الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
المطلب الثاني: تغليظ العقوبة لمن تعمد الوقوع في محارم الله
.
إن تعظيم الله عز وجل وتعظيم شعائره من الأسباب التي تحجز العبد عن الوقوع في محارم الله ونواهيه، حتى لو وقع العبد في معصية أو ارتكب حراما لغلبة شهوة أو نسيان فاستحضر عظمة الله، فإنه سرعان ما يتوب ويقلع، فإذا صدقت توبته فإن الله يتوب عليه.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن عبدا أصاب ذنبا وربما قال أذنب ذنبا فقال رب أذنبت وربما قال أصبت فاغفر لي فقال ربه أَعَلِم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبا أو أذنب ذنبا فقال: رب أذنبت - أو أصبت - آخر فاغفره؟ فقال: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا وربما قال أصاب ذنبا، قال: رب أصبت - أو قال أذنبت - آخر فاغفره لي، فقال: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي ثلاثا فليعمل ما شاء)
(1)
.
أما الذين يصرون على المعصية، ويتجرؤون على ما نهى الله عنه، بل ويتحدثون بمعاصيهم أمام الناس، فهؤلاء لم يرعوا لله حرمة، ولم يقدروا الله عز وجل حق قدره، وقد جاء الحديث بالوعيد الشديد لهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه)
(2)
.
والله جل وعلا في كتابه العظيم حين نهى عباده عن قتل الصيد حال الإحرام، وفصّل لهم الحكم، توعد من تعمد قتل الصيد بعد ذلك بانتقامه عز وجل وعظيم بأسه فقال:
…
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ
(1)
أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) ، برقم (7068) ، ومسلم في كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة، برقم (2758).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه، برقم (5721) ، ومسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه، برقم (2990).
النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)} [المائدة:95].
فإن الله عز وجل لما أباح لعباده الصيد حال الحل، نهاهم عن قربان الصيد وقتله حال الإحرام، وعظم عز وجل هذا النهي أشد التعظيم لمن تعمد ارتكابه.
فجعل على من تعمد قتل الصيد الجزاء فقال: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ، وذلك تأديب وعقوبة من الله تعالى لمن هتك حرمة الله عز وجل
(1)
.
ومن تعظيم هذه الحرمة: تعظيم أمر الكفارة وتغليظها، وجعل الحكم فيها لاثنين من العدول. فقال:
…
{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} ، فجعل الكفارة جزاء المثل أو الإطعام أو الصيام، وهذه الثلاثة ثقيلة على الطبع فاثنان منها يوجبان نقص المال، وواحدة توجب إيلام البدن
(2)
.
فأي هذه الثلاثة اختارها العبد كان تأديبا وردعا له على هذه المخالفة
(3)
.
ومن تعظيم الله عز وجل لهذه الحرمة أنه لم يجعل الحكم بالمثلية لشخص واحد فقط، بل جعله لاثنين عدلين يتشاوران ويحكمان فقال:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، ولذلك فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا سئل أحدهم عن الجزاء، ما كان يحكم فيها حتى يستشير رجلا آخر، وذلك لتعظيمهم أمر الله، وقد روي ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
(1)
انظر: التحرير والتنوير (7/ 45).
(2)
انظر: تفسير اللباب، ابن عادل (7/ 528).
(3)
القول بالتخيير في هذه الآية هو قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية، لأن (أو) تفيد التخيير، أما القول بالترتيب فهي رواية ثانية عن الإمام أحمد (انظر: المغني 5/ 415) ، والراجح هو قول الجمهور. (انظر: أضواء البيان 1/ 334).
فقد أخرج ابن أبي حاتم بسنده إلى ميمون بن مهران
(1)
أَنَّ أَعْرَابِيًّا، أَتَى أَبَا بَكْرٍ، قَالَ: قَتَلْتُ صَيْدًا وَأَنَا مُحْرِمٌ، فَمَا تَرَى عَلَيَّ مِنَ الْجَزَاءِ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَهُ:(مَا تَرَى فِيهَا؟)، قَالَ: قَالَ الأَعْرَابِيُّ: أَتَيْتُكَ وَأَنْتَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْأَلُكَ، فَإِذَا أَنْتَ تَسْأَلُ غَيْرَكَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: (وَمَا تَذْكُرُ قَوْلَ اللَّهِ:
…
{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} ؟، فَشَاوَرْتُ صَاحِبِي حَتَّى إِذَا اتَّفَقْنَا عَلَى أَمْرٍ أَمَرْنَاكَ بِهِ).
(2)
فلم يستنكف خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشاور أبياًّ رضي الله عنه أمام الأعرابي، امتثالا لأمر الله وتعظيما له.
وأخرج الطبري بسنده إلى قبيصة بن جابر
(3)
قال: (خرجنا حُجاجًا، فكنا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا نتماشى نتحدث، قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ خُشَّاءه فركب رَدْعه ميتًا
(4)
، قال: فَعَظَّمْنا عليه، فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر رضي الله عنه، قال: فقص عليه القصة قال: وإلى جنبه رجل كأن وجهه قُلْب فضة -يعني عبد الرحمن بن عوف-فالتفت عمر إلى صاحبه
(1)
هو ميمون بن مهران أبو أيوب الجزري الرقّي الإمام الحجة، عالم الجزيرة ومفتيها، نشأ بالكوفة ثم سكن الرقة، وحدث عن أبي هريرة، وعائشة، وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين، وروى عنه ابنه عمرو، وأبو بشر جعفر بن إياس، وحميد الطويل قيل أنه ولد سنة أربعين، وثقه جماعة، وقال أحمد بن حنبل: هو أوثق من عكرمة. توفي سنة 117 هـ وقيل سنة 116 هـ. (سير أعلام النبلاء 5/ 71، 72، 78).
(2)
تفسير ابن أبي حاتم (4/ 1206)، قال ابن كثير رحمه الله: وهذا إسناد جيد، لكنه منقطع بين ميمون وبين الصديق، ومثله يحتمل هاهنا. (انظر: تفسير القرآن العظيم 3/ 193).
(3)
قبيصة بن جابر بن وهب بن مالك بن عميرة بن جذار الأسدي أسد خزيمة أبو العلاء، روى عن عمر ابن الخطاب وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عوف وعمرو بن العاص ومعاوية والمغيرة بن شعبة روى عنه الشعبي وعبد الملك بن عمير، وعنه عن قبيصة أنه قال: ألا أخبركم عمن صحبت صحبت عمر بن الخطاب فما رأيت أحدا أفقه في دين الله تعالى ولا أحسن مدارسة منه .. الخ ،مات سنة 69 هـ (التاريخ الكبير 7/ 175)(تهذيب التهذيب 8/ 310).
(4)
الخُشاء هو العظم الناتئ خلف الأذن (انظر: القاموس المحيط ص 548)، وركب ردعه: أي خر صريعا لوجهه فمات (انظر: غريب الحديث، لإبراهيم الحربي 2/ 691).
فكلمه قال: ثم أقبل على الرجل فقال: أعمدًا قتلته أم خطأ؟ قال الرجل: لقد تعمدت رميه، وما أردت قتله. فقال عمر: ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها واستبق إهابها. قال: فقمنا من عنده، فقلت لصاحبي: أيها الرجل، عَظّم شعائر الله، فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه: اعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعل ذاك. قال قبيصة: ولا أذكر الآية من سورة المائدة: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} قال: فبلغ عمر مقالتي، فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدّرّة.
قال: فعلا صاحبي ضربًا بالدرة، وجعل يقول: أقتلت في الحرم وسفَّهت الحكم؟ قال: ثم أقبل عليَّ فقلت: يا أمير المؤمنين، لا أحل لك اليوم شيئا يحْرُم عليك مني، قال: يا قبيصة بن جابر، إني أراك شابّ السن، فسيح الصدر، بيّن اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سيئ، فيفسد الخلقُ السيئ الأخلاقَ الحسنة، فإياك وعثرات الشباب)
(1)
.
فتأمل موقف عمر من الرجل حين قال له: (أقتلت في الحرم وسفَّهت الحكم؟) وهذا من تعظيم الفاروق رضي الله عنه لحرمات الله أن استشار عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، ثم عاتب الرجل حين خالف حكمهما الذي أمر الله عز وجل به.
ومن تغليظ عقوبة قتل الصيد حال الإحرام كذلك قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} ، فجعل الله جل وعلا العفو عما سلف بين قوله:{لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} وبين قوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} .
وجملة: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} دلّت على أن مقصد التشريع في جزاء قتل الصيد إنما هو العقوبة، وقد جاء التعبير بلفظ الوبال: حتى يحس القاتل بعظمة وشدة الفعل الذي ارتكبه إذ أصل الوبال: الشدة في المكروه.
(2)
(1)
جامع البيان (10/ 25) ، تفسير ابن أبي حاتم (4/ 1206).
(2)
انظر: جامع البيان (10/ 47) ، التحرير والتنوير (7/ 45 ، 50).