الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد كَانَ عَرَّاكُ بْنُ مَالِكٍ
(1)
رضي الله عنه، إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ، فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ:(اللَّهُمَّ، أَجَبْتُ دَعْوَتَكَ وَصَلَّيْتُ فَرِيضَتَكَ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتَنِي فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)
(2)
.
•
المطلب الثالث: الثناء على من قدّم حق الله على بيعه وتجارته
.
وكما بين الله عز وجل عقوبة من ضيع حقه، و وجّه عباده المؤمنين إلى السعي إلى ذكره امتدح أولئك الرجال الذين لم تلههم تجارتهم عن القيام بأوامره، ووعدهم بالفضل العظيم والأجر الجزيل فقال تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)} [النور: 36 - 38] فذكر الله تبارك وتعالى أنهم يتاجرون ويبيعون ولكن. لم تلههم هذه التجارة عن ذكر الله من صلاة وزكاة وأي عبادة أمر الله بها، فهم لها مسارعون.
وأخرج الطبري عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه رأى قوما من أهل السوق حيث نودي بالصلاة، تركوا بيعاتهم، ونهضوا إلى الصلاة، فقال عبد الله: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه: {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ} .
(3)
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (إِنِّي أَقَمْتُ عَلَى هَذَا الدَّرَجِ أُبَايِعُ عَلَيْهِ أَرْبَحُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلاثَمِائَةِ دِينَارٍ، وَأَشْهَدُ الصَّلاةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي الْمَسْجِدِ، أَمَا إِنِّي لا أَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ
(1)
عراك بن مالك الغفاري المدني روى عن ابن عمر وأبى هريرة، روى عنه ابنه خيثمة وعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، ثقة ، قال عمر بن عبد العزيز: ما أعلم أحدا أكثر صلاة من عراك بن مالك، مات في خلافة يزيد بن عبد الملك. (انظر: الجرح والتعديل 7/ 38، السير 5/ 64).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم. انظر التفسير (10/ 3356).
(3)
جامع البيان 19/ 192.
بِحَلالٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مِنَ الَّذِينَ، قَالَ اللَّهُ:{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} )
(1)
.
ومن هؤلاء الرجال الذين امتدحهم الله تبارك وتعالى لأنهم باعوا أنفسهم بجميع ما حصلوه من المال في سبيل الله، صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه حَيْنَ أَرَادَ الْهِجْرَةَ قَالَ لَهُ كُفّارُ قُرَيْشٍ: أَتَيْتنَا صُعْلُوكًا حَقِيرًا، فَكَثُرَ مَالُك عِنْدَنَا، وَبَلَغْت الّذِي بَلَغْت، ثُمّ تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ بِمَالِك وَنَفْسِك، وَاَللّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ صُهَيْبٌ أَرَأَيْتُمْ إنْ جَعَلْت لَكُمْ مَالِي أَتُخْلُونَ سَبِيلِي؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ فَإِنّي جَعَلْت لَكُمْ مَالِي. قَالَ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَبِحَ صُهَيْبٌ رَبِحَ صُهَيْبٌ.
(2)
فكذلك يجب على العبد المسلم الذي يرجو تزكية نفسه وصلاحها ألا يقدِّم مصلحته الذاتية، ورغبته الشخصية على أمر الله تعالى، فيتعامل بالمعاملات المحرمة، وإن أدى ما افترضه الله عليه من صلاة وزكاة وغيرها من الأعمال، فإن الله تعالى كما أمر بهذه العبادات أمر بالكسب الطيب فقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} [المؤمنون: 51]، وقال {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟)
(3)
. فتقديم أمر الله عز وجل بالأكل من الطيبات إنما هو تقديم لهوى النفس من الجشع والتكاثر بالمال.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم بسنده، انظر التفسير (8/ 2607).
(2)
أخرجه ابن حبان في صحيحه مرسلا عن أبي عثمان النهدي، في كتاب المناقب برقم (7082) قال شعيب الأرناؤوط: رجاله ثقات رجال الشيخين وهو مرسل، وأخرجه الحاكم في مستدركه ،كتاب معرفة الصحابة باب مناقب صهيب موصولا عن ثابت عن أنس برقم (5700) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في تخريجه لفقه السيرة، انظر: فقه السيرة، (ص 157).
(3)
رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، برقم (1015).
والنهي لا يقف عند المحرمات البيِّنة فحسب، بل إن الكمال وصلاح الدين إنما يكون بالبعد عن المعاملات المشتبهة، لأن الولوج في هذه الشبهات وقوع في الحرام، كما ثبت عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام .. ) الحديث
(1)
.
فإذا وُفِّق العبد لتقديم حق الله عند تعارض المصالح أثمر ذلك في قلبه توكلا على الله واعتمادا عليه، وحسن ظن به، كيف لا .. وقد فوّض أمره إلى خالقه ورازقه
(2)
.
وقد تجلت هذه الثمرة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أوصى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قائلا: يا غلام إني أعلمك كلمات (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
(3)
فعلى العبد أن يسعى إلى براءة دينه وعرضه، وأن يبعدها عما نهى الله من الانشغال بجمع المال والتجارة عن القيام بحقوق الله والسعي إليها، فإن ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين.
(1)
رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، برقم (52) ، ومسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، برقم (1599).
(2)
انظر: الموافقات، (3/ 223).
(3)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (2669) ، والترمذي، في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، برقم (2516) وقال: حديث حسن صحيح.