الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: [معنى النسخ عند المعتزلة]
وحدّ المعتزلة النسخ بأنه:
الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثابتا1.
ولا يصح؛ لأن حقيقة النسخ الرفع، وقد أخلوا الحد عنه2.
فإن قيل:
تحديد النسخ بالرفع لا يصح لخمسة أوجه:
أحدها: أنه لا يخلو: إما أن يكون رفعًا لثابت، أو لما لا ثبات له،
1 انظر: المعتمد "1/ 396".
2 قوله: "ولا يصح" يريد أن هذا التعريف المنقول عن بعض المعتزلة غير صحيح، لأن النسخ في الشرع إنما هو الرفع، وقد عدلوا عنه إلى قولهم: "الخطاب الدال
…
الخ" فكان الحد للناسخ لا للنسخ، والمطلوب: تعريف النسخ لا الناسخ الذي هو اسم فاعل، وذلك أن الخطاب ليس المراد به مصدر خاطب خطابًا، حتى يكون تعريف مصدر بمصدر، وإنما المراد بالخطاب: القول الدال على شيء. انظر: نزهة الخاطر "1/ 192".
جاء في العدة لأبي يعلى "3/ 768-769" -بعد أن عرّف النسخ- أن النسخ يفتقر إلى وجود خمس شرائط:
1-
أن يكون الناسخ متأخرًا عن المنسوخ.
2-
أن يكون الحكم المنسوخ قد ثبت بالشرع.
3-
أن يكون الرافع دليلًا شرعيًّا.
4-
أن لا يكون للعبادة المنسوخة مدة معينة.
5-
أن يكون الناسخ أقوى من المنسوخ أو مثله، ولا يكون أضعف منه.
انتهى ملخصًا من العدة، وهي مأخذوة من التعريفات المتقدمة. وأما كونه أقوى أو مساو فسيأتي ذلك قريبًا.
فالثابت لا يمكن رفعه، وما لا ثبات له لا حاجة إلى رفعه.
الثاني: أن خطاب الله -تعالى- قديم، فلا يمكن رفعه.
الثالث: أن الله -تعالى- إنما أثبته لحسنه، فالنهي يؤدي إلى أن ينقلب الحسن قبيحًا.
الرابع: أن ما أمر به، إن أراد وجوده، كيف ينهى عنه، حتى يصير غير مراد؟
الخامس: أنه يدل على "البداء" فإنه يدل على أنه بدا له مما كان حكم به وندم عليه، وهذا محال في حق الله -تعالى-1.
1 خلاصة هذه الاعتراضات:
أولًا: أن الحكم قبل النسخ إما أن يكون ثابتًا أو غير ثابت، فإن كان ثابتًا لم يمكن رفعه بالناسخ، لأن ارتفاع الحكم الثابت بالحكم الطارئ ليس بأولى من العكس؛ لاستقرار الثابت وتمكنه. وأما إذا كان غير ثابت فلا يحتاج إلى النسخ، لأنه مرتفع بنفسه.
ثانيًا: أن حكم الله -تعالى- قديم، فلا يمكن رفعه وإزالته، لأن ذلك يعتبر تغييرًا له، وهو محال على القديم.
ثالثًا: أن الله -تعالى- إنما أثبت الحكم المرفوع لما فيه من حسن، فإذا رفعه كان هذا الرفع قبيحًا، وهذا لا يجوز.
رابعًا: أن الرفع فيه تناقض، لأن إثباته يدل على إرادته، ورفعه يدل على قدم إرادته، وهو تناقض لا يليق بالله تعالى.
خامسًا: أن الرفع أو النسخ يدل على نسبة الجهل إلى الله تعالى، وهو محال، لأنه يدل على أن الشارع قد بدا له ما كان خافيًا عنه، على حد قوله تعالى:{وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] هذا معنى كلامه، وسيأتي رده على هذه الاعتراضات.
قلنا:
أما الأول: ففاسد؛ فإنا نقول: بل هو رفع لحكم ثابت لولاه لبقي ثابتًا، كالكسر في المكسور، والفسخ في العقود.
إذ1 لو قال قائل: إن الكسر إما أن يرد على معدوم أو موجود:
فالمعدوم لا حاجة إلى إعدامه، والموجود لا ينكسر2، كان غير صحيح؛ لأن معناه: أن له من استحكام البنية ما يبقى لولا الكسر، وندرك تفرقته بين كسره، وبين انكساره بنفسه، لتناهي الخلل فيه، كما ندرك تفرقته بين فسخ الإجارة، وبين زوال حكمها: لانقضاء مدتها3.
وبهذا فارق "التخصيص""النسخ"؛ فإن التخصيص يدل على أنه أريد باللفظ: البعض3.
وأما الثاني:
فإنه يراد بالنسخ: رفع تعلق الخطاب بالمكلف، كما يزول
1 لفظ "إذ" من المستصفى لتوضيح المعنى.
2 عبارة المستصفى: "والوجود لا سبيل إلى إزالته".
3 خلاصة الرد: أن ارتفاعه غير ممتنع؛ لأنه إما أن يرتفع بانتهاء مدته، وإما بالناسخ مع إرادة الشارع، قياسًا على كسر آنية من الأواني: فيقال: إن استحكام شكل الآنية يقتضي بقاء صورتها دائمًا، لولا ما ورد عليه من السبب الكاسر، فالكاسر قطع ما اقتضاه استحكام بنية الآنية دائمًا، لولا الكسر.
ومثل ذلك: فسخ عقد الإجارة، فإن الفسخ يقطع حكم العقد، ولولاه لدام العقد، فالفسخ قاطع لحكم العقد الدائم.
وبهذا فارق النسخ التخصيص، فإن التخصيص يبين لنا أن اللفظ يدل على البعض لا الكل، والنسخ يخرج عن اللفظ ما أريد الدلالة عليه.
انظر في ذلك: المستصفى "2/ 40، 41".
تعلقه به؛ لطريان العجز والجنون، ويعود بعودة القدرة والعقل، والخطاب في نفسه لا يتغير1.
وأما الثالث:
فينبني على التحسين والتقبيح في العقل، وهو باطل2. وقد قيل: إن الشيء يكون حسنًا في حالة، وقبيحًا في أخرى، لكن لا يصح هذا العذر؛ لجواز النسخ قبل دخول الوقت، فيكون قد نهي عما أمر به في وقت واحد.
والرابع:
ينبني على أن الأمر مشروط بالإرادة وهو غير صحيح3.
وأما الخامس:
ففاسد؛ فإنهم إن أرادوا أن الله -تعالى- أباح ما حرم، ونهى عما
1 خلاصة الرد: أن الحكم مقتضى الخطاب وأثره، لا نفس الخطاب حتى يرد عليه ما قلتم، فالمرتفع بالنسخ مقتضى الخطاب القديم، لا نفس الخطاب، بدليل أن الخطاب يرتفع بالعجز والجنون، ثم يعود بعد القدرة والعقل.
2 يريد أن يقول: إن هذا مبنى على مسألة أخرى: هي التحسين والتقبيح العقليين اللذين يقول بهما المعتزلة، بينما أهل السنة يقولون: إن الحسن والقبح شرعيان، فالحسن: ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع.
3 معناه: أن اعتراضكم مبني على أن الأمر مشروط بالإرادة، وهو يؤدي إلى التناقض، فيكون المنسوخ مرادًا وغير مراد، وهذا غير صحيح، لأن الإرادة تعلقت بوجوده قبل النسخ، وبعدمه بعده، فلا تناقض، لأن التناقض إنما يكون مع اتحاد وقت التعلق، أما إرادة شيء في وقت، وعدم إرادته في وقت آخر فلا تناقض فيه، لانفكاك الجهة.
أمر به: فهو جائز؛ {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} 1، ولا تناقض كما أباح الأكل ليلًا، وحرمه نهارًا.
وإن أرادوا: أنه انكشف له ما لم يكن عالمًا به: فلا يلزم من النسخ، فإن الله -تعالى- يعلم أنه يأمرهم بأمر مطلق، ويديم عليهم التكليف إلى وقت معلوم يقطع فيه التكليف بالنسخ2.
فإن قيل:
فهم مأمورون به في علم الله -تعالى- إلى وقت النسخ، أو أبدًا؟
إن قلتم: إلى وقت النسخ: فهو بيان مدة العبادة.
وإن قلتم: أبدًا، فقد تغير علمه ومعلومه.
قلنا:
بل هم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ الذي هو قطع للحكم، المطلق الذي لولاه لدام الحكم كما يعلم الله البيع المطلق مفيدًا لحكمه،
1 سورة الرعد من الآية: 39.
2 وضح الطوفي هذا الرد بقوله: "واجب عن الخامس -وهو لزوم البداء- فإنه غير لازم للقطع، أي: لأنا نقطع بكمال علم الله -تعالى- والبداء ينافي كمال العلم، لأنه يستلزم الجهل المحض؛ لأنه ظهور الشيء بعد أن كان خفيًّا....
وإذا ثبت استحالة البداء على الله سبحانه وتعالى، فتوجيه النسخ: هو أن الله سبحانه وتعالى، علم المصلحة في الحكم تارة، فأثبته بالشرع، وعلم المفسدة فيه تارة، فنفاه بالنسخ. ولذلك فائدتان:
إحداهما: رعاية الأصلح للمكلفين تفضلًا من الله عز وجل لا وجوبًا.
الفائدة الثانية: امتحان المكلفين بامتثالهم الأوامر والنواهي، خصوصًا في أمرهم بما كانوا منهيين عنه، ونهيهم عما كانوا مأمورين به، فإن الانقياد له أدل على الإيمان والطاعة". شرح المختصر "2/ 264".