الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: [شروط الفعل المكلف به]
فأما الشروط المعتبرة للفعل المكلف به فثلاثة:
أحدهما: أن يكون معلومًا للمأمور به، حتى يتصور قصده إليه، وأن يكون معلومًا كونه مأمورًا به من جهة الله -تعالى- حتى يتصور منه قصد الطاعة والامتثال. وهذا يختص بما يجب به قصد الطاعة والتقرب1.
= الدليل موجود وهو حديث "الإسلام يهدم ما كان قبله" أي: يقطع ما قبله من أحكام الكفر.
1 إيضاح معنى هذا الشرط: أن الفعل المكلف به يشترط في صحة التكليف به شرعًا أن يكون المكلف يعلمه، فيشترط لتكليفه بالصلاة علمه بحقيقة كيفية الصلاة لأن التكليف بالمجهول من تكليف ما لا يطاق، إذ لو قيل للمكلف افعل ما أضمره في نفسي أنك تفعله وإلا عاقبتك، فقد كلف بفعل ما لا طاقة له به لأن اهتداءه إلى الفعل المطلوب من غير علم ليس في طاقته كما هو واضح.
واعلم أن الأحكام الشرعية قسمان: قسم منها تعبدي محض، وقسم معقول المعنى. فالتعبدي كالصلاة والزكاة والصوم، فيشترط في التكليف به العلم بحقيقة الفعل المكلف به كما بينا، ويزاد على ذلك العلم بأنه مأمور به من الله تعالى، إذ لا بد له من نية التقرب به إلى الله تعالى ونية التقرب إليه عز وجل لا تمكن إلا بعد معرفة أن الأمر المتقرب به إليه أمر منه جل وعلا، وأما معقول المعنى فلا يشترط في صحة فعله نية التقرب ولكن لا أجر له فيه البتة إلا بنية التقرب إلى الله تعالى. ومثال ذلك رد الأمانة، والمغصوب وقضاء الدين، والإنفاق على الزوجة. فمن قضى دينه وأدى الأمانة ورد المغصوب مثلًا لا يقصد بشيء من ذلك وجه الله بل لخوفه من عقوبة السلطان مثلًا ففعله صحيح دون النية وتسقط عنه المطالبة فلا يلزمه الحق في الآخرة بدعوى أن قضاءه في الدنيا غير صحيح لعدم نية التقرب بل القضاء صحيح والمطالبة ساقطة على كل حال ولكن لا أجر له إلا بنية التقرب، وهذا هو مراد المؤلف بقوله وهذا يختص بما يجب به قصد الطاعة والتقرب.
الثاني: أن يكون معدومًا، أما الموجود: فلا يمكن إيجاده، فيستحيل الأمر به1.
الثالث: أن يكون ممكنًا، فإن كان محالًا، كالجمع بين الضدين ونحوه لم يجز الأمر به2.
1 إيضاح معنى هذا الشرط: أنه يشترط في المطلوب المكلف به أن يكون الفعل المطلوب معدومًا، فالصلاة والصوم المأمور بهما وقت الطلب لا بد أن يكونا غير موجودين، والمكلف ملزم بإيجادهما على الوجه المطلوب، أما الموجود الحاصل فلا يصح التكليف به كما لو كان صلى ظهر هذا اليوم بعينه صلاة تامة من كل جهاتها، فلا يمكن أمره بإيجاد تلك الصلاة بعينها التي أداها على أكمل وجه لأن الأمر بتحصيلها معناه أنها غير حاصلة والفرض أنها حاصلة فيكون تناقضًا، ومن هنا قالوا تحصيل الحاصل محال لأن السعي في تحصيله معناه أنه غير حاصل بالفعل وكونه حاصلًا بالفعل ينافي ذلك فصار المعنى هو غير حاصل هو حاصل. وهذا تناقض واجتماع النقيضين مستحيل. "مذكرة أصول الفقه للشيخ الشنقيطي ص35".
2 هذا الشرط مرتبط بمسألة أخرى هي: التكليف بما لا يطاق، أو التكليف بالمحال، وفيها تفصيل لأهل الأصول لم يتعرض له المصنف، وقد وضحه الشيخ "الشنقيطي" فقال:
"اعلم أن حاصل تحقيق المقام في هذه المسألة عند أهل الأصول أن البحث فيها من جهتين:
الأولى: من جهة الجواز العقلي، أي هل يجوز عقلًا أن يكلف الله عبده بما لا يطيقه أو يمتنع ذلك عقلًا.
الثانية: هل يمكن ذلك شرعًا أو لا، أن أكثر الأصوليين على جواز التكليف عقلًا بما لا يطاق، قالوا وحكمته ابتلاء الإنسان، هل يتوجه إلى الامتثال ويتأسف على عدم القدرة ويضمر أنه لو قدر لفعل، فيكون مطيعًا لله بقدر طاقته، أو لا يفعل ذلك فيكون في حكم العاصي. ومنهم من يقول لا يلزم ظهور الحكمة في أفعال الله لأنهم يزعمون أن أفعاله لا تعلل بالأغراض والحكم =
.....................................................
= وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح إبطال ذلك في الكلام على علة القياس، وأكثر المعتزلة وبعض أهل السنة منعوا التكليف بما لا يطاق عقلًا، قالوا لأن الله يشرع الأحكام لحكم ومصالح، والتكليف بما لا يطاق لا فائدة فيه فهو محال عقلًا، أما بالنسبة إلى الإمكان الشرعي ففي المسألة التفصيل المشار إليه آنفًا وهو أن المستحيل أقسام. فالمستحيل عقلًا قسمان: قسم مستحيل لذاته كوجود شريك لله سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، وكاجتماع النقيضين والضدين في شيء واحد في وقت واحد من جهة واحدة.
ويسمى هذا القسم المستحيل الذاتي، وإيضاحه أن العقل إما أن يقبل وجود الشيء فقط، أي ولا يقبل عدمه، أو يقبل عدمه فقط ولا يقبل وجوده أو يقبلهما معًا، فإن قبل وجوده فقط ولم يقبل عدمه بحال فهو الواجب الذاتي المعروف بواجب الوجود، كذات الله جل وعلا، متصفًا بصفات الكمال والجلال، وإن قبل عدمه فقط دون وجوده فهو المستحيل المعروف بالمستحيل عقلًا كوجود شريك لله سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. وإن قبل العقل وجوده وعدمه، فهو المعروف بالجائز عقلًا وهو الجائز الذاتي كقدوم زيد يوم الجمعة وعدمه. فالمستحيل الذاتي أجمع العلماء على أن التكليف به لا يصح شرعًا لقوله تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ونحو ذلك من أدلة الكتاب والسنة.
القسم الثاني من قسمي المستحيل عقلًا: هو ما كان مستحيلًا لا لذاته بل لتعلق علم الله بأنه لا يوجد، لأن ما سبق في علم الله أنه لا يوجد مستحيل عقلًا أن يوجد لاستحالة تغير ما سبق به العلم الأزلي وهذا النوع يسمونه المستحيل العرضي، ونحن نرى أن هذه العبارة لا تنبغي لأن وصف استحالته بالعرض من أجل كونها بسبب تعلق العلم الأزلي لا يليق بصفة الله، فالذي ينبغي أن يقال: إنه مستحيل لأجل ما سبق في علم الله من أنه لا يوجد. ومثال هذا النوع إيمان أبي لهب، فإن إيمانه بالنظر إلى مجرد ذاته جائز عقلًا الجواز الذاتي لأن العقل يقبل وجوده، وعدمه، ولو كان إيمانه مستحيلًا عقلًا لذاته لاستحال شرعًا تكليفه بالإيمان مع أنه مكلف به قطعًا إجماعًا، ولكن هذا الجائز عقلًا الذاتي، مستحيل من جهة أخرى، وهى من حيث تعلق علم الله فيما سبق أنه لا يؤمن لاستحالة =
وقال قوم: يجوز ذلك 1:
وبدليل قوله تعالى: {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه} 2. والمحال لا يسأل دفعه.
ولأن الله -تعالى- علم أن أبا جهل 3 لا يؤمن، وقد أمره بالإيمان وكلفه إياه.
= تغير ما سبق به العلم الأزلي، والتكليف بهذا النوع من المستحيل واقع شرعًا وجائز عقلًا وشرعًا بإجماع المسلمين، لأنه جائز ذاتي لا مستحيل ذاتي، والأقسام بالنظر إلى تعلق العلم قسمان واجب ومستحيل فقط، لأن العلم إما أن يتعلق بالوجود فهو واجب أو بالعدم فهو مستحيل ولا واسطة، والمستحيل العادي كتكليف الإنسان بالطيران إلى السماء بالنسبة إلى الحكم الشرعي كالمستحيل العقلي. وهذا هو حاصل كلام أهل الأصول في هذه المسألة، والآية لا دليل فيها على جواز التكليف شرعًا بما لا يطاق لأن المراد بما لا طاقة به هي الآصار والأثقال التي كانت على مَن قبلنا، لأن شدة مشقتها وثقلها تنزلها منزلة ما لا طاقة به. "مذكرة أصول الفقه ص36-37".
1 اسم الإشارة هنا عائد على المحال لذاته، أي: أجاز قوم التكليف به، واستدل له المصنف بثلاثة أدلة: أولها: الآية الكريمة، والثاني: قوله: "ولأن الله -تعالى- علم أن أبا جهل لا يؤمن" إلخ. ووجه الاستدلال به: أن أبا جهل قد أمر بالإيمان بكل ما أنزله الله تعالى، ومن بعض ذلك: أنه لا يؤمن، مثل قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وأوضح من ذلك تمثيل بعض الأصوليين بأبي لهب، الذي نزلت في حقه صراحة سورة المسد، إذًا يكون هؤلاء مأمورون بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون، فقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا، وبأنهم لا يؤمنون، وهو جمع بين النقيضين. وسيتأتى الرد على ذلك.
2 سورة البقرة من الآية: 286.
3 هو: عمرو بن هشام بن المغيرة المخرومي القرشي، كان شديد القرشي، كان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام، كان أحد سادات قريش وأبطالها ودهاتها =
ولأن تكليف المحال لا يستحيل لصيغته، إذ ليس يستحيل أن يقول:{كُونُوا قِرَدَة} 1. {كُونُوا حِجَارَة} 2.
وإن أحيل طلب المستحيل للمفسدة، ومناقضة الحكمة: فإن بناء الأمور على ذلك في حق الله -تعالى- محال؛ إذ لا يقبح منه شيء، ولا يجب عليه الأصلح.
ثم الخلاف فيه وفي العباد واحد فالسفه من المخلوق ممكن.
ووجه استحالته3.
قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 4 و {لا نُكَلِّف
= في الجاهلية، يقال له: أبو الحكم فدعاه المسلمون: أبا جهل. قتل في غزوة بدر الكبرى "عيون التاريخ 1/ 144".
1 سورة البقرة من الآية: 65.
2 سورة الإسراء من الآية: 50 وقول المصنف: "ولأن تكليف المحال...." هذا هو الدليل الثالث للمذهب الذي يجوّز التكليف بالمحال. وقد اختصره المصنف من "المستصفى" وبيانه: أنهم قالوا: لو استحال تكليف المحال لاستحال إما لصيغته، أو لمعناه، أو لمفسدة تتعلق به، أو لأنه يناقض الحكمة.
ولا يستحيل لصيغته؛ إذ لا يستحيل أن يقول: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} وأن يقول السيد لعبده الأعمى: أبصر، وللزّمن: امش. وأما قيام معناه بنفسه، فلا يستحيل -أيضًا- إذ يمكن أن يطلب من عبده كونه في حالة واحدة في مكانين ليحفظ ماله في بلدين. وهذا مما تركه المصنف -اختصارًا- وأشار إلى القسمين الأخيرين بقوله:"وإن أحيل طلب المستحيل إلخ" أي قالوا: محال أنه ممتنع للمفسدة ومناقضة الحكمة، فإن بناء الأمور في حق الله محال، إذ لا يقبح منه شيء، ولا يجب عليه الأصلح، ثم الخلاف فيه وفي العباد واحد، والفساد والسفه من المخلوق ممكن، فلم يمتنع ذلك مطلقًا. "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص152-153".
3 بدأ المصنف يورد أدلة المذهب الذي اختاره وهو: استحالة التكليف بالمحال.
4 سورة البقرة من الآية: 286.
نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا..} 1.
ولأن الأمر: استدعاء وطلب، والطلب يستدعي مطلوبًا، وينبغي أن يكون مفهومًا بالاتفاق، ولو قال "أبجد هوّز" لم يكن ذلك تكليفا؛ لعدم عقل معناه.
ولو علم الأمر دون المأمور: به لم يكن تكليفا، إذ التكليف: الخطاب بما فيه كلفة، وما لا يفهمه المخاطب ليس بخطاب، وإنما اشترط فهمه ليتصور منه الطاعة، إذ كان الأمر: استدعاء الطاعة، فإن لم يكن استدعاءً لم يكن أمرا، والمحال لا يتصور الطاعة فيه، فلا يتصور استدعاؤه، كما يستحيل من العاقل طلب الخياطة من الشجر.
ولأن2 الأشياء لها وجود في الأذهان قبل وجودها في الأعيان، وإنما يتوجه إليه الأمر بعد حصوله في العقل، والمستحيل لا وجود له في العقل فيمتنع طلبه.
ولأننا3 اشترطنا: أن يكون معدوما في الأعيان ليتصور الطاعة فيه، فلذلك يشترط أن يكون موجودا في الأذهان، ليتصور إيجاده على وفقه.
ولأننا4 اشترطنا كونه معلومًا ومعدومًا، وكون المكلف عاقلا فاهما؛ لاستحالة الامتثال بدونهما، فكون الشيء ممكنا في نفسه أولى أن يكون شرطا.
1 سورة الأنعام من الآية: 152 والآيتان هما الدليل الأول.
2 هذا هو الدليل الثاني، وهو وما بعده أدلة عقلية، أوردها بعد الأدلة النقلية، التي منها الآيتان السابقتان.
3 هذا هو الدليل الثالث.
4 هذا هو الدليل الرابع.
وقوله تعالى 1: {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه} فقد قيل: المراد به: ما يثقل ويشق، بحيث يكاد يفضي إلى إهلاكه، كقوله تعالى:{اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُم} 2. وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في المماليك: "لا تكلفوهم ما لا يطيقون" 3.
وقوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَة} تكون إظهارًا للقدرة4.
1 من هنا سيبدأ المصنف في الرد على الأدلة التي استدل بها أصحاب المذهب الأول، وهم المجوّزون للتكليف بالمستحيل.
وبيان ذلك: أن المستدلين بالآية قالوا: "بأن المحال لا يسأل دفعه، فإنه مندفع بذاته" فأجاب المصنف: بأن الآية لا تدل على جواز التكليف بما لا يطاق، إذ قد يقع السؤال بما لا يجوز على الله غيره نحو قوله تعالى:{قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112] .
ولم يدل دليل على أن الله -سبحانه- يجوز أن يحكم بالباطل.
وتمدح -سبحانه- بقوله: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد} [ق: 29] مع أنه لا يجوز عليه الظلم.
ولئن سلمنا أن المحال لا يسأل دفعه، فإنهم سألوا أن لا يكلفهم ما يشق عليهم، وهذا متعارف في اللغة أن يقول الشخص لما يشق عليه: لا أطيقه، لأنهم علموا جواز تكليف ما لا يطاق فسألوا نفيه" انظر: نزهة الخاطر "1/ 155".
2 سورة النساء من الآية: 66: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} .
3 حديث صحيح: رواه البخاري ومسلم ومالك وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه بروايات مختلفة. ولفظ مسلم باب صحبة المماليك عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق". انظر: فيض القدير جـ5 ص292.
4 أي: لا بمعنى أنه طلب من المعدوم أن يكون بنفسه.