الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: ي أن ما حصل العلم في واقعة أفاده في غيرها
…
فصل: [في أن ما حصل العلم في واقعة أفاده في غيرها]
ذهب قوم إلى أن ما حصل العلم في واقعة يفيده في كل واقعة، وما حصله لشخص يحصله لكل شخص يشاركه في السماع، ولا يجوز أن يختلف.
= وهذا معنى قوله: "إذ مراد الأول بالضروري: ما اضطر العقل إلى تصديقه" أي سواء توقف على مقدمات بينة أو لا. "والثاني": أي: ومراد الثاني بالضروري: "البديهي الكافي في حصول الجزم به" أي: التصديق الجازم به "تصور طرفيه" أعني: الموضوع والمحمول، وإن شئت: المحكوم والمحكوم عليه، نحو: العالم موجود، والمعدوم لا يكون موجودًا حال عدمه، والقديم لا يكون حادثًا، وبالعكس فيهما، بخلاف قولنا: العالم حادث، أو ليس بقديم، فإنه لا بد في التصديق به من واسطة، فنقول: العالم مؤلف، وكل مؤلف محدث، أو ليس بقديم.
ثم قال: العلم الضروري منقسم إلى البديهي، الذي يدرك بالبديهية، من غير احتياج إلى واسطة نظر، وإلى ما اضطر العقل إلى التصديق به بواسطة النظر.
فدعوى كل واحد من الفرقين غير دعوى الآخر، لأن الأول يقول: هو ضروري متوقف على الوساطة البينة، والآخر يقول: ليس بديهيًّا غنيًّا عن الواسطة مطلقًا.
وقد بينا أن كل واحد منهما موافق للآخر على قوله.
أي: كل واحد من الخصمين يقول: إن التواتر يفيد العلم الجازم، لكن تنازعا في تسميته ضروريًّا أو نظريًّا.
قلت: قد سبق عند ذكرنا للعلم: أنه الحكم الجازم المطابق لموجب، وأن ذلك الموجب إما عقل، أو سمع، أو مركب منهما، وهو التواتر، لتركبه من نقل النقَلَة، ونظر السامع في المقدمتين الممذكورتين، فصار التواتر كالواسطة بين القسمين، فلذلك وقع فيه النزاع، وعلى هذا يترتب العلم إلى قطعي وظني، والقطعي: إما بديهي محض، أو نظري محض، أو متوسط بينهما، وهو =
وهذا إنما يصح: إذا تجرد الخبر عن القرائن.
فإن اقترنت به قرائن: جاز أن تختلف به الوقائع والأشخاص؛ لأن القرائن قد تورث العلم، وإن لم يكن فيه أخبار، فلا يبعد أن تنضم القرائن إلى الأخبار، فيقوم بعض القرائن مقام بعض العدد من المخبرين1.
ولا ينكشف هذا إلا بمعرفة القرائن، وكيفية دلالتها فنقول:
لا شك أنا نعرف أمورًا ليست محسوسة؛ إذ نعرف من غيرنا حبّه لإنسان، وبغضه إياه، وخوفه منه، وخجله، وهذه أحوال في النفس لا يتعلق بها الحس، قد يدل عليها دلالات، آحادها ليست قطعية، بل يتطرق إليها الاحتمال، لكن تميل النفس بها إلى اعتقاد ضعيف، ثم الثاني والثالث يؤكده، ولو أفردت آحادها لتطرق إليها الاحتمال، إلى أن يحصل القطع باجتماعها.
= التواتري، كما رأيت، والله أعلم" شرح مختصر الروضة جـ2 ص81-82.
1 خلاصة ذلك: أن ما أفاد العلم اليقيني من الأخبار في واقعه معينة وجب أن يفيده -أيضًا- في كل واقعة أخرى، وأن من أفاد العلم بالنسبة لشخص من الناس، وجب أن يفيده لكل شخص غيره، إذا شاركه في سماع ذلك الخبر، ولا يجوز أن تختلف واقعة عن واقعة، أو شخص عن شخص.
وإلى ذلك ذهب بعض العلماء، كأبي بكر الباقلاني، وأبي الحسين البصري وغيرهما.
أما جمهور العلماء -ومنهم ابن قدامة- فقد فرقوا بين الخبر الذي تجرد عن القرائن، والخبر الذي اقترنت به القرائن، فإن تجرد الخبر عن القرائن، فلا يجوز أن يختلف كما قال الأولون، وهذا معنى قوله:"وهذا إنما يصح إذا تجرد الخبر عن القرائن".
أما إذا اقترنت بالخبر قرائن، فلا شك أن حصول اليقين به يتفاوت؛ لأن القرائن الخفية يدركها البعض وتخفى على البعض الآخر، فتقوم القرائن -عند من يدركها- مقام عدد من المخبرين. وسوف يبدأ المؤلف ببيان هذه القرائن.
كما أن قول كل واحد من عدد التواتر محتمل منفردًا، ويحصل القطع بالاجتماع: فإنا نعرف محبة الشخص لصاحبه بأفعال المحبين من خدمته، وبذل ماله له، وحضوره مجالسه لمشاهدته، وملازمته في تردداته، وأمور من هذا الجنس، وكل واحد منها إذ انفرد يحتمل أن يكون لغرض يضمره، لا لمحبته، لكن تنتهي كثرة هذه للدلالات إلى حد يحصل لنا العلم القطعي بحبه.
وكذلك نشهد الصبي يرضع مرة بعد أخرى، فيحصل لنا علم بوصول اللبن إلى جوفه، وإن لم نشاهد اللبن، لكن حركة الصبي في الامتصاص، وحركة حلقه، وسكوته عن بكائه، مع كونه لا يتناول طعامًا آخر، وكون ثدي المرأة الشابة لا يخلو من لبن، والصبي لا يخلو من طبع باعث على الامتصاص ونحو ذلك من القرائن.
فلا يبعد أن يحصل التصديق بقول عدد ناقص، مع قرائن تنضم إليه.
ولو تجرد عن القرائن لم يفد العلم، والتجربة تدل على هذا.
وكذلك العدد الكثير ربما يخبرون عن أمر يقتضي إيالة1 الملك وسياسة إظهاره، والمخبرون من [رؤساء] 2 جنود الملك، فيتصور اجتماعهم تحت ضبط الإيالة بالاتفاق على الكذب، ولو كانوا متفرقين خارجين عن ضبط الملك لم يتطرق إليهم هذا الوهم، فهذا يؤثر في النفوس تأثيرًا لا ينكر3.
1 في القاموس المحيط، فصل الهمزة باب اللام:"آل الملك رعيته إيالًا ساسهم، وعلى القوم أولًا وإيالًا وإيالة: ولي".
2 ما بين القوسين من المستصفى.
3 خلاصة ذلك كله: أن القرائن إذا احتفت بالخبر قامت مقام آحاد المخبرين في =