الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويخرج من هذا النائم والساهي؛ فإنه لا يجد على وجه الاستعلاء1.
= فهو باطل بلفظ التهديد، وإن كانت أمرا نظرا لتجردها عن القرائن فهو باطل بكلام النائم
…
" فأجاب عنه الجمهور: بأنا جعلنا صيغة "افعل" أمرا لكونها استدعاء لفعل متجردة على وجه الاستعلاء، لا للإرادة، فإذا جاءت متجردة اكتفينا في الحكم عليها بأنها "أمر" والذي يستعلمها في غير ذلك يحتاج إلى دليل، ويخرج عن هذا النائم والساهي لأنه لا استعلاء في صيغتهما
1 معناه: أن لفظ النائم والساهي بصيغة "افعل" مع أنه ليس أمرا لا يرد علينا؛ لأن انتفاء كونه أمرا ليس لعدم الإرادة، بل لعدم الاستعلاء فيه؛ إذ الاستعلاء لا يتصور من النائم والساهي، لأن الاستعلاء كيفية تصدر عن تصور الأمر واستشعاره أنه أعلى من المأمور، وذلك يستلزم صحة التصور والقصد، وهما ممتنعان في النائم والساهي، ولذلك قلنا: لا يتوجه الخطاب إليهما حال النوم والسهو.
انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 361-362".
فصل: مسألة: الأمر المجرد يدل على الوجوب
…
مسألة: [الأمر المجرد يدل على الوجوب]
إذا ورد الأمر متجردا عن القرائن1: اقتضى الوجوب في قول الفقهاء وبعض المتكلمين.
وقال بعضهم: يقتضى الإباحة لأنها أدنى الدرجات، فهي مستيقنة، فيجب حمله على اليقين2.
1 أشار المصنف بذلك إلى تحرير محل النزاع وهو: ما إذا خلا الأمر عن أي قرينة تدل على أن المراد به الوجوب، أو الندب، أو الإباحة أو التهديد، وكذا سائر المعاني التي سبق ذكرها، فإنه إذا اقترنت به قرينة تدل على معنى حمل عليه بلا خوف.
2 وضحه الطوفي في شرحه: "2/ 366 فقال: "أي: أن الأمر قد استعمل في الوجوب والندب والإباحة، وهي المتيقنة، فليكن الأمر حقيقة فيها، ويقف
وقال بعض المعتزلة: يقتضي الندب؛ لأنه لا بد من تنزيل الأمر على أقل ما يشترك فيه الوجوب والندب وهو: طلب الفعل واقتضاؤه، وأن فعله خير من تركه، وهذا معلوم، أما لزوم العقاب بتركه فغير معلوم، فيتوقف فيه1.
ولأن الأمر طلب، والطلب يدل على حسن المطلوب لا غير، والمندوب حسن، فيصح طلبه، وما زاد على ذلك درجة لا يدل عليها مطلق الأمر، فيحمل على اليقين.
وقالت الواقفية: هو على الوقف، حتى يرد الدليل ببيانه؛ لأن كونه موضوعا لأحد الأقسام: إما أن يعلم بنقل أو عقل، ولم يوجد أحدهما، فيجب التوقف فيه2.
ولنا: ظواهر الكتاب، والسنة، والإجماع، وقول أهل اللسان:
= حمله خصوصية الندب، أو الوجوب على الدليل؛ لأنهما مشكوك فيهما، فلا يحمل عليهما بالشك، ولأن جواز الإقدام هو القدر المشترك بين الثلاثة، فليكن الأمر حقيقة فيه، وهو الإباحة؛ دفعا للمجاز والاشتراك".
1 تقرير ذلك: أن الأمر ورد تارة للوجوب وتارة للندب، فلو جعل حقيقة في أحدهما كان مجازا في الآخر، ولو جعل حقيقة فيهما لزم الاشتراك، وكلاهما خلاف الأصل، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما، وهو مطلق رجحان الفعل.
وأما العقاب على الترك: فينتفي بالاستصحاب، أي: استصحاب عدمه، وهو كون الأصل: براءة الذمة منه.
انظر: شرح الطوفي "2/ 366.
2 وحجتهم: إبطال أدلة المخالفين والقدح فيها، فيجب التوقف.
أما الكتاب:
فقوله –تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1. حذر الفتنة والعذاب الأليم في مخالفة الأمر، فلولا أنه مقتض للوجوب ما لحقه ذلك.
وأيضا قول الله –تعالى-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 2.
وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} 3 ذمهم على ترك امتثال الأمر، والواجب: ما يذم يتركه.
ومن السنة:
ما روى البراء بن عازب: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة، فردوا عليه القول، فغضب، ثم انطلق حتى دخل على عائشة غضبان، فقالت:"من أغضبك أغضبه الله"؟ فقال: "وما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع"4.
= قال الطوفي: "وهذه طريقة جيدة في المطالب القطعية، أما الظنية: فيكون فيها ظهور أحد الطرفين، وإن توجه إليه قادح ما".
1 سورة النور من الآية: 63.
2 سورة الأحزاب من الآية: 36.
3 سورة المرسلات من الآية: 48.
4 أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب التمتع والإقران والإفراد بالحج، وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي، ومسلم: كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، وأبو داود: كتاب الحج، باب إفراد الحج، كما أخرجه الشافعي والطيالسي.
انظر: تلخيص الحبير "2/ 231".
فإن قيل: هذا أمر اقترن به ما دل على الوجوب.
قلنا: النبي صلى الله عليه وسلم إنما علل غضبه بتركهم اتباع أمره، ولولا أن أمره للوجوب، لما غضب من تركه.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"1. والندب غير شاق، فدل على أن أمره اقتضى الوجوب.
وقوله عليه السلام لبريرة2: "لو راجعتيه؟ " قالت: أتأمرني يا رسول الله؟ فقال: "إنما أنا شافع"3. فقالت: لا حاجة لي فيه.
1 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب التمني، باب ما يجوز من اللو، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه كما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ومالك والشافعي، كلهم في كتاب الطهارة.
2 هي: بريرة مولاة عائشة رضي الله عنهما اشترتها من رجل من بني هلال وأعتقتها.
انظر: الاستيعاب "4/ 1795".
3 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الطلاق، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ:"لو راجعتيه؛ فإنه أبو ولدك"، فقالت: بأمرك يا رسول الله؟ فقال: "إنما أنا شافع".
كما أخرجه أبو داود: كتاب الطلاق، باب في المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد، والترمذي: كتاب الرضاع، باب ما جاء في المرأة تعتق ولها زوج، والنسائي: كتاب القضاء، باب شفاعة الحاكم للمحكوم قبل فصل الحكم، وابن ماجه وغيرهم.
قال أبو يعلي في العدة "1/ 233-234": "فموضع الدليل: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه شافع، وشفاعته تدل على الندب، ومن قال: الأمر على الندب يقول: هو بمنزلة الشفاعة، فلو كان الأمر والشفاعة سواء ما تبرأ من الأمر".
وإجابة شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم مندوب إليها، فدلنا ذلك على أن أمره للإيجاب.
الثالث: إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنهم أجمعوا على وجوب طاعة الله -تعالى- وامتثال أوامره من غير سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما عنى بأوامره، وأوجبوا أخذ الجزية من المجوس بقوله:"سنوا بهم سنة أهل الكتاب"1.
وغسل الإناء من الولوغ بقوله "
…
فليغسله سبعا" 2.
والصلاة عند ذكرها بقوله: ".... فليصلها إذا ذكرها"3.
واستدل أبو بكر رضي الله عنه على إيجاب الزكاة بقوله
1 حديث صحيح: رواه البخاري: كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب، والترمذي: كتاب السير حديث رقم "1586" ومالك في الموطأ: باب جزية أهل الكتاب والمجوس.
2 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الوضوء -باب إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا –حديث "37 عن أبي هريرة، ومسلم: كتاب الطهارة باب حكم ولوغ الكلب حديث "90" من طريق هشام عن ابن سيرين بلفظ: "إذا" ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات".
ورواه مثل رواية مسلم: الترمذي وقال: "حسن صحيح".
كما روي من طريق مالك عن أبي الزناد وعن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم غسل سبعا أولاهن بالتراب".
ورواه مثل رواية مسلم: الترمذي وقال: "حسن صحيح".
كما روي من طريق مالك عن أبي الزناد وعن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات".
3 حديث صحيح: أخرجه البخاري -كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها- من حديث أنس بن مالك –رضي الله عنه مرفوعا. ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، كما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ولفظه:"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها".
- تعالى-: {.... وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1.
ونظائر ذلك مما لا يخفى، يدل على إجماعهم على اعتقاد الوجوب.
الرابع: أن أهل اللغة عقلوا2 من إطلاق الوجوب؛ لأن السيد لو أمر عبده، فخالفه، حسن -عندهم- لومه وتوبيخه وحسن العذر في عقوبته لمخالفتة الأمر، والواجب: ما يعاقب بتركه، أو يذم بتركه.
فإن قيل: إنما لزمت العقوبة؛ لأن الشريعة أوجبت ذلك.
قلنا: إنما أوجبت طاعته إذا أتى السيد بما يقتضي الإيجاب، ولو أذن له في الفعل، أو حرمه عليه: لم يجب عليه.
ولأن مخالفة الأمر معصية. قال الله -تعالى-: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} 3، وقال:{أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} 4، ويقال:{أمرتك فعصيتني} .
وقال الشاعر5:
أمرتك أمرا جازما فعصيتني6
…
.............................
1 سورة البقرة الآيات: 43-110، وسورة النور الآية: 56، والمزمل الآية 20.
2 أي: فهموا.
3 سورة التحريم من الآية: 6.
4 سورة طه من الآية: 93.
5 هو: الحصين بن المنذر الذهلي الرقاشي، من أهل البصرة، حامل راية بكر بن وائل في معركة "صفين" كان مع جيش علي، وكان شابا، ثم أصبح شريفا في قومه، وكان يكني نفسه بأبي ساسان، وكنيته في الحقيقة: أبو حفص. انظر: وفيات الأعيان "6/ 290".
6 هذا صدر بيت ضمن بيتين قالهما ليزيد بن المهلب لما أمره الحجاج بترك البصرة عام 85هـ فاستشار الحصين فأنشده
والمعصية موجبة للعقوبة؛ قال الله -تعالى-: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} 1.
وأما قول من قال: "نحمله على الإباحة2؛ لأنه اليقين" فهو باطل؛ فإن الأمر: استدعاء وطلب، والإباحة ليست طلبًا ولا استدعاء، بل إذن له وإطلاق.
وقد أبعد من جعل قوله: "افعل" مشتركًا بين الإباحة والتهديد، الذي هو: المنع وبين الاقتضاء؛ فإنا ندرك في وضع اللغات -كلها- قولهم: "افعل" و"لا تفعل" و"إن شئت فافعل" و"إن شئت فلا تفعل".
حتى لو قدرنا انتفاء القرائن كلها يسبق إلى الأفهام اختلاف معاني هذه الصيغ، ونعلم -قطعًا- أنها ليست أسامي مترادفة على معنى واحد، كما ندرك التفرقة بين قولهم:"قام" و"يقوم" في: أن هذا ماض، وذاك مستقبل، وهذا أمر يعلم ضرورة، ولا يشككنا فيه إطلاق مع قرينة التهديد.
وبالطريق الذي نعرف فإنه لم يوضع للتهديد: فعلم أنه لم يوضع للتخيير.
وقول من قال: "هو للندب؛ لأنه اليقين"3: لايصح لوجهين:
=
أمرتك أمرًا جازمًا فعصيتني
…
فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
فما أنا بالباكي عليك صبابة
…
وما أنا بالداعي لترجع سالما
انظر: معجم الشعراء ص "193" شرح الحماسة للمرزوقي "2/ 814".
1 سورة الأحزاب من الآية: 36.
2 بدأ المصنف يرد على القائلين بأن صيغة "افعل" تدل على الإباحة.
3 هذا رد على القائلين بأنها للندب.