الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: [في المحكم والمتشابه]
وفي كتاب الله -سبحانه- محكم ومتشابه1، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ
…
} 2.
قال القاضي: المحكم: المفسر، والمتشابه: المجمل؛ لأن الله -سبحانه- سمى "المحكمات""أم الكتاب" وأم الشيء: الأصل الذي لم يتقدمه غيره، فيجب أن يكون المحكم غير محتاج إلى غيره، بل هو أصل بنفسه وليس إلا ما ذكرنا.
1 المحكم: معناه المتقن، يقال أحكمت الشيء، أحكمه إحكامًا، فهو محكم، إذا أتقنته، فكان في غاية ما ينبغي من الحكمة، ومنه: بناء محكم: أي ثابت يبعد انهدامه، وذلك كالنصوص والظواهر، لأنه من البيان في غاية الإحكام والإتقان "المصباح المنير 1/ 145، شرح الكتاب المنير 2/ 140-141" ولذلك وصف الله -تعالى- كتابه بذلك، فقال جل شأنه {الر، كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} مطلع سورة هود.
والمتشابه: مأخوذ من الشبه، أو الشبه، أو الشبيه، وهو ما بينه وبين غيره أمر مشترك، فيتشتبه به. "المصباح المنير 1/ 304".
وقد وصف الله -تعالى- كتابه الكريم بأنه متشابه. فقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ
…
} [الزمر: آية 23] : يشبه بعضه بعضًا في إعجازه وتناسبه وتناسقه.
وهذا المعنى لكل من المحكم والمتشابه يسمى بالإحكام العام، والتشابه العام. وأما بالمعنى الخاص الذي يبحثه الأصوليين: فهو ما يأتي بعد ذلك، وهو الذي تضمنته آية سورة آل عمران -كما سيأتي حالًا-.
2 سورة آل عمران من الآية: 7.
وقال ابن عقيل1: المتشابه هو الذي يغمض علمه على غير العلماء والمحققين، كالآيات التي ظاهرها التعارض، كقوله تعالى:{هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُون} 2. وقال -تعالى- في آية أخرى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} 3. ونحو ذلك.
وقال آخرون: المتشابه: الحروف المقطعة في أوائل السور، والمحكم: ما عداه5.
وقال آخرون: المحكم: الوعد والوعيد، والحرام والحلال،
1 هو: علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الحنبلي، المقرئ الفقيه الأصولي الواعظ المتكلم، أحد الأئمة الأعلام، له مؤلفات كثيرة تدل على سعة علمه وفضله، منها:"الواضح" في أصول الفقه قال عنه الشيخ ابن بدران: "أبان فيه عن علم كالبحر الزاخر، وفضل يفحم من في فضله يكابر، وهو أعظم كتاب في هذا الفن، حذا فيه حذو المجتهدين". توفي ابن عقيل سنة 513هـ. "ذيل طبقات الحنابلة 1/ 142-166، المنهج الأحمد 2/ 215-232".
2 سورة المرسلات الآية: 35.
3 سورة يس من الآية: 52.
4 أي: من الآيات التي ظاهرها التعارض، وهي في الواقع ليست كذلك، قال الواحدي: قال المفسرون: في يوم القيامة مواقف، ففي بعضها يتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا يتكلمون.
وقيل في تفسير آية سورة المرسلات: إن هذا إشارة إلى وقت دخولهم النار وهم عند ذلك لا ينطقون؛ لأن مواقف السؤال والحساب قد انقضت. وقال الحسن: لا ينطقون بحجة وإن كانوا ينطقون.
انظر: فتح القدير للشوكاني "5/ 416" طبعة دار الخير.
وبناء على تفسير ابن عقيل للمتشابه: بأنه الذي يغمض علمه على غير العلماء، يكون المحكم هو: ما لا يغمض علمه ولا فهمه.
5 انظر: الإتقان للسيوطي "2/ 2".
والمتشابه: القصص والأمثال1.
والصحيح: أن المتشابه: ما ورد في صفات الله -سبحانه- مما يجب الإيمان به، ويحرم التعرض لتأويله، كقوله -تعالى-:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان} 3، {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} 4، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك} 5 {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 6، ونحوه7.
فهذا اتفق السلف رحمهم الله على الإقرار به، وإمراره على وجهه وترك تأويله.
فإن الله -سبحانه- ذم المبتغين لتأويله، وقرنهم -في الذم- بالذين يبتغون الفتنة، وسماهم أهل زيغ.
1 انظر: الإحكام للآمدي "1/ 166".
2 سورة طه الآية: 5.
3 سورة المائدة من الآية: 64.
4 ص من الآية: 75 وهي قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} .
5 سورة الرحمن من الآية: 27.
6 سورة القمر من الآية: 14.
7 من الآيات والأحاديث مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "يد الله ملأى لا تغيضها النفقة" وهو حديث صحيح: أخرجه البخاري "4684" ومسلم "993" وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: يا ابن آدم أنفق أنفق عليك" وقال: "يد الله ملأي لا يغيضها نفقة، سحّاء الليل والنهار".
قال الطوفي: "ونحو ذلك، مما هو كثير في الكتاب والسنة، لأن هذا اشتبه المراد منه على الناس، فلذلك قال قوم بظاهره، فجسموا وشبهوا، وفر قوم من التشبيه، فتأولوا وحرفوا، وتوسط قوم، فسلموا، وأمرُّوه كما جاء، مع اعتقاد التنزيه، فسلموا، وهم أهل السنة" شرح المختصر "2/ 44، 45".
وليس في طلب تأويل ما ذكروه من المجمل1 وغيره ما يذم به صاحبه، بل يمدح عليه؛ إذ هو طريق إلى معرفة الأحكام، وتمييز الحلال من الحرام.
ولأن في الآية قرائن تدل على أن الله -سبحانه- منفرد بعلم تأويل المتشابه، وأن الوقف الصحيح عند قوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله} 2 له لفظًا ومعنى.
أما اللفظ: فلأنه لو أراد عطف "الراسخين" لقال: "ويقولون آمنا به" بالواو.
وأما المعنى: فلأنه ذم مبتغي التأويل، ولو كان ذلك للراسخين معلومًا: لكان مبتغيه ممدوحًا لا مذمومًا.
ولأن قولهم {آمَنَّا بِهِ} يدل على نوع تفويض وتسليم لشيء لم يقفوا على معناه.
سيما إذا اتبعوه بقولهم: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فذكرهم ربهم -ههنا- يعطي الثقة به، والتسليم لأمره، وأنه صدر منه، وجاء من عنده كما جاء من عنده المحكم.
ولأن لفظة "أما" لتفصيل الجمل، فذكره لها في {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغ} مع وصفه إياهم لابتغاء المتشابه، وابتغاء تأويله، يدل على قسم آخر يخالفهم في هذه الصفة وهم "الراسخون" ولو كانوا يعلمون تأويله لم يخالفوا القسم الأول في ابتغاء التأويل.
1 أي: الآراء التي عرضها الأول.
2 آل عمران: 7.
وإذ قد ثبت أنه غير معلوم التأويل لأحد: فلا يجوز حمله على غير ما ذكرناه؛ لأن ما ذكر من الوجوه لا يعلم تأويله كثير من الناس.
فإن قيل: فكيف يخاطب الله الخلق بما لا يعقلونه، أم كيف ينزل على رسوله ما لا يطلع على تأويله؟
قلنا:
يجوز أن يكلفهم الإيمان بما لا يطلعون على تأويله؛ ليختبر طاعتهم، كما قال -تعالي-:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِين} 1 {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَم
…
} الآية2، {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاس} 3.
وكما اختبرهم بالإيمان بالحروف المقطعة مع أنه لا يعلم معناها4.
والله أعلم.
1 سورة محمد من الآية: 31.
2 سورة البقرة من الآية: 143.
3 سورة الإسراء من الآية: 60.
4 قال الشوكاني: "لا شك أن لها معنى لم تبلغ أفهامنا إلى معرفته...." انظر في ذلك: فتح القدير "1/ 314 وما بعدها، وإرشاد الفحول 1/ 150" الطبعة المحققة.