الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: [في حكم تكليف الكفار بفروع الإسلام]
واختلفت الرواية1: هل الكفار مخاطبون بفروع الإسلام؟
أي عن الإمام أحمد. وهذه المسألة متفرعة عن قاعدة أصولية هي: هل حصول الشرط الشرعي شرط في صحة التكليف أو لا؟ ومعنى هذا: أنه هل يشترط الإسلام للتكليف بالعبادات ونحوها: أو أن الكفار يعتبرون مكلفين بها حتى ولو لم يدخلوا في الإسلام.
ويتحرر محل النزاع فيما يأتي:
أولًا- لا خلاف بين العلماء في أن الكفار مخاطبون بأصول العقيدة: من الإيمان بالله تعالى وكتبه ورسله واليوم الأخر، حتى نقل القاضي أبو بكر الباقلاني الإجماع على ذلك، والأدلة على ذلك كثيرة، منها قوله -تعالى-:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيم} أول سورة الحج: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "...... وبعثت إلى الناس كافة" حديث صحيح رواه البخاري ومسلم والنسائي. "الفتح الكبير ج1 ص199".
ثانيًا- لا خلاف -أيضًا- أنهم مخاطبون بالعقوبات الشرعية، فتقام عليهم إذا وجدت أسبابها، وكذلك المعاملات المالية، لأنها أمور دنيوية.
وقد وضح الإمام ابن السبكي محل الخلاف في المسألة فقال: "أطبق المسلمون على أن الكفار بأصول الشرائع مخاطبون، وباعتبارها مطالبون، ولا اعتداد بخلاف مبتدع يشبب بأن العلم بالعقائد يقع اضطرارًا فلا يكلف به، وأجمعت الأمة -كما نقله القاضي أبو بكر- على تكليفهم بتصديق الرسل، وبترك تكذيبهم وقتلهم وقتالهم، ولم يقل أحد إن التكليف بذلك متوقف على معرفة الله تعالى".
ثم بعد أن نقل آراء العلماء في المسألة حرر محل الخلاف فقال:
"..... وكشف الغطاء في ذلك أن الخطاب على قسمين: خطاب تكليف وخطاب وضع: =
فروي أنهم لا يخاطبون منها بغير النواهي؛ إذ لا معنى لوجوبها مع استحالة فعلها في الكفر، وانتفاء قضائها في الإسلام، فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله؟ وهذا قول أكثر أصحاب الرأي1.
= فخطاب التكليف بالأمر والنهي هو محل الخلاف، وليس كل تكليف أيضًا، بل ما لم نعلم اختصاصه بالمؤمنين أو ببعض المؤمنين، وإنما المراد العامة التي شملهم لفظًا، هل يكون الكفر مانعًا من تعلقها بهم أو لا؟.
وأما خطاب الوضع: فمنه ما يكون سببًا لأمر أو نهي، مثل كون الطلاق سببًا لتحريم الزوجة قال والدي رحمه الله: فهذا من محل الخلاف أيضًا".
ثم قال: "ومن خطاب الوضع: كون إتلافهم وجناياتهم سببًا في الضمان، وهذا ثابت في حقهم إجماعًا، بل ثبوته في حقهم أولى من ثبوته في حق الصبي، وكون وقوع العقد على الأوضاع الشرعية سببًا في البيع والنكاح وغيرهما فهذا لا نزاع فيه، وفي ترتب الأحكام الشرعية عليه في حقهم كما في المسلم، وكذا كون الطلاق سببًا للفرقة، فإن الفرقة ثبتت إذا قلنا بصحة أنكحتهم.
ومن هذا القبيل: الإرث والملك به، ولولا ذلك لما شاع بيعهم لمواريثهم وما يشترونه، ولا معاملتهم، وكذا صحة أنكحتهم إذا صدرت على الأوضاع الشرعية، والخلاف في ذلك لا وجه له".
وقال: "ومن خطاب الوضع: ثبوت المال في ذمتهم في الديون والكفارات عند حصول أسبابها، ولا نزاع في ثبوت ذلك في حقهم، كما ثبت في حق المسلمين، وكذا تعلق الحقوق التي يطالبون بدائها بأموالهم مثل: تعلق أروش الجنايات برقاب الجناة
…
".
ثم قال: "ومن خطاب الوضع: كون الزنا سببًا لوجوب الحد وذلك ثابت في حقهم، ولذلك رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين. وهو ثابت في الصحيحين "اللؤلؤ والمرجان 2/ 188" انظر: الإبهاج للسبكي جـ1 ص176-177 طبعة الكليات الأزهرية، والبحر المحيط للزركشي جـ1 ص410 طبعة الكويت.
1 قول المصنف: "إن هذا هو قول أكثر أصحاب الرأي" فيه نظر، فالمشهور عن =
وروي أنهم مخاطبون بها، وهو قول الشافعي1؛ لأنه جائز عقلًا وقد قام دليله شرعًا2.
= أكثر الحنفية: أنهم ليسوا بمكلفين مطلقًا، ولا أدري من أين نقل المصنف ذلك، وهذا المذهب، وإن قال به بعض العلماء، إلا أنه غريب وشاذ، قال الزركشي في البحر المحيط "1/ 402":"ولعله انقلب مما قبله، ويرده: الإجماع السابق على تكليفهم بالنواهي: ويقصد بقوله: "انقلب مما قبله" أن القائل به اختلط عليه مذهب القائلين بأنهم مكلفون بالنواهي دون الأوامر فعكس المسألة. انظر: "كشف الأسرار 1/ 128، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص325" ولذلك لم يذكره الطوفي في المختصر ولا في الشرح.
1 وعنه وعن الإمام أحمد رضي الله عنهما رواية ثانية: أنهم غير مكلفين، وهو المنقول عن أكثر الحنفية، واختاره أبو حامد الإسفراييني، والإمام فخر الدين الرازي، انظر: العضد على مختصر ابن الحاجب "2/ 13" وفي المسألة عدة مذاهب أخرى لم يتعرض لها المصنف:
فقيل: هم مكلفون بالنواهي دون الأوامر، حتى نقل بعض العلماء إخراج هذا من محل الخلاف، وأن تكليفهم بالنواهي متفق عليه.
وقيل: إن المرتد هو المكلف فقط، دون الكافر الأصلي.
وقيل: إنهم مكلفون بما عدا الجهاد، حكاه القرافي عن بعض العلماء ولم ينسبه.
وقيل: إن المكلف غير الحربي، أما الحربي فليس بمكلف.
وقيل: بالتوقف.
ولكل مذهب من هذه المذاهب أدلته، وعليها مناقشات كثيرة تراجع في مظانها. انظر:"فواتح الرحموت 1/ 154، تيسير التحرير 2/ 248، أصول السرخسي 2/ 341، البحر المحيط 1/ 402 وما بعدها".
2 فالمصنف بذلك قد اختار هذا المذهب واستدل على صحته بالعقل والنقل كما سيأتي توضيحه.
أما الجواز العقلي:
فإنه لا يمتنع أن يقول الشارع: بني الإسلام على خمس، وأنتم مأمورون بجميعها، وبتقديم الشهادتين من جملتها، فتكون الشهادتان مأمورا بهما لنفسهما، ولكونهما شرطا لغيرهما، كالمحدث يؤمر بالصلاة1.
فإن منع مانع الحكم في المحدث وقال: إنما يؤمر بالوضوء، فإذا توضأ أمر بالصلاة؛ إذ لايتصور الأمر بالصلاة مع الحدث؛ لعجزه عن الامتثال.
قلنا: فإذًا لو ترك الصلاة طول عمره لا يعاقب على تركها، وهو خلاف الإجماع2.
وينبغي أن لا يصح أمره بالصلاة بعد الوضوء. بل بالتكبيرة الأولى، لاشتراط تقديمها3.
1 أي: يؤمر بالصلاة وبما لا تصح الصلاة إلا به، كالطهارة، فإن: ما لا يتم الواجب إلا به واجب.
2 عبارة البلبل المطبوع "والإجماع على خلافه" ومعنى العبارة: أن الإجماع منعقد على خلاف أنه لا يعاقب إلا على ترك الوضوء، بل يعاقب على جميع الصلوات الفائتة طول عمره، وذلك يدل على أنه مكلف بها.
3 هذا تفريع على ما تقدم ومعناه: أن المحدث لو توضأ وترك الصلاة، يلزم أن لا يعاقب إلا على تكبيرة الإحرام، لاشتراط تقديمها. هذا معنى كلامه -رحمه الله تعالى-.
قال "الطوفي" -معترضًا على هذا الإلزام-: "وهو إلزام غير جيد، لأن التكبيرة جزء الصلاة، وليست حقيقة مستقلة عنها، كالوضوء، اللهم إلا أن ينزِّلوا أجزاءها منزلة الحقائق المستقلة، مؤاخذة بما اقتضاه لفظ الخصم من اشتراط التقديم، وجزء الشيء يتقدمه، ويتوقف الشيء عليه. وبالجملة: هذا تدقيق ليس وراءه تحقيق، إنما هو من باب: إعنات الخصم". شرح مختصر الروضة "1/ 207-208".
وأما الدليل الشرعي:
فعموم قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ
…
} 1 وإخبار الله -سبحانه- عن المشركين: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين} 2.
ذكر هذا في معرض التصديق لهم تحذيرًا من فعلهم، ولو كان كذبا لم يحصل التحذير منه، كيف وقد عطف عليه {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} 3 كيف يعطف ذلك على ما لا عذاب عليه.
وقال الله- تعالى-: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَر
…
} الآية. لأنه نص في مضاعفة العذاب في حق من جمع بين المحظورات.
1 سورة آل عمران من الآية: 97.
2 سورة المدثر الآيتان: 42، 43.
3 سورة المدثر الآية: 46.
4 سورة الفرقان الآيتان: 68، 69. ووجه الدلالة من ذلك: أن الله -تعالى- رتب الوعيد على مجموع ترك الأصل وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ
…
} والفرع، وهو قوله تعالى:{وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُون} فكانت الفروع جزءًا من سبب الوعيد، وذلك يستلزم أنهم مكلفون بها.
يضاف إلى ما أورده المصنف من الآيات: آيات أخرى صريحة ونص في محل النزاع خاصة بخطاب أهل الكتاب والمشركين، تحثهم على طاعة الله تعالى، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، مثل قوله تعالى:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَة} إلى أن قول سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاة} [سورة البينة: 1-5] .
وقال تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاة} [فصلت: 6، 7] قال القرطبي: "وفيه دلالة على أن الكافر يعذب بكفره مع منع وجوب الزكاة عليه". =
وفائدة الوجوب1: أنه لو مات عوقب على تركه، وإن أسلم سقط عنه؛ لأن الإسلام يَجُبّ ما قبله.
ولا يبعد النسخ قبل التمكن من الامتثال، فكيف يبعد سقوط الوجوب بالإسلام3؟.
= ومن الأدلة الصريحة في مضاعفة العذاب: قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88] .
1 هذا بيان لثمرة تكليف الكفار بفروع الإسلام. وقد ذكر العلماء ثمارًا أخرى منها:
أنه إذا علم بمضاعفة العذاب فوق عذاب الكفر بادر بفعلها، طلبًا للتخفيف، فإنه من الثابت أن أهل النار متفاوتون في المنازل والدركات، بحسب أعمالهم، كما أن أهل الجنة متفاوتون في المنازل والدرجات. انظر:"شرح المختصر الطوفي جـ1 ص213-214".
2 وهو معنى ما جاء في صحيح مسلم: باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الحج والعمرة، في حديث طويل عن عمرو بن العاص رضي الله عنه ".... فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أبسط يمينك فلأُبايعْك فبسط يمينه. قال: فقبضت يدي. قال: "ما لك يا عمرو؟ " قلت: أردت أن أشترط. قال: "تشترط بماذا؟ " قلت: أن يغفر لي. قال: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله
…
" الحديث.
3 معنى هذه الفقرة: أن الذين يقولون بعدم تكليفهم قالوا: كيف تقولون: أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام، مع أنه لا يجب قضاؤها عليهم؟.
فأجاب المصنف: أن هذا مبني على مسألة أخرى هي: هل القضاء بأمر جديد أو بالأمر الأول؟
فإن قلنا: بأمر جديد سقط الاعتراض، لأن الإسلام أسقط عنهم القضاء، فليس هناك أمر جديد بالأداء.
وإن قلنا: إنه بالأمر، فيكون القضاء قد سقط عنهم بدليل آخر ناسخ للمتقدم، وهو الحديث، وليس ببعيد أن يرد النسخ قبل التمكن من الفعل، =