الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: القسم الثاني: المندوب
…
القسم الثاني: المندوب 1
والندب في اللغة: الدعاء إلى الفعل. كما قال:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهانا2
= ومثله الطبيب في مكان ناء عن المدن، ولم يوجد غيره أصبح إسعاف المريض بالنسبة له فرض عين.
أيهما أفضل: فرض العين أم فرض الكفاية؟
للعلماء في هذه المسألة رأيان:
الرأي الأول: أن فرض العين أفضل، لشدة اعتناء الشارع به، ولذلك طلب فعله من كل مكلف ولذلك يكره ترك فرض العين لأداء فرض الكفاية، فلا يحسن ترك الطواف المفروض لصلاة الجنازة، لأن الأول فرض عين، والثاني فرض كفاية.
وهذا هو رأي الشافعية وغيرهم.
الرأي الثاني: أن فرض الكفاية أفضل، لأن فاعل الكفاية ساع في صيانة الأمة كلها عن المأثم، أما فرض العين فإنه يصان به الإثم عن الفاعل فقط، ولا شك أن ما يتعلق بالأمة كلها أهم، وأولى مما يتعلق بالبعض.
وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، وإمام الحرمين ووالده.
انظر: "التمهيد اللإسنوي، حاشية البناني على شرح جمع الجوامع جـ1 ص183، الإبهاج للسبكي 1/ 100 طبعة الكليات الأزهرية، نهاية السول للإسنوي 1/ 94، الوجيز في أصول الفقه للدكتور عبد الكريم زيدان ص37، الطبعة الثانية.
1 القسم الثاني: من أقسام الحكم التكليفي: المندوب. ويسمى: سنة ومستحبًّا وتطوعًا وطاعة ونفلًا وقربة ومرغبًا فيه وإحسانًا. وهي اصطلاحات مستحدثة في المذاهب، والمتفق عليه بين المتقدمين: الفرض والسنة.
2 الشاعر هو: قريط بن أنيف العنبري، والبيت من القصيدة له يهجو بها قومه، ويمدح بني مازن الذين استنقذوا إبله بعد أن تخلى عنه قومه. انظر: شرح ديوان الحماسة للتبريزي "1/ 19".
وحده في الشرع: مأمور لا يلحق بتركه ذم، من حيث تركه من غير حاجة إلى بدل1.
وقيل: هو ما في فعله ثواب، ولا عقاب في تركه.
والمندوب مأمور [به] . وأنكر قوم كونه مأمورًا [به] قالوا: لأن الله -سبحانه- قال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} 2. والمندوب لا يحذر فيه ذلك.
ولأن3 النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"4. وقد ندبهم إلى السواك، علم أن الأمر لا يتناول المندوب.
1 قوله: "مأمور" جنس يتناول الواجب والمندوب، وقوله:"لا يحلق بتركه ذم...." أعم من أن يكون تركه مطلقًا أو إلى بدل، فيشمل: الواجب الموسع، والمخير، وفرض الكفاية، لأن جميعها مأمورات يجوز تركها، لكن إلى بدل، فلما قال:"من غير حاجة إلى بدل" أخرج ذلك كله وأبقى المندوب.
2 سورة النور من الآية: 63 وهي الدليل الأول للقائلين بأن المندوب غير مأمور به.
3 هذا هو الدليل الثاني للقائلين بأن المندوب غير مأمور به.
4 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب التمني "887" ومسلم: كتاب الطهارة، باب السواك "252" وأبو داود: كتاب الطهارة، باب السواك "46" والنسائي: كتاب الطهارة، باب السواك "1/ 12" والترمذي حديث رقم "23" وابن ماجه "287"، والطحاوي في شرح معاني الآثار "1/ 403" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. كما رواه عن زيد بن خالد الجهني: أحمد في مسنده "4/ 114، 116"، وأبو داود "47" والترمذي "23" وقال: هذا حديث حسن صحيح.
ورواه أحمد والطحاوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ووجه الدلالة من الحديث -كما قال أصحاب هذا المذهب-: أن السواك مندوب، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر أمته =
ولأن1 الأمر: اقتضاء جازم لا تخيير معه، وفي الندب تخيير، ولم يسم تاركه عاصيًا.
ولنا2 أن الأمر: استدعاء وطلب، والمندوب مستدعًى ومطلوب، فيدخل في حقيقة الأمر. قال الله تعالى-:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} 3 وقال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} 4. ومن ذلك ما هو مندوب.
ولأنه6: شاع في ألسنة الفقهاء: أن الأمر ينقسم إلى أمر إيجاب وأمر استحباب.
= بالسواك، فلا يكون المندوب مأمورًا به. وقد أجاب المصنف على ذلك كما سيأتي.
1 هذا هو الدليل الثالث وخلاصته: أن الأمر طلب فعل جازم لا تخيير فيه، وتاركه يسمى عاصيًا، لقول الله تعالى -عن موسى عليه السلام لأخيه-:{أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93] والمعنى: عصيتني بمخالفة أمري، والمندوب على عكس ذلك، فليس فيه طلب جازم، وإنما فيه تخيير بين الفعل والترك، كما أن تاركه لا يسمى عاصيًا، فدل ذلك على أن ليس مأمورًا به.
2 من هنا سيبدأ المصنف في إيراد الأدلة على أن المندوب مأمور به.
3 سورة النحل من الآية: 90.
4 سورة لقمان من الآية: 17.
5 ومثلهما قوله تعالى في سورة الحج الآية: 77: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
ووجه الدلالة من هذه الآيات: أن من المأمور به ما هو واجب، ومنه ما هو مندوب، فمن الإحسان وإيتاء ذي القربى ما هو على سبيل الجزم، ومنه ما هو على سبيل الاستحباب والندب، وكذلك الأمر بالمعروف، وفعل الخير، فثبت بذلك: أن الأمر يطلق على المندوب، كما يطلق على الواجب، وهذا هو الدليل الأول.
6 هذا هو الدليل الثاني.
ولأن1: فعله طاعة، وليس ذلك لكونه مرادًا، إذ الأمر يفارق الإرادة، ولا لكونه موجودًا؛ فإنه موجود في غير الطاعات "أو حادثًا، أو لذاته، أو صفة نفسه؛ إذ يجري ذلك في المباحات"2. ولا لكونه مثابًا؛ فإن الممتثل يكون مطيعًا وإن لم يثب، وإنما الثواب للتراغيب في الطاعات.
وقولهم3: "إن الأمر ليس فيه تخيير" ممنوع.
1 هذا هو الدليل الثالث.
2 ما بين القوسين من المستصفى، والذي في الروضة "فإنه في غير الطاعات" وهي توهم أن المندوب كما يكون في الطاعات يكون غير غيرها، وهو خطأ، فالمصنف بحذفه هذه العبارات جعل المعنى مختلًا. وخلاصة هذا الدليل: أن الندب أمر وفيه طاعة، وهذه العبارة ليست باعتبار كون الأمر مرادًا، لأن الأمر يفارق الإرادة، ولا باعتبار كونه موجودًا أو حادثًا أو لذاته أو صفة نفسه، فهذا كله موجود في المباحات، ولا باعتبار كونه مثابًا عليه، فإن المأمور يعتبر مطيعًا حتى ولو لم يثب، فإن الثواب للترغيب، فقد يحبط عمله بالفكر، فثبت بذلك كله أن المندوب داخل في الأمر.
انظر: "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص115".
3 بدأ المصنف ينافش أدلة المخالفين. فبدأ بمناقشة الدليل الأول: وهو: "أن الطلب والتخيير متنافيان" فقال: هذا غير صحيح، لأن الطلب قد يكون جازمًا وقد يكون غير جازم.
ولو سلمنا -جدلًا- بأن الطلب والتخيير متنافيان، فنقول: إن الندب ليس تخييرًا مطلقًا، بدليل أن الفعل فيه أرجح من الترك، للثواب على فعله، وعدم الثواب في تركه. ولم يسم تاركه عاصيًا، لأن الله تعالى هو الذي أسقط عنه هذا، لأن الأمر فيه ليس جازمًا.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "..... لأمرتهم بالسواك...." لا يدل على مدّعاكم، لأن المنفي في الحديث: هو الأمر على سبيل الجزم والوجوب، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم ندبهم إلى هذه السنة وأمرهم بها في بعض الأحاديث الأخرى، كقوله صلى الله عليه وسلم: =
وإن سلمنا: فالمندوب كذلك، لأن التخيير عبارة عن التسوية، فإذا ترجح جهة الفعل ارتفعت التسوية والتخيير.
ولم يسم تاركه عاصيًا، لأنه اسم ذم، وقد أسقط الله -تعالى- الذم عنه، لكن يسمى مخالفًا وغير ممتثل، ويسمى فاعله موافقًا ومطيعًا.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ".... لأمرتهم بالسواك....." أي: أمرتهم أمر جزم وإيجاب.
وقوله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} يدل على أن الأمر يقتضي الوجوب، ونحن نقول به، لكن يجوز صرفه إلى الندب بدليل، ولا يخرج بذلك عن كونه أمرًا، كما ذكرناه في دليلنا. والله أعلم.
القسم الثالث: المباح
وحدّه: ما أذن الله في فعله وتركه، غير مقترن بذم فاعله وتاركه ولا مدحه1.
= "تسننوا ولا تدخلوا عليّ قُلْحًا بُخْرا"[رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من حديث عبد الله بن بشر المازني. والقلح: الذي أصفرت اسنانه حتى بخرت من باطنها] . والجمع بين الحديثين يكون بحمل الأول على الندب، والحديث الذي معنا الذي نفى الأمر على الإيجاب، حتى لا يكون هناك تعارض في الأدلة الشرعية، والرد على الاستدلال بالآية الكريمة واضح.
1 هذا أحد التعريفات الشرعية للمباح، وعرفه البعض بأنه: ما اقتضى خطاب الشرع التسوية بين فعله وتركه من غير مدح يترتب عليه ولا ذم.
أما معناه في اللغة: فمأخوذ من الإباحة، وهي: الإظهار، يقال: باح بسره، إذا أظهره: وقيل: مأخوذ من باحة الدار وهي ساحتها، إذ فيه معنى السعة =
وهو من الشرع1.
وانتفاء العائق، لأن الساحة تتسع للتصرف فيها بالسعي والحركة بحسبها، والعائق من ذلك منتف فيها.
انظر: "القاموس المحيط فصل الباء، باب الحاء، شرح مختصر الروضة 1/ 386".
1 وهذا هو رأي جمهور العلماء، واستدلوا على ذلك: بأن الإباحة عبارة عن خطاب الشارع بالتخيير بين الفعل والترك، فمعنى الإباحة: قول الشارع: أبحت لكم هذا، أو أنتم مخيرون في فعله وتركه، وهذا يتوقف على خطاب الشارع، فتكون الإباحة حكمًا شرعيًّا.
وذهب بعض المعتزلة ومنهم الكعبي: "عبد الله بن أحمد، رأس طائفة من المعتزلة تسمى الكعبية. توفي سنة 319هـ" ذهب إلى أن الإباحة حكم عقلي، إذ إنها عبارة عن انتفاء الحرج عن المكلف، وذلك ثابت قبل ورود الشرع.
وأجاب الجمهور على ذلك: بأن الإباحة عبارة عن خطاب الشارع بالتخيير، وهذا متوقف على ورود الشرع. والخلاف بين الجمهور والمعتزلة في هذه المسألة متفرع على مسألة أخرى هي: الحسن والقبح في الأشياء، هل هي شرعية أو عقلية، فلا بد من بيان ذلك.
معنى الحسن والقبح:
يطلق الحسن والقبح على معان ثلاثة:
المعنى الأول: أن الحسن: ما يلائم الفطرة الإنسانية المائلة إلى جلب المنافع ودفع المضار.
والقبح: ما ينافر الفطرة: فإنقاذ الإنسان من تهلكة حسن، وترك إنقاذه قبيح.
المعنى الثاني: أن الحسن: صفة كمال يستحق فاعله المدح من العباد في الدنيا.
والقبح: صفة نقص يستحق فاعله الذم من العباد في الدنيا. فالعلم حسن، والجهل قبيح.
وهذان المعنيان لا خلاف بين العلماء في أنهما عقليان أي أن الفعل يستقل بإدراك ما فيهما من حسن أو قبيح من غير توقف على الشرع.
........................................................................................................
= المعنى الثالث: الحسن: ما يستحق فاعله المدح من الله تعالى، والثواب في الآخرة، كالصدق والتواضع، والجود.
والقبح: ما يستحق فاعله الذم من الله تعالى، والعقاب في الآخرة، كالكذب والتكبر، والبخل.
وهذا النوع هو الذي جرى فيه الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة والجماعة.
فالمعتزلة يرون أنهما عقليان، أي أن العقل يستطيع أن يدرك ما فيهما من حسن أو قبح، وأن الوقوف على حكم الله تعالى لا يفتقر إلى ورود الشرع، لاعتقادهم وجوب مراعاة المصالح والمفاسد، وهذا أمر يدركه العقل، والشرائع تأتي مؤكدة لذلك، وأن الله تعالى عليه أن يأمر وينهى على وفق ما في الأفعال من حسن أو قبح.
أما أهل السنة: فإنهم يقولون: لا يعلم ذلك إلا من جهة الشرع، إذ لا حاكم إلا الله تعالى، فالحسن ما حسنه الشرع، والقبيح، ما قبحه الشرع، وأما العقل فلا يحسّن، ولا يقبّح، ولا يوجب ولا يحرّم.
سبب الخلاف:
وسبب الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة: أن المعتزلة يرون أن حسن الأشياء أو قبحها ذاتي، وأهل السنة يرون أنهما تابعان لصفات قائمة بهما.
ومن المؤكد أن رأي أهل السنة: هو الأرجح، وإلا لو كان حسن الأشياء أو قبحها ذاتيًّا، لكان الصدق حسنًا في كل الأحوال، ولكان الكذب قبيحًا في كل صوره، مع أن هذا مخالف للواقع.
وقد أطال العلماء في الرد على مسلك المعتزلة ومن معهم، ومن أقوى الأدلة الدالة على بطلان مذهبهم: قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] فإن هذا النص الكريم يقتضي نفي التعذيب بمباشرة بعض الأفعال وترك بعضها قبل بعثة الرسل، ومذهب المعتزلة يستلزم تعذيب تارك الأفعال ومباشرة بعضها قبل بعثة الرسل، لأن الحسن والقبح -على مذهبهم- يتحقق قبل البعثة، والحسن في بعض الأفعال مستلزم لكونه واجبًا، والقبح في بعضها مستلزم لكونه حرامًا، فيكون بعض الأفعال قبل البعثة واجبًا، =
وأنكر بعض المعتزلة ذلك؛ إذ معنى الإباحة: نفي الحرج عن الفعل والترك، وذلك ثابت قبل ورود السمع، فمعنى إباحة الشيء: تركه على ما كان قبل السمع.
قلنا1: الأفعال ثلاثة أقسام:
قسم صرح فيه الشرع بالتخيير بين فعله وتركه، فهذا خطاب، ولا معنى للحكم إلا الخطاب.
وقسم لم يرد فيه خطاب بالتخيير، لكن دل دليل السمع على نفي الحرج عن فعله وتركه، فقد عرف بدليل السمع، ولولا هو لعرف بدليل العقل نفي الحرج عنه، فهذا اجتمع عليه دليل العقل والسمع.
وقسم لم يتعرض الشرع له بدليل من أدلة السمع، فيحتمل أن يقال: قد دل السمع على أن ما لم يرد فيه طلب فعل ولا ترك، فالمكلف فيه مخير.
وهذا دليل على العموم فيما لا يتناهى من الأفعال، فلا يبقى فعل لا مدلول عليه سمعًا، فتكون إباحته من الشرع.
ويحتمل أن يقال: لا حكم له، والله أعلم.
= وبعضها حرامًا، وترك الواجب يقتضي استحقاق العقاب، كما أن فعل الحرام يستوجب العقاب أيضًا. فيؤدي ذلك في النهاية إلى إثبات أحكام شرعية، قبل البعثة وهو مخالف لمقتضى الآية الكريمة. انظر:"بيان المختصر للأصفاني جـ1 ص287 وما بعدها".
1 بدأ المصنف يرد على المعتزلة الذين قالوا: إن الإباحة حكم عقلي، فبين أن المسألة فيها عدة احتمالات، وبعضها للعقل فيه مجال، إلا أنها في النهاية ترجع إلى الشرع، وهي -كما سبق- راجعة إلى مسألة الحسن، والقبح هل هما عقليان أو شرعيان؟