الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: الحذر من كتمان الشهادة
حذر الله جل وعلا عباده أشد التحذير من كتمان الشهادة، وأخبر أنه لا أحد أشد ظلما من كاتم الشهادة فقال:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)} [البقرة: 140].
وفي المقابل فقد امتدح جل شأنه من يؤدي الشهادة ويقوم بها على أتم وجه فقال: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)} [المعارج: 33] فأخرجهم من وصف الهلع والجزع.
وما الترغيب في إقامة الشهادة إلا لأهميتها ودخولها في أبواب كثيرة من حوائج الناس ومنها المعاملات المالية، فهي تدخل في البيوع كما قال تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، وتدخل في كتابة الديْن كما قال تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282].
وتدخل في دفع مال اليتيم إذا رشد كما قال تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)} [النساء: 6].
(1)
فاستوجبت هذه المصالح الحث بالقيام بالشهادة، والتحذير من كتمانها.
(1)
اختلف أهل العلم هل الأمر بالإشهاد في الكتابة والبيع للوجوب أم للندب فمنهم من قال أنه للوجوب كابن عمر وعطاء والضحاك واستدلوا بنص الآية، والجمهور أنه للندب كما ذكر ابن العربي ومنهم الشعبي والحسن لوجود القرينة في قوله تعالى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} وهو الصحيح. انظر: المحرر الوجيز (2/ 517) ، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 258) ،الجامع لأحكام القرآن (4/ 458 - 460) أضواء البيان (1/ 167). أما الإشهاد على مال اليتيم فمن العلماء من قال أنه للاستحباب ومنه من قال أنه فرض وممن رجح أنه للندب الشافعي في أحكام القرآن (2/ 128). والجصاص في أحكام القرآن كذلك (2/ 341).
ولذلك نهى الله سبحانه الشهداء أن يمتنعوا عن الشهادة إذا دعوا إليها فقال: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282].
وقد اختلف العلماء هل الآية تشمل التحمل أم يقصد بها أداء الشهادة إذا دعي إليها؟
فذهب الطبري إلى أن المراد بالآية أداء الشهادة دون التحمل
(1)
، وذهب غيره من العلماء إلى أن الآية تعم التحمل والأداء
(2)
.
فدلّت الآية على أن من تحمل الشهادة وجب عليه أداؤها ويحرم عليه كتمانها، كما قال تعالى في الآية الأخرى:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)} [البقرة: 283].
فالنهي في هذه الآية مع الوعيد المترتب على الكتمان يقتضي تحريم هذا الفعل
(3)
.
وقد حذر السلف من كتمان الشهادة، فقد أخرج ابن جرير بسنده إلى الربيع في قوله:
{وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} فلا يحل لأحد أن يكتم شهادةً هي عنده، وإن كانت على نفسه والوالدين، ومن يكتمها فقد ارتكب إثمًا عظيمًا.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله، لأن الله يقول:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72] وشهادة الزور، وكتمان الشهادة، لأن الله عز وجل يقول:{وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} .
(4)
وإذا تأملنا هذا الوعيد الشديد عرفنا ما يحويه من الحِكم العظيمة مما يقِّوم المجتمع ويصلحه فمن ذلك:
(1)
وحجته في ذلك أن الشاهد لا يوصف بهذا الوصف حتى يتحمل الشهادة فإذا تحملها صح إطلاق وصف الشاهد عليه، انظر: جامع البيان (6/ 74).
(2)
كابن عباس والحسن بن أبي الحسن وقد رجح ذلك ابن عطية في المحرر الوجيز (2/ 513) ، والفخر الرازي في التفسير الكبير (7/ 124) ، وابن القيم في الطرق الحكمية (ص 217) ، والشيخ العثيمين في تفسيره (3/ 416) ، وهو الراجح.
(3)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (4/ 478).
(4)
جامع البيان (6/ 99 ، 100).
1 -
أن القيام بأداء الشهادة إنما هو قيام بشرع الله ومراده بين الناس وقد نص الله على ذلك فقال: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] فقوله: {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} تدل على أن مراد الله إقامة الشهادة على وجهها، وكفى بهذه حكمة في صلاح المجتمع وسعادته.
(1)
2 -
منع الظلم وإظهار الحق، فإذا قام الشاهد بأداء الشهادة فقد منع الظلم أن يقع بين الناس ودل على طهارة قلبه وأمانته، وخصوصا إن لم يشهد عليها غيره، فإذا كتمها دل على ما انطوى عليه قلبه من الإثم والخيانة، ولذلك نسب الله الإثم إلى القلب.
وهذا يؤكد القول بفرضية تحمل الشهادة وأدائها سواء كانت فرض عين أم فرض كفاية، فإن المجتمع قد يأثم بترك الشهادة لتسببه في وقوع الظلم والله المستعان.
(2)
فإذا تبيّن هذا علم العبد ما للقيام بالشهادة من الخيرية والفضيلة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم فعن زيد بن خالد الجهني
(3)
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بخير الشهداء: الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها)
(4)
.
ومعنى الحديث: أن خير الشهداء من عنده شهادة لإنسان بحق ولا يعلم ذلك الإنسان أنه شاهد فيأتي إليه فيخبره بأنه شاهد له
(5)
.
(1)
انظر: التحرير والتنوير (3/ 126).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 255) ، التحرير والتنوير (3/ 126).
(3)
زيد بن خالد الجهني، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عثمان وأبي طلحة وعائشة، روى عنه: ابناه خالد وأبو حرب ومولاه أبو عمرة وأبو سلمة وآخرون. وشهد الحديبية وكان معه لواء جهينة يوم الفتح وحديثه في الصحيحين وغيرهما مات سنة 78 هـ بالمدينة وله خمس وثمانون وقيل مات سنة 68 هـ وقيل مات قبل ذلك في خلافة معاوية بالمدينة. (الإصابة 2/ 603)
(4)
رواه مسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، برقم (1719).
(5)
انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، ولا تعارض بين هذا الحديث وحديث ذم الشهادة وفيه (ويشهدون ولا يستشهدون) وهو عند البخاري ومسلم فهذا الحديث محمول على من يشهد بالزور أو من شهد وهو ليس أهلا للشهادة والله أعلم (12/ 17).
3.
قطع النزاعات والخصومات، فالقيام بالشهادة يحسم النزاع ويرفع الخصومة قبل حصولها
(1)
.
4.
الاحتياط وبراءة الذمة: وهذه عند الإشهاد على دفع الولي لمال اليتيم، فلا يدّعي اليتيم ما ليس له، ويقطع الولي اتهام اليتيم بإبراء ساحته وإظهار أمانته
(2)
.
فهذه الحِكم تبين ما لأداء الشهادة وعدم كتمانها من صلاح للمجتمع.
(1)
انظر: التحرير والتنوير (4/ 247).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 364) ، التحرير والتنوير (4/ 247).