الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: التيسير ورفع الحرج عن المضطر
تبين في المبحث الأول رحمة الله تعالى وتيسيره للناس أمور معاشهم فما من طيب إلا أباحه الله عز وجل وما من خبيث إلا حرمه وهكذا فإن الله تعالى نوع للعباد مآكلهم من طعام البر وطعام البحر وما يخرج من الأرض من نباتات شتى وثمار متنوعة، فمتى فقد العبد نوعا وجد نوعا آخر، وقد يكون في مكان لا يوجد فيه صنف من الأطعمة فيجد صنفا غيره وهذه منة عظيمة من الله على العباد.
ومن عظيم تيسير الله أنه مع تنوع هذه الأطعمة أحل لنا المحرم حال الضرورة والاضطرار فقال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)} [البقرة: 173] وقد ذكرت حالة الاضطرار هذه أربع مرات في كل مرة تختم فيها الآية بذكر صفتي المغفرة والرحمة لله عز وجل وهذا مناسب غاية المناسبة للتوسعة التي وسّع بها على خلقه
(1)
.
وهذه التوسعة شرطها الاضطرار الملجئ لتناول المحرم وهو الجوع الشديد كما في قوله:
{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3] و يدخل في ذلك المكره
(2)
.
كما يشترط أن يكون الآكل غير مبتغ بأكله ما حرم عليه ولا معتد فيه وله عن ترك أكله مندوحة وغنى مما أباحه الله له، وقد رجح هذا القول الطبري، والقرطبي وغيرهم
(3)
.
(1)
انظر: تيسير الكريم الرحمن (ص 81).
(2)
وقد اختلفوا في دخول المكره في معنى الآية والذي عليه الجمهور أن المضطر في الآية هو من صيره العدم وهو الجوع إلى ذلك، ويروى عن مجاهد أن المكره داخل في الآية. (انظر: الجامع لأحكام القرآن 3/ 35، جامع البيان 3/ 322).
(3)
انظر: جامع البيان (3/ 325) ، الجامع لأحكام القرآن (2/ 44 - 46) ، مجموع فتاوى ابن تيمية (24/ 110 - 112) ، تيسير الكريم الرحمن (ص 81).
وذهب بعض السلف إلى أن البغي والعدوان يراد به سفر المعصية وقطع الطريق والخروج على الإمام فمن هذه حالهم لا يجوز لهم أكل المحرم حال الاضطرار لأنهم خرجوا في معصية.
وعلى كل فالواجب على من رأى الهلاك أمام عينيه ثم ظهرت له رحمة الله حيث أباح له الخبيث حفظا عليه من الهلاك أن يسارع بالتوبة والرجوع إلى الله لا أن يقتل نفسه فيزداد إثما إلى إثم، فهذا التيسير هو مدعاة إلى التوبة والإنابة.
ومن تيسير الله كذلك في إباحة هذه المحرمات أن الضرر والخبث الذي في هذا الطعام لا يضر من أكله حال الضرورة، وذلك أن في الميتة سمية شديدة فلو أكلها ابتداء لأهلكته فشرع له أن يجوع ليصير في بدنه بالجوع سمية أشد من سمية الميتة فإذا أكل منها حينئذ لا يتضرر بإذن الله
(1)
وكذلك فإن النفس كلما اشتد عليها الجوع كان هضمها سريعا بحيث لا يتضرر الجسم بإذن الله
(2)
.
وهكذا تتجلى مظاهر التيسير في هذه الشريعة من جميع نواحيها فمن ابتغى التيسير في غيرها ضل، ومن أراد التشديد فيها كلّ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)
(3)
.
(1)
فتح الباري (9/ 832) قال ابن حجر بعد ذكره لهذه الفائدة: وهذا إن ثبت حسن بالغ في غاية الحسن
(2)
تفسيرسورة البقرة ، لابن عثيمين (2/ 251).
(3)
سبق تخريجه (ص 310)