الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: [لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة]
ولا خلاف في: أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة1.
واختلف في تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة:
قال ابن حامد والقاضي يجوز2.
وبه قال أكثر الشافعية وبعض الحنفية3.
وقال أبو بكر: عبد العزيز4، وأبو الحسن التميمي: لا يجوز
1 صوّره بعض العلماء بقول الشارع: "صلوا غدًا" ثم لا يبن لهم في غد كيف يصلون، وهذا هو رأي جمهور العلماء، لأن تكليف الإنسان بما لا علم له به تكليف بما لا يطاق.
وأجاز ذلك من أجاز تكليف المحال، وعلى ذلك المعتزلة.
وقال بعض العلماء: إن القائلين بالجواز العقلي يوافقون الجمهور على عدم الوقوع.
قال الشوكاني: "وأما من جوز التكليف بما لا يطاق، فهو يقول بجوازه فقط، لا بوقوعه، فكان عدم الوقوع متفقًا عليه بين الطائفتين، ولهذا نقل أبو بكر الباقلاني إجماع أرباب الشرائع على امتناعه". إرشاد الفحول "2/ 37" تحقيق الدكتور شعبان إسماعيل. وانظر: المعتمد "1/ 342"، والبرهان "1/ 166" الإحكام لابن حزم "1/ 75".
2 انظر: العدة "3/ 725" والتمهيد "2/ 290".
3 انظر: البرهان "1/ 166" وكشف الأسرار "3/ 108".
4 هو عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد بن معروف، أبو بكر الحنبلي، المشهور بغلام الخلال، أصولي فقهيه من مؤلفاته:"المقنع""توفي سنة 363هـ". =
ذلك، وهو قول أهل الظاهر والمعتزلة1.
ووجهه ثلاثة أمور:
أحدها: أن الخطاب يراد لفائدته، وما لا فائدة فيه وجوده كعدمه.
ولا يجوز أن يقال: "أبجد هوز" يراد به: وجوب الصلاة، ثم يبينه فيما بعد.
والثاني: أنه لا يجوز مخاطبة العربي بالعجمية؛ لأنه لا يفهم معناه، ولا يسمع إلا لفظه.
والثالث: أنه لا خلاف أنه لو قال: "في خمس من الإبل شاة"2: يريد به: خمس من البقر: لم يجز؛ لأنه تجهيل في الحال3، وإيهام لخلاف المراد.
وكذا قوله -تعالى-: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 4 يوهم قتل كل مشرك، فإذا لم يبين التخصيص: فهو تجهيل في الحال.
ولو أراد بالعشرة: سبعة: لم يجز إلا بقرينة الاستثناء.
كذلك العام، لا يجوز أن يراد به الخصوص إلا بقرينة متصلة مبينة، فإن لم يكن بقرينة فهو تغيير للوضع.
وقال آخرون: يجوز تأخير بيان المجمل، ولا يجوز تأخير بيان
= انظر: تاريخ بغداد "10/ 459" طبقات الحنابلة "2/ 199".
1 وكذلك أبو بكر الصيرفي وأبو إسحاق المروزي "شرح الطوفي 2/ 688".
2 جزء من كتاب أبي بكر رضي الله عنه في الصدقات. تقدم قريبًا.
3 أي: تجهيل للسامع، فلا يدري ما المراد.
4 سورة التوبة من الآية: 5.
التخصيص في العموم؛ فإنه يوهم العموم، فمتى أريد به الخصوص، ولم يبين مراده: أوهم ثبوت الحكم في صورة غير مرادة.
والمجمل بخلاف هذا، فإنه لم يفهم منه شيء1.
ولنا2 الاستدلال بوقوعه في الكتاب والسنة:
قال الله -تعالى-: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} 4 وثم للتراخي5، وقال:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} 6 ولم يفصّل إلا بعد السؤال7.
1 وهو مذهب الكرخي من الحنفية. وهناك مذاهب أخرى، حكاها الطوفي في شرحه "2/ 688" فقال:"وذهب بعض الأصوليين إلى جواز تأخير الأمر دون الخبر، وذهب الجبائي وابنه، والقاضي عبد الجبار إلى جواز تأخير بيان النسخ دون غيره، وقال أبو الحسن البصري: ما ليس له ظاهر، كالمجمل يجوز تأخير بيانه، وما له ظاهر، والمراد به غيره، يجوز تأخير بيانه التفصيلي، لا الإجمالي، بأن يقول وقت الخطاب مثلًا: هذا العموم مخصوص، ولا يجب تفصيل أحكام تخصيصه، ببيان غير المخصص، ومقدار ما يخص منه. ثم قال: والصحيح جوازه مطلقًا".
2 بدأ المصنف يستدل للمذهب الراجح، وهو الجواز مطلقًا.
3 سورة القيامة الآيتان: 18، 19.
4 سورة هود الآية: 1.
5 فقد رتب -سبحانه- بيان القرآن على القراءة، وتفصيل الآيات على إحكامها بـ"ثم" التي تفيد التراخي والمهلة، وقد تقدم أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلم يبق إلا جوازه عن وقت الخطاب.
6 سورة البقرة الآية: 67.
7 وهو: ما جاء في الآيات: 68-71 من نفس السورة.
وقال -في خمس الغنيمة-: {
…
وَلِذِي الْقُرْبَى
…
} 1 وأراد: "بني هاشم" و"بني المطلب" ولم يبينهم، فلما منع "بني نوفل" و"بني عبد شمس": سئل عن ذلك فقال: "إنا وبني عبد المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام"2.
وقال لنوح: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} 3 فتوهم نوح عليه السلام أن ابنه من اهله، حتى بين الله -تعالى- له.
وقال: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} 4. وبين المراد بصلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليومين5.
1 سورة الأنفال من الآية: 41.
2 رواه البخاري من حديث جبير بن مطعم بلفظ: "إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد" ورواه أبو داود حديث رقم "2980" بلفظ: "إنا وبني المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنما نحن وهم شيء واحد" وشبك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم.
كما رواه أحمد "4/ 81" والنسائي "7/ 130، 131" بنحوه.
انظر: صحيح البخاري "2/ 196" بحاشية السندي، نصب الراية "1/ 221".
3 سورة هود من الآية: 40.
4 سورة البقرة: 43، 110.
5 روى نافع بن حبير بن مطعم قال: أخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمني جبريل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حيت زالت الشمس فكانت بقدر الشراك.. الحديث" رواه أحمد حديث رقم "3081" وأبو داود "393" والترمذي "149" وعبد الرزاق "2028" والشافعي "1/ 50" والطحاوي "1/ 146، 147" والطبراني "10753" وغيرهم. وله شاهد من حديث جابر عن أحمد والنسائي، وصححه الحاكم "1/ 195".
وبان المراد بقوله -تعالى-: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1 بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "في أربعين شاة شاة" 2 و "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"3.
وبان المراد بقوله {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 4 بفعله؛ لقوله: "خُذُوا عَنَي مَناَسِكَكَُمْ"5.
والنكاح، والإرث أصلهما في الكتاب وبينهما النبي صلى الله عليه وسلم متراخيا بالتدريج: من يرث، ومن لا يرث، ومن يحل نكاحه، ومن يحرم.
وقوله -تعالى-: {وَجَاهِدُوا} 6 عام، ثم قال:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى} 7.
1 سورة البقرة الآيات: 43، 110 وسورة النور الآية: 56 وسورة المزمل الآية: 20.
2 جزء من حديث طويل في الصدقات عن ثمامة بن عبد الله بن أنس أن أنسًا حدثه أن أبا بكر كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله على المسلمين والتي أمر الله بها رسوله.... وفيه: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين، ففيها شاة إلى عشرين ومائة" تقدم تخريجه قريبًا.
3 حديث صحيح: رواه البخاري "1484" ومسلم "979" ومالك في الموطأ "1/ 244" وأحمد في المسند "3/ 6، 30، 59، 60، 73، 73، 79، 96، 97" وأبو داود "1558" والترمذي "6261" والنسائي "5/ 17" وابن ماجه "1793" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
4 سورة آل عمران من الآية: 97.
5 تقدم تخريجه قريبًا.
6 سورة المائدة من الآية: 35 وسورة الحج من الآية: 78.
7 سورة التوبة من الآية: 91.
وكل عام أتى في الشرع ورد خصوصه بعده. وهذا لا سبيل إلى إنكاره.
وإن تطرق الاحتمال إلى بعض هذه الاستشهادات، فلا يتطرق إلى الجميع.
المسلك الثاني1:
أنه لا يجوز تأخير النسخ، بل يجب، والنسخ: بيان للوقت فيجوز أن يرد بلفظ يدل على تكرار الفعل على الدوام، ثم ينسخ بعد حصول اعتقاد اللزوم في الدوام.
أما قولهم2: "لا فائدة في الخطاب بمجمل": فغير صحيح؛ فإن قوله -تعالى-: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه} 3 يعرف وجوب الإيتاء،
1 بعد أن أورد المصنف أمثلة من القرآن والسنة تأخر فيها البيان عن المبين، أورد دليلًا آخر: هو: أن النسخ بيان في الزمان، وهذا بيان في الأعيان، وقد وجب التأخير في النسخ، فليجز ههنا. وهو حجة على من فرق بين النسخ وغيره في تأخير البيان؛ لأن تأخير النسخ يوهم ثبوت الحكم في زمن ليس ثابتًا في نفس الأمر، وتأخير تخصيص العام يوهم ثبوت الحكم في صورة التخصيص، وليس ثابتًا فيها في نفس الأمر، وكلاهما محذور، وقد التزم الخصم أحدهما، فيلزمه التزام الآخر. انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 693".
2 بدأ المصنف يرد على أدلة مذهب المانعين من تأخير البيان عن وقت الخطاب، فبدأ بمناقشة الوجه الأول وهو قولهم:"لا فائدة في الخطاب بمجمل" فقال: إن له فوائد كثيرة: من وجوب الإيتاء وغير ذلك مما ذكره المصنف، والذي عبر عنه "الطوفي" بقوله:"الانقياد التكليفي" وهو يخالف عبارة "أبجد هوز" حيث لا تفيد معنى أصلًا.
3 سورة الأنعام من الآية: 141.
ووقته، وأنه حق المال، ويمكن العزم على الامتثال، والاستعداد له، ولو عزم على تركه: عصى.
وقوله -تعالى-: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} 1 يعرف إمكان سقوط المهر بين الزوج والولي.
فهو كالأمر إذا لم يتبين أنه للإيجاب أو للندب، وأنه على الفور أم على التراخي، فقد أفاد اعتقاد الأصل، وإن خلا من كمال الفائدة، وليس ذلك مستنكرًا، بل واقع في الشريعة والعادة، بخلاف "أبجد هوز" فإنه لا فائدة فيه أصلًا.
والتسوية2 بينه -أيضًا- وبين الخطاب بالفارسية لمن لا يفهمها، غير صحيحة لما ذكرنا3.
ثم لا يمتنع أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع أهل الآرض بالقرآن، وينذر به من بلغه من الزنج4 وغيرهم، ويشعرهم اشتماله على
1 سورة البقرة من الآية: 237. فإن قول تعالى: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} متردد بين الزوج أو ولي الزوجة.
2 هذا رد على دليلهم الثاني وهو قولهم: "لا يجوز مخاطبة العربي بالعجمية" فقال: هذه التسوية غير صحيحة.
3 من أن مخاطبة العربي بالعجمية لا يفيد شيئًا أصلًا، لعدم فهمه، أما المجمل: فإنه يفيد ما تقدم ذكره من: الانقياد التكليفي، والاستعداد للامتثال وغير ذلك.
ثم على فرض وقوع ذلك، فليس في ذلك ما يمنع أن يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوحى إليه لغير العربي عن طريق الترجمة.
4 الزنج: طائفة من السودان تسكن تحت خط الاستواء وجنوبيه وليس وراءهم عمارة. قال بعضهم: وتمتد بلادهم من المغرب إلى قرب الحبشة، وبعض بلادهم على نيل مصر. "المصباح المنير 1/ 256".
أوامر يعرفهم المترجم "إياها"1.
وكيف يبعد هذا، ونحن نجوز كون المعدوم مأمورًا على تقدير الوجود، فأمر الأعجمي على تقدير البيان أقرب، وههنا يسمى خطابًا؛ لحصول أصل الفائدة.
وأما الثالث2: فإنما يلزم لو كان العام نصًّا في الاستغراق، وليس3 كذلك، بل هو ظاهر، وإرادة الخصوص به من كلام العرب4.
فمن اعتقد العموم قطعًا: فذلك لجهله، بل يعتقد أنه محتمل للخصوص، وعليه الحكم بالعموم إن خلى والظاهر، وينتظر أن ينبه على الخصوص.
أما إرادة السبعة بالعشرة، والبقرة بالإبل، فليس من كلام العرب، بخلاف ما ذكرناه.
1 هذه الزيادة من المستصفى.
2 هذا هو الرد على الدليل الثالث وهو قولهم: "إنه لا خلاف أنه لو قال: "في خمس من الإبل شاة": يريد به: في خمس من البقر: لم يجز
…
إلخ" فبين أن هذا إنما يلزم إذا كانت دلالة العام دلالة قطعية، وهو أمر غير مسلم، فدلالة العام دلالة ظنية -كما سيأتي-.
3 في الأصل "ولا" وما أثبتناه من المستصفى.
4 معناه: أن العربي قد يتكلم باللفظ العام ويريد به الخصوص، فيقول -مثلًا- "للبنت النصف من الميراث" فيقال له: فالبنت الرقيقة والكافرة لا ترث شيئًا فيقول: ما خطر ببالي هذا، وإنما أردت غير الرقيقة والكافرة.
وأما إرادة السبعة بالعشرة، فليس من كلام العرب.
انظر: المستصفى "3/ 77" تحقيق الدكتور حمزة حافظ.