الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: فوائد معرفة الحكم:
إن معرفة حِكم أوامر الله وشريعته لها فوائد كثيرة وغايات نبيلة وسأورد في هذا المبحث بإذن الله ما يسعني جمعه، إذ لا يدرك أحد مرام هذه الفوائد ولا يحيط بجميع تلك المقاصد فهي في سعتها كالبحر الزاخر، وفي حسنها كاللآلئ والجواهر ومن تلك الفوائد ما يلي:
1 -
إن معرفة الحِكم من أجل المسائل الإلهية
(1)
:
فحين يكون العبد على علم بتلك الحكم، ويعلم أن الشريعة ما جاءت إلا بجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، ويعلم أن الزكاة فيها تطهير للنفس والمال، كما قال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)} [التوبة: 103] وأن تحريم الربا مثلا فيه صيانة المجتمع عن جشع أصحاب الأموال و غير ذلك من الحِكم الكثيرة، ترسخ يقينه أن مالك الملك وخالقه سبحانه وتعالى هو المتصرف في الكون فأي نفع وضر أو خير أو بلاء، وأي تصريف وتقدير هو من عند الله تعالى، فيوقن أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه.
حينها تنكشف للعبد أسرار الربوبية ومعانيها، فلا يحب إلا الله ولا يرجو سواه ولا يخاف إلا منه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوقن إلا بوعده، ولا يدعو إلا إياه، ولا يراقب سواه وهذا هو التأله الحق والتعبد لله سبحانه وتعالى
(2)
، فيجب أن يكون المكلف على علم به إذ هو من أسنى المقاصد و هو قطب رحى التوحيد ونظامه ومبدأ الدين المبين وختامه.
(3)
(1)
انظر: منهاج السنة النبوية. شيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 39).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى. (1/ 89).
(3)
شفاء العليل، ابن القيم (1/ 2).
2 -
تحقيق مراد الله تعالى من الحُكْم:
إن المكلف حين يكون على علم بالحكمة التي تتعلق بما شرعه الله تعالى فإن ذلك يكون أدعى له في تحقيق مراد الله عز وجل منه في هذه المسألة. ففرق بين عبد يقوم للصلاة ينقرها نقر الديك، ويؤدي حركات بلا تفكر في هذه الصلاة، وبين عبد يقوم للصلاة مستشعرا أنه بين يدي الله تعالى، وأن هذه الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
وشتان بين صائم عن الأكل والشرب والجماع، وجوارحه تطيش في الحرام وتعمل فيه وبين من صامت جوارحه عما حرم الله قبل أن يصوم عن الأكل والشرب.
يبين هذا ما ورد عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليصلى الصلاة ما يكتب له منها إلا عشرها تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها)
(1)
، فبيّن الحديث أن العبد يصلي الصلاة الواحدة بأركانها ولكن يقبل منه على قدر ما وعى منها.
وكذلك في الصيام فقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)
(2)
فأي صوم هذا الذي لم يمنع الإنسان عن ارتكاب ما حرم الله.
وكذلك النكاح فإن من حكمه: الإحصان والبعد عما حرم الله كما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب من استطاع الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)
(3)
، فما بالك برجل قد أنعم الله عليه بالزواج ثم هو يرتكب ما حرم الله من الفاحشة والعياذ بالله!!! ولذلك كانت عقوبة الزاني المحصن أشد من الزاني غير المحصن.
(1)
أخرجه أحمد في مسنده برقم (18914)، وقال شعيب الأرناؤوط في تعليقه على المسند: حديث صحيح وصححه الألباني في صفة الصلاة (ص 36).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم برقم (1804)
(3)
رواه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب من لم بستطع الباءة فليصم، برقم (4779) ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤونة واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم، برقم (1400).
فإذا علم المكلف هذه الحِكم واستشعرها أقبل على ربه حين يصلي خاشعا متخشعا سائلا مولاه أن تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، وصام حتى تصوم نفسه وجوارحه عما حرم الله، وإذا أراد النكاح كانت نيته أن يعف نفسه، وأن يرزقه الله ذرية طيبة، فإن لم يستطع بَذَل جميع الوسائل في إعفاف نفسه، وهكذا يكون حاله في جميع ما أمر الله به أو نهى عنه بعيدا عن التخبط قريبا إلى الصواب، إذا وفقه الله وكان على علم بهذه الحكم.
(1)
3 -
إن معرفة الحكم من الأمور التي تعين العبد على شكر ربه وذكر آلائه:
فإن الله تعالى كما خلق الإنسان في أحسن تقويم، وكما يسر الله له من أمور معاشه ما يقتات به ويصلح أمره، فقد جعل شريعته ودينه أكمل الشرائع وأعظمها وأحسنها وأحكمها، فقد كمل لنا الدين وأتم لنا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا كما قال تعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وامتن علينا في غير ما آية بهذا الدين القويم والرسول الأمين صلى الله عليه وسلم فقال: {{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164] وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2] وهذه المنة بهذا الشريعة الغراء التي هي شاهدة على كمالها بذاتها تستوجب من العباد شكر معبودهم جل وعلا، فكيف بمن اطلع على شيء من حكمته تعالى في دينه، وعلم بعضا من أسرار شريعته أفلا يجدر به - بطريق الأوْلى - أن يكون من الشاكرين؟!
(2)
4 -
زيادة الإيمان واطمئنان القلب:
وذلك أن الحُكْم إذا أتى من الشارع سبحانه وتعالى سلّم العبد وانقاد للعمل به لأنه تنزيل من حكيم حميد كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ
(1)
انظر: حجة الله البالغة. الكاندهلوي (1/ 62) ، مقاصد الشريعة عند ابن تيمية (103).
(2)
انظر: مفتاح دار السعادة، ابن القيم (2/ 308).
الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 18]، فإذا علم الحكمة والفائدة من العمل ازداد إيمانه وترسخ يقينه واطمئن قلبه، حيث تكثر بذلك الدلائل وتكثر طرق العلم وهما يثلجان الصدر ويزيلان اضطراب القلب.
(1)
ويقول التفتازاني
(2)
: وبه أي التعليل يكون سرعة الإذعان وزيادة الاطمئنان بالأحكام
(3)
.
5 -
بيان أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان:
(4)
فمعرفة الحِكَم مما يكفل استمرار الشريعة وديمومتها في كل زمان ومكان، منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا وحتى تقوم الساعة، وما تنزل على الأمة نازلة أو تطرأ عليهم مسألة إلا وهم بحاجة إلى النظر في الحكمة والمقصد من التشريع، في القياس واستنباط الأحكام الشرعية من الوقائع المستجدة التي لم يدل عليها دليل، وذلك أن هذه الحكم إنما هي مستخلصة من الأدلة الشرعية
(5)
6 -
معرفة الحِكَم فيه رد على المبتدعين، وحصانة من الوقوع في شراك الكائدين.
فإن كثيرا من المبتدعة والملاحدة ردوا قدرا كبيرا من الأحكام وأصول الدين بحجة مخالفتها للعقل- زعموا-، وقاموا على هذه الأحكام بالإنكار والتأويل.
ولا سبيل إلى مجابهة بهتانهم وضلالهم إلا بمعرفة أوجه الحكمة من الأحكام وتبيينها فإذا تبين للمكلف ذلك استطاع أن يظهر ما أخفوه من محاسن الشريعة، وأن يكون متحصنا من الشبهات والشعارات التي ينادي بها من أرادوا أن يحكموا قوانين البشر بحجة عدم ملائمة الشريعة لهذا الزمان، وأن يكشف زيفهم وما تبطن قوانينهم من الظلم والجهل
(6)
.
(1)
انظر: حجة الله البالغة (1/ 62)، مقاصد الشريعة عند ابن تيمية (103).
(2)
هو مسعود بن عمر بن التفتازاني الشافعي، لغوي منطقي أصولي، ت (792 هـ). انظر: كشف الظنون (1/ 496)
(3)
شرح التلويح على التوضيح، (2/ 144).
(4)
انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور (ص 184) ، طرق الكشف عن مقاصد الشارع (ص 57).
(5)
انظر: أهمية المقاصد في الشريعة الإسلامية، سميح الجندي (ص 69، 137).
(6)
انظر: حجة الله البالغة (1/ 639) ، مقاصد الشريعة عند ابن تيمية (103).
7 -
معرفة الحكم تعين على فهم الأدلة والأحكام الشرعية
(1)
فمن المعلوم أن دلائل الألفاظ تتفاوت، فمن المتكلمين من هو أقدر على نصب العلامات على المراد من كلامه منه من بعض آخر، ومنهم من يتطرق الاحتمال في كلامه أكثر مما يتطرق إلى شخص آخر، ولذلك فإن الكلام لا يستغني أن تحفه ملامح من السياق ومبينات الألفاظ، ومقامات الخطاب فتكون معينة على فهم مراد المتكلم. وإزالة الاحتمالات المتطرقة له.
وإن أدق مقام في الدلالة وأحوجه إلى الاستعانة عليها هو مقام التشريع، فلابد أن يستعين الفقيه في فهم الأدلة بما يحيط بها من قرائن، ولذلك لم يستغن الفقهاء عن استقصاء تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن استنباط العلل والحكم، بل كان بعضهم يرحل إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتضح له ما يستنبط من العلل تبعا لمعرفة الحِكَم والمقاصد.
ومن ذلك قول ابن عمر رضي الله عنه: (ما أُرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحِجْر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم)
(2)
لأنه كان لا يرى مزية في التفريق بين الركن اليماني وغيره من الأركان غير الحجر الأسود حتى سمع من عائشة رضي الله عنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألم تري أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم)
(3)
. فقلت يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم قال: (لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت) ، فعَلِم بذلك الحكمة من تركه صلى الله عليه وسلم استلام الركنين اللذين يليان الحِجر.
8 -
معرفة الحِكم وسيلة ضرورية في الدعوة إلى الله تعالى:
فبمعرفتها يتم تذكير الناس وإرشادهم بحكمة خلقهم، وحثّهم على تطبيق الشريعة لما فيها من المصالح العظيمة، وتتبيَّن لهم المصالح والحكم المترتبة على ما يقومون به من المأمورات والمفاسد التي تُدرأ حين يمتنعون عن المنهيات، فالطبيعة البشرية تحب ما يجلب لها الخير وتميل نفوسهم إلى ما ظهر لهم حكمته.
(1)
انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور (204،203) ،طرق الكشف عن مقاصد الشارع (45)
(2)
صحيح البخاري، كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، برقم (1506) ، ومسلم، كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، برقم (1333).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، برقم (1506) ، ومسلم في كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها برقم (1333).
وهي مهمة كذلك في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، فإذا تبين للكافر محاسن دين الإسلام، وما يدعو إليه من العدل والحكمة، وإشباع الروح بالطمأنينة والخشوع والطهر والتعلق بالله، وتنظيم أمورهم في جميع شؤون الحياة، وحرصه على استقرار الأسرة من التشرد والضياع، مقارنة بما يعانونه في مجتمعاتهم الكافرة من خواء الروح، والظلم وتفرق الأسرة وتشرذمها، كان أدعى لهم في الدخول إلى الإسلام إذا وفقهم الله لذلك.
وهي مهمة كذلك للداعية في ترتيب أولوياته في الدعوة، واختياره الأنسب فيما يبدأ به، فيقدم المصالح العامة على المصالح الخاصة، ويقدم الضروريات على الحاجيات والتحسينيات، ويحذر من المفسدة العظمى قبل المفسدة الصغرى.
يقول الشوكاني
(1)
رحمه الله: (فالعالم المرتاض بما جاءنا من الشارع الذي بعثه الله تعالى متمما لمكارم الأخلاق، إذا جعل غاية همه وأقصى رغبته جلب المصالح الدينية للعباد ودفع المفاسد عنهم، كان من أنفع دعاة المسلمين وأنجح الحاملين لحجج رب العالمين).
(2)
(1)
محمد بن علي بن محمد الشوكاني ولد سنة 1172 هـ ولازم القاضي أحمد بن محمد الحرازي، ودرس على القاسم بن محمد الخولاني، له مؤلفات في أغلب العلوم، ومن ذلك، نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، وفتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من التفسير، وإرشاد الفحول، وغيرها من الكتب (ت 1250 هـ). أبجد العلوم (3/ 201).
(2)
طلب العلم، للشوكاني (ص 135).