الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الثاني في الأعضاء التي يجب السجود عليها
المسألة الأولى في حكم السجود على الجبهة
المدخل إلى المسألة:
• ثبت الأمر بالسجود على الجبهة، والأصل في الأمر الوجوب.
• الذي أشار بيده على أنفه إنما هو طاوس، وليس من فعل ابن عباس، فضلًا أن يكون مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
• لا يوجد دليل صحيح مرفوع يأمر بالسجود على الأنف، والسجود عليه ثابت بالسنة الفعلية، والفعل لا يدل على الوجوب.
• استيعاب العضو الواحد في السجود ليس بواجب بالإجماع.
• الأنف تابع للجبهة، في السجود، وليس العكس، كما أن الأذن تبع للرأس في المسح، ولو اكتفى بمسح الأذن عن مسح الرأس لم يجزئه.
[م-656] اتفق الفقهاء على أن السجود يكون على سبعة أعضاء،
(ح-1804) لما رواه البخاري ومسلم من طريق وهيب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه،
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة، وأشار بيده على أنفه، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين
…
الحديث
(1)
.
[م-657] واختلف العلماء في هذا الأمر، أهو للوجوب أم للندب؟
(1)
. صحيح البخاري (812)، وصحيح مسلم (230 - 490).
وعلى القول بأنه للوجوب، أهو شامل لجميع الأعضاء، أم يختص ببعضها دون بعض؟
أما الخلاف في الجبهة:
فقيل: السجود على الجبهة ركن من أركان الصلاة على التعيين، فلو ترك السجود عليها في حال الاختيار لا يجزئه، وهو رواية أسد بن عمرو عن أبي حنيفة، وبه قال صاحباه وزفر، وإليه صح رجوع الإمام إليه، وعليه الفتوى، وهو مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة
(1)
.
قال ابن عابدين: «وأما جواز الاقتصار على الأنف فشرطه العذر على الراجح»
(2)
.
وقال النووي: «أما الجبهة فجمهور العلماء على وجوبها، وأن الأنف لا يجزي عنها»
(3)
.
وقال أبو حنيفة: الفرض: الجبهة، أو الأنف من غير تعيين، فإن اقتصر على
(1)
. الأصل (1/ 13، 210)، المبسوط (1/ 34)، مختصر القدوري (ص: 27)، كنز الدقائق (ص: 163)، الدر المختار شرح تنوير الأبصار (ص: 68)، حاشية ابن عابدين (1/ 498، 499)، العناية شرح الهداية (1/ 303)، البحر الرائق (1/ 335)، تبيين الحقائق (1/ 116)، الهداية شرح البداية (1/ 51)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 51)، الجوهرة النيرة (1/ 53).
وقال خليل في مختصره (ص: 32): «وسجود على جبهته -أي من فرائض الصلاة- وأعاد لترك أنفه بوقت، وسن على أطراف قدميه، وركبتيه، كيديه على الأصح» .
وقال ابن القاسم كما في التاج والإكليل (2/ 216): «إن سجد على الأنف دون الجبهة أعاد أبدًا» .
وانظر: منح الجليل (1/ 250)، جامع الأمهات (ص: 97)، التوضيح لخليل (1/ 359)، مواهب الجليل (1/ 521)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/ 240)، شرح التلقين (2/ 528)، منح الجليل (1/ 250).
وانظر في مذهب الشافعية: الأم (1/ 137)، الحاوي الكبير (2/ 126)، المجموع (3/ 422، 424)، فتح العزيز (3/ 451)، روضة الطالبين (1/ 256)، المهذب (1/ 145)، منهاج الطالبين (ص: 27)، تحفة المحتاج (2/ 71)، مغني المحتاج (1/ 372)، نهاية المحتاج (1/ 511)، شرح منتهى الإرادات (1/ 179)، الإقناع (1/ 121)، الكافي (1/ 252)، كشاف القناع (1/ 351)، مسائل حرب الكرماني، تحقيق الغامدي (ص: 171)، المغني (1/ 370)، الفروع (2/ 200)، المبدع (1/ 400)، الإنصاف (2/ 67).
(2)
. حاشية ابن عابدين (1/ 447).
(3)
. المجموع (3/ 424).
الأنف وحده جاز مع الكراهة، وإن اقتصر على الجبهة فقولان عن أبي حنيفة:
ففي التحفة والبدائع: لا يكره عنده.
وفي المفيد والمزيد والدر المختار يكره الاقتصار على أحدهما
(1)
.
قال ابن المنذر عن قول أبي حنيفة: «وهو قول لا أحسب أن أحدًا سبقه إليه، ولا تبعه عليه»
(2)
.
وأبو حنيفة عاصر التابعين، ومع ذلك انظر كيف تعقبه ابن المنذر في كون هذا القول لم يسبق إليه، فماذا يقول ابن المنذر فيما يتفرد به ابن حزم مع تأخره، ويخالف فيه الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم.
ولم ينفرد به أبو حنفية، قال ابن رجب: «ولو اقتصر على أنفه دون جبهته لم
(1)
. اختلف الحنفية في تفسير الكراهة أهي للتحريم، أم للتنزيه، على قولين:
ولم يستبعد ابن الهمام في الفتح حمل الكراهة على التحريم بناء على أصول المذهب.
وجه حملها على التحريم: أن الأمر بالسجود على الأنف جاء بطريق الآحاد، وهو ظني الثبوت، والأمر بالسجود نفسه جاء بالقرآن وهو قطعي الثبوت، فيكون السجود فرضًا، والسجود على الأنف واجبًا؛ وترك الفرض يعبر عنه الحنفية بالتحريم، وترك الواجب يعبر عنه الحنفية بالكراهة ويقصدون التحريمية، كما قال الحنفية: القراءة في الصلاة ركن، وقراءة الفاتحة واجبة، قال أصحاب هذا التفسير: فلو قلنا بركنية السجود على الأنف لزم منه الزيادة على الكتاب، والزيادة على النص نسخ، والآحاد لا ينسخ القطعي، فكان مقتضى الأمر بالسجود على الأنف بحديث ابن عباس، وهو آحاد، والمواظبة عليه من النبي صلى الله عليه وسلم دليل على وجوبه، لا على ركنيته، وترك الواجب يكره تحريمًا لا تنزيهًا.
وسبق لي مناقشة الحنفية في تأصيلهم هذا، والمهم عندي هنا فهم القول، لا بيان صوابه من ضعفه. انظر فتح القدير (1/ 304)، وحاشية ابن عابدين (1/ 489، 499)، الدر المختار شرح تنوير الأبصار (ص: 68)، البحر الرائق (1/ 335، 336).
وجاء في بدائع الصنائع (1/ 105): «قال أبو حنيفة: هو الجبهة أو الأنف من غير تعيين، حتى لو وضع أحدهما في حالة الاختيار يجزيه، غير أنه لو وضع الجبهة وحدها جاز من غير كراهة، ولو وضع الأنف وحده يجوز مع الكراهة» .
وانظر: الأصل (1/ 13، 210)، تبيين الحقائق (1/ 116)، البحر الرائق (1/ 335)، الهداية في شرح البداية (1/ 51)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 51)، الجوهرة النيرة (1/ 53).
(2)
. الأوسط (3/ 177)، وانظر: المجموع (3/ 425).
يجزئه عند أحد من العلماء ممن أوجب السجود على الأنف غير أبي حنيفة، وهي رواية عن الثوري، رواها عنه حسان بن إبراهيم»
(1)
.
وعند أبي الفرج المالكي في الحاوي أن من اقتصر على الأنف دون الجبهة تجزئه صلاته ويعيد في الوقت
(2)
.
• دليل الجمهور على أن السجود على الجبهة فرض:
الدليل الأول:
(ح-1805) ما رواه أبو داود من طريق أبي عامر العَقَدِيِّ، قال: حدثنا فليح ابن سليمان، عن عباس بن سهل، قال: اجتمع أبو حميد، وأبو أسيد، وسهل بن سعد، ومحمد بن مسلمة، فذكروا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر بعض هذا، قال: ثم ركع فوضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما، ووتر يديه فتجافى عن جنبيه، قال: ثم سجد فأمكن أنفه وجبهته
…
الحديث
(3)
.
[حسن في الجملة، وسبق تخريجه]
(4)
.
الدليل الثاني:
(ح-1806) روى البخاري ومسلم من طريق وهيب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه،
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة، وأشار بيده على أنفه، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين
…
الحديث
(5)
.
وجه الاستدلال:
أنه ذكر الجبهة بالنص، وأشار إلى الأنف فدل على أن الأنف تابع للجبهة، في
(1)
. فتح الباري لابن رجب (7/ 257).
(2)
. الجامع لمسائل المدونة (2/ 509)، التبصرة للخمي (1/ 287).
(3)
. سنن أبي داود (734).
(4)
. انظر تخريجه في هذا المجلد، (ح 1748).
(5)
. صحيح البخاري (812)، وصحيح مسلم (230 - 490).
السجود، وليس العكس، كما أن الأذن تبع للرأس في المسح، ولو اكتفى بمسح الأذن عن مسح الرأس لا يجزئه.
• دليل أبي حنيفة القائل بأن الفرض: الجبهة أو الأنف من غير تعيين:
الدليل الأول:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77].
وجه الاستدلال:
أن الأمر في الآية تعلق بالسجود مطلقًا من غيرتعيين، ثم انعقد الإجماع على تعيين بعض الوجه، فلا يجوز تعيين غيره، والأنف بعض الوجه كالجبهة، ولا إجماع على تعيين الجبهة، فلا يجوز تعيينها، فيبقى الأمر على التخيير بين الجبهة والأنف.
• ويناقش من وجهين:
الوجه الأول:
إن كان المقصود بالإجماع إجماع الأمة فلا يصح؛ لأن الحنابلة يقولون بوجوب السجود على جميع الأعضاء بما فيها الأنف.
وإن كان المقصود بالإجماع إجماع الحنفية، فغير مسلم أيضًا فهذا زفر يقول بوجوب السجود على جميع الأعضاء عدا الأنف، ومحمد بن الحسن وأبو يوسف يقولان بوجوب السجود على الجبهة على وجه التعيين، فلا يصح دعوى الإجماع لا في مذهب الحنفية، ولا في أقوال الأئمة.
الوجه الثاني:
أن الأمر بالسجود في الآية مجمل، وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، فأشار إلى الأنف، وسبق ذكره، وتخريجه.
الدليل الثاني:
(ح-1807) روى البخاري ومسلم من طريق وهيب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه،
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة، وأشار بيده على أنفه، واليدين، والركبتين، وأطراف
القدمين
…
الحديث
(1)
.
وجه الاستدلال:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الجبهة أشار إلى الأنف، وفيه إشارة إلى أنهما في حكم العضو الواحد، واستيعاب العضو الواحد في السجود ليس بواجب بالإجماع، كما لو سجد على كفه دون أصابعه، أو سجد على بعض أصابع رجليه فلا تتعين الجبهة دون الأنف.
• ونوقش من وجهين:
الوجه الأول:
أن الذي أشار بيده على أنفه إنما هو طاوس، وليس من فعل ابن عباس، فضلًا أن يكون مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسوف أبين ذلك عند البحث على حكم السجود على الأنف.
الوجه الثاني:
أن الأنف تابع للجبهة وليس العكس، ولهذا نص على الجبهة بالذكر، وأشار إلى الأنف، والتابع تابع، لا يستقل بنفسه، فالسجود عليه وحده إسقاط لما هو فرض أصالة، واستغناء بالتابع عن الأصل.
الدليل الثالث:
أن الأنف محل للسجود بالإجماع، بدليل جواز السجود عليه عند العذر، فجاز الاقتصار عليه كالجبهة.
• ونوقش من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول:
جواز السجود على الأنف عند العذر مسألة خلافية، فالمالكية والحنابلة ذهبوا إلى أنه إذا عجز بالجبهة أومأ ما أمكنه، فلا يصح الإلزام.
الوجه الثاني:
على فرض جواز الاكتفاء بالأنف عند العذر، فلا يصح القياس عليه في غير المعذور،
(1)
. صحيح البخاري (812)، وصحيح مسلم (230 - 490).
فقياس الصحيح على المعذور قياس مع الفارق، فالضرورة لها أحكامها، والعذر يسقط به القيام والركوع وغيرهما من الفرائض المجمع عليها، فلا يصح القياس عليه.
الوجه الثالث:
لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الصحابة، القول بجواز الاقتصار على الأنف، والمقصود بالسجود التذلل والخشوع، ولا يقوم الأنف مقام الجبهة في ذلك.
الدليل الرابع:
أن الأنف أحد محلي سجود الوجه، فجاز الاقتصار عليه كالجبهة.
• ونوقش:
الأنف محل لكمال السجود، وما كان كذلك لا يجوز الاقتصار عليه، ألا ترى أن الكفين والركبتين وأصابع القدمين محل لكمال السجود، ولا يجوز الاقتصار عليها دون الجبهة، وكذلك الأذنان محل لكمال المسح على الرأس، ولو اقتصر على مسحهما لم يجزه
(1)
.
• الراجح:
أن السجود على الأنف وحده لا يجزئ، وكراهة أبي حنيفة الاقتصار على الأنف وحده قد اختلف أصحابه في تفسيرها، فذهب بعضهم إلى أنها كراهة تحريمية، وعليه يكون السجود على الأنف واجبًا، والقول بأنها كراهة تنزيهية ليس هو المعتمد في مذهب الحنفية، فالفتوى في المذهب على أنه لا يجزئ السجود على الأنف، والله أعلم.
* * *
(1)
. انظر التعليقة الكبرى لأبي الطيب الطبري (ص: 394).