الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
المطلب الثالث: العدل في الموازين والنهي عن التطفيف فيه
ا.
نهى الله تعالى عباده وزجرهم عن التطفيف في الميزان، فالميزان إنما وضع لإقامة العدل ونشره، فالتطفيف فيه مناف لهذه الحكمة العظيمة ومخالف له.
فقال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)} [المطففين: 1 - 3].
فحذر الله تعالى من هذا الصنيع، وكفى هذا الفعل قبحا أن صاحبه لا يرضاه لنفسه فهو إن نقص في ميزان غيره إذا كال له أو وزن، فإنه لا يرضى ذلك لنفسه، بل إنه يستوفي حقه كاملا وقد يزيد .. فأين هذا من العدل؟!
ولقد عظّم الله أمر المكيال والميزان وجمع بينه وبين رفع السماوات بغير عمد فقال:
{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)} [الرحمن: 7 - 9] فنهى الله جل وعلا عن ظلم الناس في الوزن حال بيعهم وشرائهم واستيفائهم حقوقهم.
وبهذا العدل يصلح الناس، فقد أخرج الطبري بسنده إلى قتادة في قوله:{أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} : (اعدل يا ابن آدم كما تحب أن يعدل عليك، وأوف كما تحبّ أن يُوَفى لك، فإن بالعدل صلاح الناس)
(1)
.
ومن منافع العدل في المكاييل والموازين ما ذكر الله في قوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)} [الإسراء: 35].
وجاء التعبير بـ (خير) منكرا ليعم ويشمل كل خير في الدنيا والآخرة، وهو كذلك أحسن مآلا وعاقبة فإن من يوفي الناس يكسب محبة الله، فتسري محبته بين الناس، إضافة إلى ما يشتهر عنه من السمعة الحسنة والذكر الجميل، كما يبارك له في رزقه أضعاف أضعاف ما يأخذه المطفف من اليسير القليل الممحوق البركة.
(2)
.
(1)
جامع البيان (22/ 14).
(2)
انظر: التفسير الكبير (20/ 208) ، التحرير والتنوير (15/ 99).
أما ما يعود على المطفف من المضار فهو الظلم، وابتعاد الناس عنه، إضافة إلى لؤم النفس والعياذ بالله
(1)
.
وأما إذا اتفق المجتمع على هذا الظلم والتطفيف في الميزان، فذلك إيذان بالهلاك والعقوبة الدنيوية، كما حصل مع قوم شعيب عليه السلام حينما كانوا يبخسون الناس في المكيال والميزان.
وقد كان ابن عباس رضي الله عنه يعظ الناس ويقول في سوق المدينة: (يا معشر الموالي إنكم قد بُليتم بأمرين أهلك فيهما أمتان من الأمم: المِكْيال، والميزان)
(2)
.
فهذه النصوص والشواهد تدعو الأمة إلى أن تكون معاملاتهم وبيعهم وشراؤهم قائما على العدل، وأن يبذلوا النصيحة فيما بينهم، فإن في ذلك الصلاح والنجاة، والبركة في المال بإذن الله.
فإن الحاجة ماسة إلى ذلك خصوصا مع تنوع المعاملات وكثرتها في هذه الأزمنة واختلاط الحلال بالحرام، فلا سبيل إلى النجاة إلا بالعدل، وأن يحب أحدنا لأخيه ما يحب لنفسه.
(1)
انظر: التحرير والتنوير (30/ 192).
(2)
أخرجه ابن جرير بسنده عن أبي المغيرة عن ابن عباس في التفسير (22/ 14) ، ومراد ابن عباس أهل مدين وأصحاب الأيكة، وقد اختلف أهل التفسير هل هما أمة واحدة أم أنهما امتان متغايرتان فذهب عكرمة وقتادة وغيرهما إلى أنهما أمتان متغايرتان وأن أهل مدين عوقوبا بالرجفة وأصحاب الأيكة بيوم الظلة ويستلون بحديث فيه ضعف عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان، بعث الله إليهما شعيبًا النبي، عليه السلام قال ابن كثير: وهذا غريب، وفي رفعه نظر، والأشبه أن يكون موقوفا، وممن يرجح هذا القول: الطاهر ابن عاشور ويقول: "والذي يشهد لذلك ويرجحه أن القرآن لمَّا ذكرَ هذه القصةَ لأهل مدين وصف شعيباً بأنه أخوهم، ولما ذكرها لأصحاب ليكة لم يصف شعيباً بأنه أخوهم إذ لم يكن شعيب نسيباً ولا صهراً لأصحاب ليكة، وهذا إيماء دقيق إلى هذه النكتة. ومما يرجح ذلك قوله تعالى في سورة الحجر (78، 79){وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين} ، فجعل ضميرهم مثنى باعتبار أنهم مجموع قبيلتين: مدين وأصحاب ليكة"، وذهب أكثر المفسرين أنهما أمة واحدة وممن ذهب إلى ذلك ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة، وابن جريج وابن زيد وغيرهم ومال إليه الطبري ورجحه ابن كثير وانتصر له وقال: "والصحيح أنهم أمة واحدة، وصفوا في كل مقام بشيء؛ ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان، كما في قصة مدين سواء بسواء، فدل ذلك على أنهم أمة واحدة" ،ومنهم من قال أن مدين أهل المدينة والأيكة أهل البادية وعلى كلا القولين فلا إشكال والله تعالى أعلم. انظر:(جامع البيا 19/ 390، تفسير ابن كثير 6/ 158،التحرير والتنوير 19/ 89، أضواء البيان 4/ 190)