الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يدع لهما مالا فقال: (يقضي الله في ذلك) قال: فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين و أمهما الثمن و ما بقي فهو لك.
(1)
فبيّن هذا الحديث أن ما كان يفعله الجاهليون في صدر الإسلام لم يكن شرعا مسكوتا عنه مقرا عليه؛ لأنه لو كان شرعا مقرا عليه لما حكم النبي صلى الله عليه وسلم على عم الصبيتين برد ما أخذ من مالهما؛ لأن الأحكام إذا مضت وجاء النسخ بعدها إنما تؤثر في المستقبل، ولا ينقض به ما تقدم، وإنما كانت هذه الحادثة ظلما وقع فنزلت هذه الآية ترد الظلم وتبطله.
(2)
فبيّن الله تبارك وتعالى في آيات المواريث العلة التي يقوم عليها الإرث، وهذا غاية العدل لأنه يسد الطريق على كل علة أو سبب يوصل لمنع فريق من مستحقي الميراث حقهم.
•
المطلب الثاني: ما فرضه الله من أن للذكر مثل حظ الأنثيين
.
فإن الله - جلت حكمته- فرض عند اجتماع الذكور والإناث في الميراث أن للذكر مثل حظ الأنثيين سواء كانوا أولادا أو إخوة فقال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
…
} الآية [النساء: 11]. وقال: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)} [النساء: 176].
وفي هاتين الآيتين تتجلى مظاهر العدل للقارئ المتبصر في أمرين:
• الأول: التسوية بين الذكور فيما بينهم من الميراث، وبين الإناث كذلك.
فلقد كان أهل الجاهلية يورثون من الذكور الأكبر فالأكبر ولا يعطون الصغير شيئا، معللين ذلك بأن الكبير أنفع لهم من الصغير، فأبطل الله هذا الحكم وأمر بالتسوية بين
(1)
رواه الإمام أحمد في المسند برقم (14840) ، وأبو داود في سننه. كتاب الفرائض باب ماجاء في ميراث الصلب برقم (2891) ، والترمذي في جامعه وصححه كتاب الفرائض، باب ميراث البنات برقم (2092) ، والحاكم في المستدرك، كتاب الفرائض برقم (7995) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وحسنه الألباني في حكمه على سنن أبي داود (2/ 560)، وآية الميراث المقصودة في هذا الحديث هي قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم
…
) الآية.
(2)
أحكام القرآن، لابن العربي (1/ 333).
الذكور فيما بينهم ملغيا في ذلك أي علة يراد منها تغيير فرض الله الذي فرضه
(1)
فقال: {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 11].
ولذلك فقد جاء التعبير بلفظ (الذكر والأنثى) دون ذكر (الرجال والنساء) في هذه الآية للتنصيص على استواء الصغار والكبار من الفريقين في الميراث دون البلوغ
(2)
.
وهذا عدل منه جل وعلا، فلئن كان الكبار أحوج إلى المال لحملهم السلاح في نظر قوم فإن الصغار الذين لا يستطيعون التكسب والحصول على المال هم أحوج في نظر آخرين فكان العدل في ذلك هو ما حكم به أحكم الحاكمين.
• الثاني: تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث.
فإن من عدل الله تبارك وتعالى عدم التسوية بين الرجال والنساء في الميراث، وكيف يُسوَّى بمن فرّق الله بينهما وفضل بعضهما على بعض فقال:{وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36].
وقد بيّن الله تبارك وتعالى أن هذه القسمة أعدل قسمة وأقومها، وأن من رام غيرها فهو في ضلال كما ذكر في آخر سورة النساء.
وإذا وجد من يعترض على توريث النساء لضعفهن وعدم قيامهن بما يقوم به الرجل ووجد من يعترضون على عدم التسوية بين الرجل والمرأة فقد ردّ الله جل جلاله عليهم جميعا بقوله: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)} [النساء: 32].
فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله: تغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث! فنزلت:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ}
(3)
.
(1)
انظر: جامع البيان (7/ 32) ، تفسير القرآن العظيم (2/ 226) ، روح المعاني (4/ 228).
(2)
انظر: روح المعاني (4/ 217).
(3)
أخرجه الطبري في تفسيره (8/ 261) ، وابن أبي حاتم في التفسير (4/ 132) ، والترمذي في سننه، كتاب التفسير، باب سورة النساء برقم (3022) ، والإمام أحمد في المسند برقم (26779) ، والحاكم في المستدرك، كتاب التفسير، باب تفسير سورة النساء برقم (3195) ، كلهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال الترمذي=
…
= هذا حديث مرسل، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين إن كان سمع مجاهد من أم سلمة، وافقه الذهبي في التصحيح بدون التعليل، وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على تفسير الطبري: وأما حكم الترمذي في روايته من طريق ابن عيينة -بأنه حديث مرسل، فإنه جزم بلا دليل، ومجاهد أدرك أم سلمة يقينًا وعاصرها فإنه ولد سنة ولد 21 هـ ، وأم سلمة ماتت بعد سنة 60 على اليقين، والمعاصرة - من الراوي الثقة - تحمل على الاتصال، إلا أن يكون الراوي مدلسًا. ولم يزعم أحد أن مجاهدًا مدلس.
فالله تبارك وتعالى هو العدل ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون.
وتتجلى مظاهر العدل لنا في هذه القسمة الربانية بما أخبر الله تعالى عن الرجال والنساء في قوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]
فإن الله تبارك وتعالى جعل الرجال أكمل من النساء، ولما كان ضعف النساء ونقصهن جبلة وطبيعة خلقهن الله عليها، فقد كلف الرجال بما لم يكلف به النساء، وجعل المرأة الضعيفة تحت نظر الرجل، ولذلك فإن الرجل مكلف بالإنفاق عليها والقيام على حوائجها دون أن يُطلَب منها ذلك، فالرجل أحوج منها للمال لما يجب عليه من النفقة وتكلف معاناة التكسب والتجارة، ولذلك كان من العدل أن يكون ميراثه ضعفي ميراث الأنثى.
ثم إن هذا المال الذي ورثاه لم يتعبا في جمعه، وليس هو حق من أحدهما أعطي للآخر، بل هو فضل من الله وتمليك منه سبحانه ملّكهما إياه تمليكا جبريا، فاقتضت حكمته سبحانه أن يضاعف للرجل لأنه مترقب النقص بالنفقة ودفع المهور، والبذل على نوائب الدهر.
بينما المرأة مترقبة للزيادة بدفع المهر والميراث لها، والنفقة عليها، وإيثار مترقب النقص دائماً على مترقب الزيادة دائماً لجبر بعض نقصه المترقب، حكمة ظاهرة واضحة لا ينكرها إلا من أعمى الله بصيرته بالكفر والمعاصي
(1)
.
وكفى بالإشارة لهذا المقدار وما فيه من العدل بيانا لما احتوته بقية الفروض من العدل والإنصاف، وكله فضل من الله في أن يملك عباده تمليكا ملزما ما لا جهد لهم فيه.
(1)
انظر: محاسن الإسلام للبخاري (ص 39) ،تفسير القرآن العظيم (2/ 225) ، روح المعاني (4/ 217) ، أضواء البيان (2/ 222، 223).
فإذا تدبر المجتمع هذه الحكمة علم أنه نجاته وصلاحه في امتثال شرع الله وحكمه مهما تغير الزمن، وتجددت الأحوال، فلن يجدوا غير حكم الله العدل العليم بما كان وما سيكون، فلا مبدل لكلماته ولا مغير لأحكامه {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} [الأنعام: 115].
وثمت ملحظ في الآية نختم به هذا المبحث يجدر التنبيه عليه لما فيه من بيان فضل الله وإكرامه للمرأة، وذلك في قوله:{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}
فإن المراد من هذه الآية تضعيف حظ الذكر على الأنثى، وقد كان صالحا أن يؤدى بمثل: للأنثى نصف حظ الذكر أو للأنثيين مثل حظ الذكر، ولكن جاء هذا التعبير للإيماء إلى أن حظّ الأنثى صار في اعتبار الشرع أهَمّ من حظّ الذكر، إذ كانت مهضومة الجانب عند أهل الجاهلية فصار الإسلام ينادي بحظّها، وكأنه هو المقدار الذي يقدّر به حظ الرجل
(1)
.
(1)
البحر المحيط (3/ 252) ، روح المعاني (4/ 217) ، التحرير والتنوير (4/ 257).