمة الكتاب العلمية لا ينكرها إلا جاهل أو معاند، وهذه الملحوظات التي أشرت إليها، أغلبها راجع إلى اختلاف المنهج بين المتقدمين والمتأخرين.
فالذي سلكه ابن قدامة لا يعتبر غريبًا ولا شاذًّا بمقتضى العصر الذي عاش فيه وكتب له، فهذه كانت طريقتهم التي ألفوها ودرجوا عليها.
وللعصور المتأخرة طريقتهم ومنهجهم الذي يسلكونه، فلا خلاف في المعنى، وإن اختلفت الطرق والسبل التي توصل إليه.
عملي في الكتاب:
بعد أن شرفت بالعمل في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة أم القرى بمكة المكرمة، زادها الله شرفًا وتعظيمًا، وأسند إلى تدريس مادة "أصول الفقه" من كتاب "الروضة" لمست مدى الصعوبة التي يواجهها الطلاب في فهم الكتاب، بسبب الملاحظات التي أشرت إليها آنفًا.
فكنت أقرأ عبارة الكتاب أكثر من مرة، وأراجعها على "المستصفى" وأسجل الفوارق التي بينهما -إن وجدت- أو أضيف عبارة يكون تمام المعنى متوقفًا عليها، وقبل ذلك أحرر محل النزاع، ثم أدخل المحاضرة وأقول لأبنائي الطلبة: درس اليوم في الموضوع الفلاني، والذي يحتوي على العناصر الآتية.... ثم أشرحها شرحًا وافيًا، ثم أقول لهم: تعالوا نستخرج ذلك من الكتاب، فكان البعض منهم يستغرب ذلك في أول الأمر، ويقول: أين تحرير محل النزاع في الكتاب، ولم يذكره المصنف، فأقول لهم: إن المصنف قد ذكره، لكن بطريق الإشارة، وليس بصريح العبارة.
ومن أمثلة ذلك قوله في باب الأوامر: "الأمر المطلق لا يقتضي التكرار في قول أكثر الفقهاء والمتكلمين".
فقوله: "الأمر المطلق" فيه إشارة إلى أن الأمر المقيد بمرة واحدة، أو مرات لا يدخل تحت موضوع المسألة، فهذا تحرير لمحل النزاع وإن لم يصرح به.
ولما وجدتني أسجل في كل مسألة بعض الملاحظات، أو أضطر إلى توضيح عبارة الكتاب بأسلوب مبسط، استخرت الله -تعالى- في أن يتم ذلك على الكتاب كله -إن شاء الله تعالى- وتمثل ذلك في:
1-
توضيح ما هو غامض من عبارات الكتاب، إما توضيح كلمة
بكلمة، إن كانت لا تحتاج إلى أكثر من ذلك، وإما تلخيص لمجمل كلام المصنف في فصل كامل، أو أدلة لمذهب، بحيث أشير إلى بدايات الأدلة للمذهب الفلاني، وإلى بداية الرد على المذهب المخالف وهكذا، بحيث إذا تعذر على الطالب فهم ما يريده المصنف، وجد في الهامش ما يبين له المراد بأسلوب مبسط.
2-
إضافة الموضوعات التي يتركها المصنف، وهي من لب الموضوع المتحدث عنه، كتعريف الحكم وبيان أقسامه، والفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي، وتقسيم الواجب إلى عيني وكفائي وما أشبه ذلك.
3-
تصحيح النص -على قدر الإمكان- ومراجعته على "المستصفى" فإذا وجدت عبارة حذفها المصنف، والمقام يحتاج إليها أضفتها بين معقوفين وأشرت إلى ذلك في الهامش.
وأحيانًا أصحح العبارة من كتب أخرى، كالعدة لأبي يعلى، والتمهيد لأبي الخطاب، وغيرهما، إلا أن ذلك يكون في الهامش.
5-
خرجت شواهد الكتاب المختلفة، من عزو الآيات القرآنية إلى سورها، وتخريج الأحاديث النبوية والآثار المختلفة، مع الحكم عليها، والتعريف بالأعلام والفرق، ونسبة الأبيات الشعرية إلى قائليها، وإذا كانت هناك مسائل تحتاج إلى زيادة شرح وبسط، أحلت القارئ إلى المصادر التي يمكن الاستفادة منها.
5-
ولما كان..... لا يضع عناوين لموضوعات الكتاب، فإني قد وضعت عناوين لجزئيات المسائل، وذلك لسائر الفصول، إعانة للطالب والباحث على استخراج ما يريده بأيسر الطرق.
وحتى يتضح أن هذه العناوين ليست من عمل المؤلف، وضعتها بين معقوفين، كما هو المتبع في قواعد التأليف والتحقيق.
وقد اعتمدت في نسخ الكتاب على النسخة التي عليها تعليقات الشيخ عبد القادر بن مصطفى بدران، وإذا كان هناك خطأ صححته من نسختي: الدكتور عبد العزيز بن عثمان السعيد، والدكتور عبد الكريم النملة -يحفظهما الله-، أو من المستصفى، وأشرت إلى ذلك في الهامش.
وأسأل الله -تعالى- أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به على قدر إخلاصي فيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا محمد وآله وصحبه وسلم.
شعبان بن محمد إسماعيل
مكة المكرمة، المحرم 1416هـ.