الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: تقوى الله عز وجل
جبلت النفس البشرية على حب ملذات الحياة الدنيا وزينتها.
وبين الله تبارك وتعالى أن المال والولد من زينة الحياة الدنيا
وقد أوصى الله عباده وحثهم على النفقة للفقراء والمساكين.
وحينئذ قد يقع العبد في حيرة، وخصوصا إذا حضرته الوفاة و أراد أن يوصي وبين يديه تركة ، هل يوصي بإنفاقها على الفقراء والمحتاجين علها تكون سترا له من النار، أم يتركها لأولاده المستحقين، خاصة إذا كانوا ضعفة وليس لهم من يقوم على مصالحهم؟
وقد ورد النص القرآني صريحا مبينا أن امتثال التقوى يقود إلى الصواب والرشاد، فقال تعالى:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)} [النساء: 9].
فجاء الأمر بالتقوى الذي في امتثاله صلاح العبد وتوفيقه إلى القول السديد، سواء في ذلك الموصي أو من حضره حال وصيته.
فإن كان يخشى إن هو أوصى بماله للفقراء والمساكين أن يضر بورثته وأولاده، فعليه أن يتقي الله في هؤلاء الورثة وألا يدعهم فقراء
(1)
، وهذا من السداد.
فعن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي وَأَنَا بِمَكَّةَ وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا، قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفْرَاءَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَالشَّطْرُ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: الثُّلُثُ؟ قَالَ: (فَالثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ إنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةُ الَّتِي تَرْفَعُهَا إِلَى فِيِّ امْرَأَتِكَ وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَكَ فَيَنْتَفِعَ بِكَ نَاسٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا ابْنَةٌ.
(2)
(1)
{انظر: جامع البيان (7/ 19) ، تفسير القرآن العظيم (2/ 222) ، المحرر الوجيز (3/ 507).
(2)
{رواه البخاري في كتاب الوصايا، باب: أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس، برقم (2591) ومسلم في كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، برقم (1628).
وكذلك فإن من حضر الميت أثناء وصيته ورأى في وصية الميت ما يضر بورثته، فعليه أن يتقي الله ويجعل ورثة الميت مكان أولاده، فهل يرضى لهم ما يرضى لأولاده، فإذا رآه أوصى بما يضر بورثته فعليه نصحه وتوجيهه إلى الهدي النبوي والشرع الإلهي.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هذا في الرجل يَحْضُره الموت، فيسمعه الرجل يوصي بوصية تَضر بورثته، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله، ويوفقه ويسدده للصواب، ولينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضَّيْعَةَ.
(1)
أما إن غلب على ظنه أنه لو أوصى للفقراء والمساكين ألا يضرَّ بورثته، فإن ذلك من التقوى، فكما أنه يحب أن يُحسَن إلى ذريته فعليه أن يتقي الله في الفقراء والمساكين.
و من حضر الميت حين وصيته في هذه الحال فعليه أن ينصحه عن الزيغ وأن لا ينهاه عن الوصية لذوي القربى من الفقراء والمساكين، بل يأمره بذلك، وأن هذا الأمر فيه صلاحه، إذ لو كان مكانهم لسره أن يوصى له.
(2)
فتقوى الله متحققة في كلا الحالين بالنظر فيما هو أقرب إلى الله وأصلح إلى عباده فيقوم به، ويراعي الأضعف والأحوج فإذا ترك ورثة مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية، ويحمل على أن يقدم لنفسه، وإذا ترك ورثة ضعفاء مقلين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين فالمراعى إنما هو الضعف، فيجب أن يمال معه، حتى لا يكون المال وزرا على صاحبه.
(3)
وكذلك فإن من التقوى أن يوصي العبد لأهل قرابته المحتاجين بما لا يضر بورثته أيضا، فقد جعل الله ذلك حقا على المتقين لأنهم هم الذين يسعون إلى الكمال ويخافون التقصير وذلك في قوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)} [البقرة: 180].
(1)
{أخرجه الطبري بسنده في التفسير (7/ 19).
(2)
{انظر: جامع البيان (7/ 22) ، المحرر الوجيز (3/ 508).
(3)
{وهذا القول اختيار ابن عطية رحمه الله، (المصدر السابق) ، والقرطبي رحمه الله في تفسيره (6/ 89).
ومعنى (حقا) أي: ثابتا ثبوت نظر وتحصين، لا ثبوت فرض ووجوب.
(1)
ومعلوم أن هذه الآية قد خرج منها الوالدان الوارثَان وبقى ذوو القرابة الذين لا يرثون فعن ابن عباس رضي الله عنهما: (كان لا يرث مع الوالدين غيرهما إلا وصية للأقربين، فأنزل الله آية الميراث، فبين ميراث الوالدين وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت)
(2)
قال النووي
(3)
رحمه الله: (إِنْ كَانَتْ الْوَرَثَة أَغْنِيَاء اُسْتُحِبَّ أَنْ يُوصِي بِالثُّلُثِ تَبَرُّعًا، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاء اُسْتُحِبَّ أَنْ يَنْقُص مِنْ الثُّلُث).
(4)
فالحاصل أن التقوى تمنع العبد من الظلم وتعينه على حراسة حقوق الضعفاء من الضياع أو التبديد.
(5)
والتقوى كذلك تقود العبد إلى الصراط السوي وامتثال ما أمر الله به وفرضه من أحكام المواريث.
ومن التقوى كذلك: تعلم هذه الفرائض وتعليمها حتى يتعلم الناس ما يجب عليهم في أموالهم بالطريقة التي شرعها الله جل وعلا.
فإذا امتثل العبد المسلم أمر ربه، سلم من الضلال والزيغ كما قال تعالى:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]. والمعنى: يفرض لكم فرائضه، ويحدّ لكم حدوده ويوضح لكم شرائعه لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان.
(6)
(1)
{الجامع لأحكام القرآن (3/ 109).
(2)
{أخرجه الطبري بسنده في تفسيره (3/ 390).
(3)
هو يحيى بن شرف بن حسن بن حسين بن جمعة بن حزام الحازمي محيي الدين أبو زكريا النووي ثم الدمشقي الشافعي العلامة شيخ المذهب وكبير الفقهاء في زمانه ولد بنوى سنة 631 هـ وله تصانيف كثيرة منها: شرح مسلم ورياض الصالحين والأذكار وغير ذلك ومما لم يتممه وقد كان زاهدا عابدا ورعا وكان على جانب كبير لا يقدر عليه أحد من الفقهاء غيره، كان لا يضيع شيئا من أوقاته، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر للملوك وغيرهم توفي سنة 676 هـ. (البداية والنهاية 13/ 268).
(4)
{شرح النووي على صحيح مسلم، (11/ 77).
(5)
{انظر: التحرير والتنوير (4/ 252).
(6)
{انظر: نظم الدرر (2 - 218) ، تفسير القرآن العظيم (2/ 385).