الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم إن هذه المحرمات وأمثالها تولد في نفس آكلها هيئات دنيئة توجب أخلاقا سيئة وفسادا في الطبع مما قد يؤدي إلى الفسق والعياذ بالله.
فالميتة والدم والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع كلها تشترك في علة أنها ماتت والدم محبوس فيها ومحتقن فأصبحت خبيثة تورث خبثا لدى آكلها، ثم إن الشطان يجري في مجاري الدم من الحيوان، ولذلك كانت التذكية الشرعية واجبة لما فيها من تطهير الذبيحة من الدم وخروج الشيطان منها حتى تصبح من الطيبات التي أبيحت لنا.
وأما لحم الخنزير: فإنه الحيوان الذي مسخ الله اليهود الفاسقين بصورته، فأصبح بين هذا النوع من الحيوان وبين هؤلاء المغضوب عليهم البعيدين من الرحمة مناسبة خفية، وأصبح بينه وبين النفوس السوية نفورا، فضلا عما يأكله الخنزير من القذارات والنجاسات.
وأما ما أهل به لغير الله مما يذبحه المجوسي أو المرتد وتارك التسمية: فإن قيامهم بالذبح أكسب المذبوح خبثا أوجب تحريمه، وقد يكون ما يذكرونه عليها من الكواكب والشياطين تكسبها خبثا أيضا، فقبح الفعل يسري ويصل إلى الذبيحة
(1)
وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع، لشكاسة أخلاقها وقسوة قلوبها وخروجها عن طبيعة الاعتدال
(2)
فكل هذه المحرمات تورث فسقا والعياذ بالله لدى آكلها، وقد كرّه الله عباده من الفسق والعصيان وكرهه لهم، كما قال تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)} [الحجرات:7].
•
التحذير من مشابهة الفاسقين
.
كما نهانا الله تعالى عما يورث الفسق من الطعام، نهانا عن طاعة الفاسقين والتشبه بهم في ذبائحهم وطعامهم وما يعتقدونه فيه.
(1)
انظر: إعلام الموقعين (2/ 172 - 174) ،حجة الله البالغة (2/ 1120 ، 1121).،
(2)
المصدر السابق (2/ 1122)
ومن الآيات التي حذرتنا من مشابهة أهل الفسق ما حكاه الله عن المشركين من عاداتهم الجاهلية في طعامهم فقال: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)} [الأنعام: 138 - 140].
فقد كان من شأنهم أن حرموا بعض الأنعام وقالوا لا نطعمها إلا لمن شئنا، وكانوا يحرمون اللبن على النساء ويشربه ذكرانهم، وكانت الشاة إذا ولدت ذكرًا ذبحوه، وكان للرجال دون النساء. وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء
(1)
.
فأخبر الله تعالى في الآية الثالثة أن من هذا شأنه فهو من الخاسرين وذلك لما اتصف به من صفات الفاسقين ومن أعظمها: افتراء الكذب على الله عز وجل والجرأة عليه، ثم وصفهم الله بالضلال وهو الانحراف عن سواء السبيل فلا يرجعون إلى الحق ولا يهتدون إليه، وهي الصفة التي ختم الله بها الآية فقال:{وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} ، والآية فيها تحذير وتهديد لمن تشبه بهم، واقتدى بفعلهم. قال ابن العربي
(2)
رحمه الله: (فهذا الذي أخبر الله سبحانه من سخافة العرب وجهلها أمر أذهبه الإسلام، وأبطله الله ببعثه الرسول عليه السلام، فكان من الظاهر لنا أن نميته
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم (3/ 346).
(2)
هو محمد بن عبد الله، ابن العربي الأندلسي المالكي، ولد في سنة 468 هـ، سمع من خاله الحسن بن عمر الهوزني وجعفر السراج، ومكي بن عبد السلام الرميلي، وحدث عنه: عبد الخالق بن أحمد اليوسفي الحافظ
…
وأحمد بن خلف الاشبيلي القاضي والحسن بن علي القرطبي، صنف كتاب عارضة الاحوذي في شرح جامع الترمذي، وفسر القرآن المجيد، فأتى بكل بديع، وله كتاب كوكب الحديث والمسلسلات، وكان ثاقب الذهن، عذب المنطق، كريم الشمائل، ولي قضاء إشبيلية، فحمدت سياسته، وكان ذا شدة وسطوة، فعزل، وأقبل على نشر العلم وتدوينه. توفي بفاس في شهر ربيع الآخر سنة 543 هـ. (سير أعلام النبلاء 20/ 198 - 203)
حتى لا يظهر، وننساه حتى لا يذكر، إلا أن ربنا تبارك وتعالى ذكره بنصه وأورده بشرحه، كما ذكر كفر الكافرين به.
وكانت الحكمة في ذلك - والله أعلم - أن قضاءه قد سبق، وحكمه قد نفذ بأن الكفر والتخليط لا ينقطعان إلى يوم القيامة)
(1)
.
وقد حذرنا الله جل شأنه في آيات أخر من مشابهة الفاسقين في بغيهم حتى ننجو من عقوبته تعالى، فقال عز وجل:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)} [الأنعام:146] إلى قوله: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)} [الأنعام: 150].
فما حصل لبني إسرائيل من التضييق إنما هو بسبب بغيهم وظلمهم وصدهم عن سبيل الله كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)} [النساء: 160].
(2)
.
وقد حذرت الآيات من التشبه بفعل القوم الفاسقين من عدة أوجه:
الوجه الأول: أن ذكر ما حصل لبني إسرائيل إنما هو تحذير لهذه الأمة أن يحصل منهم بغي أو ظلم فيعاقبوا كما عوقب بنو إسرائيل.
(3)
ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن يقعوا فيما وقع فيه اليهود، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا عند الركن، قال: فرفع بصره إلى السماء فضحك فقال:
(1)
أحكام القرآن، لابن العربي (2/ 753).
(2)
انظر: تفسير القرآن العظيم (3/ 255).
(3)
انظر: نظم الدرر (2/ 737).
(لعن الله اليهود - ثلاثا - إن الله تعالى حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وإن الله تعالى إذا حرّم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه)
(1)
.
فبين الحديث أن من شابه اليهود في تحليل ما حرم الله بأي نوع من أنواع الحيل فإنه يستحق اللعن والعياذ بالله.
(2)
ولذلك فقد أنكر عمر رضي الله عنه ودعا على من فعل كما فعلت اليهود، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: (قاتل الله فلانا ألم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم قال (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها)
(3)
.
الوجه الثاني: ما أخبر الله به عما سيقوله المشركون للرسول صلى الله عليه وسلم في احتجاجهم بالمشيئة في شركهم وتحريمهم ما أحل الله لهم في قوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} [الأنعام:148]
فبين الله تعالى أن تكذيبهم مشابه لتكذيب الأمم السابقة التي حل عليها العقاب والبأس وهو ما حصل مع المشركين فقد أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم.
(4)
وهي دلالة واضحة أن من شابه فعله فعل المكذبين بإلقاء الشبه لتحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله وتكذيب المرسلين فإن الله سيذيقه بأسه وعقابه الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر والميتة، برقم (3488) وصححه الألباني في تعليقه على السنن، وأحمد في مسنده برقم (2221) وصححه شعيب الأرناؤوط.
(2)
انظر: عون المعبود (9/ 275).
(3)
رواه البخاري في كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم (3273) ، ومسلم في كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، برقم (1582).
(4)
انظر: تفسير القرآن العظيم (3/ 358).
الوجه الثالث: ما ختم الله به هذه الآيات من نهيه عن اتباع المكذبين المشركين حيث قال: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}
…
[الأنعام: 150].
فنهى الله نبيه عن اتباع أهل الأهواء المكذبين الذين يزعمون أن الله حرّم عليهم ما حرموه من البحائر والسُّيَّب، والمراد بهذا النهي إنما هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون به
(1)
.
وفي قوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أظهر ما مقامه الإضمار ليعم جميع أهل الأهواء المكذبين بآيات الله، فيدخل في ذلك المشركين واليهود وجميع من اتبع هواه.
(2)
فهذه الآيات تحذر المسلم من التشبه بأهل الفسق حتى لا ينقاد إلى الغواية والضلال.
• وقد جمع الله تبارك وتعالى النهي عن اتباع خطوات الشيطان والتحذير من الفسق
والنهي عن اتباع الفاسقين في قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: 121].
فبين تعالى أن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه من ميتة أو مما أهل به لغير الله أو ما ذبحه أهل الأوثان فسق ومعصية
(3)
.
وتوعد جل شأنه من أطاع ما يوحيه الشياطين لأوليائه في النصف الثاني من الآية، وهي تشمل شياطين الجن وشياطين الإنس أهل الأهواء.
قال ابن جرير رحمه الله: (وجائز أن يكون الموحون كانوا شياطين الإنس يوحون إلى أوليائهم منهم، وجائز أن يكونوا شياطين الجن أوحوا إلى أوليائهم من الإنس، وجائز أن
(1)
انظر: جامع البيان (12/ 213، 214).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (8/ 154).
(3)
انظر: جامع البيان (12/ 76).
يكون الجنسان كلاهما تعاونا على ذلك، كما أخبر الله عنهما في الآية الأخرى التي يقول فيها:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام:112] بل ذلك الأغلب من تأويله عندي، لأن الله أخبر نبيه أنه جعل له أعداء من شياطين الجن والإنس، كما جعل لأنبيائه من قبله، يوحي بعضهم إلى بعض المزيَّنَ من الأقوال الباطلة، ثم أعلمه أن أولئك الشياطين يوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوه ومن تبعه من المؤمنين فيما حرمَ الله من الميتة عليهم)
(1)
.
فالفلاح كل الفلاح هو البعد عما يوقع الإنسان في الغواية، والبحث عن سبل الهداية ففيها النجاة والفوز في الدنيا والآخرة.
(1)
جامع البيان (12/ 82، 83).
• الباب الثاني: بناء المجتمع المسلم وصلاحه في آيات المعاملات والمواريث والنكاح والأطعمة.
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: بناء المجتمع المسلم وصلاحه في آيات المعاملات
الفصل الثاني: بناء المجتمع المسلم وصلاحه في آيات المواريث
الفصل الثالث: بناء المجتمع المسلم وصلاحه في آيات النكاح
الفصل الرابع: بناء المجتمع المسلم وصلاحه في آيات الأطعمة
الفصل الأول
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: التعامل بالمعروف.
المبحث الثاني: تحقيق العدل.
المبحث الثالث: تعميق مشاعر الأخوة.
المبحث الرابع: الحذر من كتمان الشهادة.
المبحث الخامس: حفظ الحقوق.