الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما يفهم من الآية الكريمة أن ما حرم في الآية السابقة ليس نكالا بالناس وإعناتا لهم، وإنما هو رحمة وفضل لأن هذه المحرمات ليست من جنس الطيبات إنما هي من الخبائث التي تستقذرها الفطرة السليمة من الناحية الحسية كالميتة والدم ولحم الخنزير، أو ينفر منها القلب المؤمن كالذي أهل لغير الله به أو ما ذبح على النصب، أو كان الاستقسام فيه بالأزلام، فلم يمنعنا الله تبارك وتعالى من طيب أبدا ولذلك فقد أباح لنا ما لم يذكّ مما تصطاده الجوارح المعلمة من الفهود والصقور والكلاب ونحوها بالشروط التي ذكرها الله تعالى في الآية
(1)
.
•
المطلب الثاني: التقرير بإباحة الطيبات على وجه الثبوت والدوام
.
وذلك في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5].
وهذه الآية واردة بعد الإجابة بإباحة الطيبات، ومناسبة ذكرها بهذا الأسلوب مرة أخرى إنما هو مزيد امتنان بإتمام النعمة وأن هذا الحكم ثابت فلا ينسخ أبدا، كما أنه أعيد مرة أخرى ليبنى عليه تيسير آخر وهو قوله:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} فعطْف هذه الجملة على قوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} لأجل ما في هذه الرخصة من المنّة لكثرة مخالطة المسلمين أهل الكتاب فلو حرّم الله عليهم طعامهم لشقّ ذلك عليهم
(2)
.
• المطلب الثالث: بيان يسر الشريعة بين عنت مشركي العرب وبين بغي اليهود.
أخبر الله تعالى في سورة الأنعام أصنافا من المحرمات التي حرمها أهل الجاهلية على أنفسهم وذرياتهم افتراء على الله واتباعا لأهوائهم، فأنزل الله تبارك وتعالى ردا عليهم: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ
(1)
انظر: تيسير الكريم الرحمن (ص 221) ، في ظلال القرآن (2/ 847).
(2)
انظر: نظم الدرر (2/ 397) ، التحرير والتنوير (6/ 119).
خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)} [الأنعام: 145]
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: لاأجد فيما أوحي إلي شيئا محرما على آكل يأكله مما تذكرون أنه محرم بزعمكم إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير، وهذا إعلام من الله عز وجل للمشركين الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تحريم الميتة بما جادَلوهم به، أن الذي جادلوهم فيه من ذلك هو الحرام الذي حرّمه الله، وأن الذي زعموا أنّ الله حرمه حلالٌ قد أحلَّه الله، وأنهم كذبة في إضافتهم تحريمه إلى الله عز وجل
(1)
.
وهذا الرد على المشركين الذين ضيقوا على أنفسهم أرزاقهم بسبب اتباع أهوائهم يبين حسن هذه الشريعة التي جاءت بالتيسير على الناس ولم تحرم إلا ما هو فسق أو رجس وهذا التيسير هو بسبب اتباع الوحي.
ولما بين الله حال المشركين في تحريم ما أحل الله وأن الوحي لم يحرم ما حرموه غير ما ذكر من المحرمات الثلاثة وقت نزول الآية
(2)
، أخبر عن حال اليهود فقال:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)} [الأنعام: 146]. فهذا التحريم هو تحريم خاص بهم لحكمة خاصة بهم وهي التي أخبر الله عنها بقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} فليس هذا التضييق عليهم المطعم والمشرب ظلما
(1)
جامع البيان (12/ 191).
(2)
اختلف المفسرون في هذه الآية على أقوال:
الأول: أنها منسوخة، الثاني: أنها محكمة ولا حرام من الحيوان إلا ما فيها، القول الثالث: أنها محكمة وكل ما حرمه رسول الله داخل فيها، القول الرابع: أنها محكمة وكل ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم مضموم إليها داخل في الاستثناء، القول الخامس: أن هذه الآية جواب لما سألوا عنه فأجيبوا عما سألوا وقت نزول الآية وقد حرم الله عز و جل ورسوله صلى الله عليه و سلم غير ما في الآية، وقد ذهب إلى هذا القول: النحاس، وبه فسّر الطبري هذه الآية ولم يذكر غيره، ورجحه الطاهر ابن عاشور (انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 432 - 438، جامع البيان 12/ 191، التحرير والتنوير 8/ 140).
لهم بل هو بسبب بغيهم وظلمهم لأنفسهم كما قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)} [النحل: 118].
وفي هذا أعظم دلالة على ما في اتباع الشريعة من التيسير والتوسعة على العباد، وأن من يبتغي التيسير في غير الشريعة إنما يحجر واسعا ويشق على نفسه وغيره، وهذا بسبب اتباع هواه أو بغيه وظلمه، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالبعد عن هؤلاء فقال:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)} [الجاثية: 18 - 19].