الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لحفظ حق الدائن في الحضر والسفر ثم أكدها بمؤكدات وبالغ في التأكيد ووعظ فيها وأمر بالتقوى، كل هذا مبالغة في التوصية بحفظ المال الحلال وصيانته عن الضياع.
وتتلخص هذه الأحكام فيما يلي:
أ- الأمر بكتابة جميع عقود المداينات إما وجوبا أو استحبابا، لشدة الحاجة لذلك وأنه إذا عدمت الكتابة حصل من الغلط والنسيان شر عظيم.
ب- أمر الكاتب أن يكتب بالعدل.
ج- أمر المدين - الذي عليه الحق- أن يبين جميع ما عليه من الحق ولا يبخس منه شيئا.
د- الأمر بالإشهاد على الديْن على وجه الاستحباب أو الوجوب، لأن المقصود من ذلك الإرشاد إلى ما يحفظ الحقوق.
هـ - مشروعية الرهن وأنه عوض عن الكتابة للتوثق إذا لم تتوفر أسبابها، سواء في الحضر والسفر، وإنما نص الله على السفر لأنه مظنة الحاجة.
و- أمر الذي عليه الحق بأداء الحق كاملا إذا أمنه صاحب الحق فلم يكتب ولم يشهد ولم يرهن.
وكل هذه الأوامر لها تفصيلات وتأكيدات لبيان أهمية حفظ حق الدائن حتى لا يضيع ماله أو يؤكل بغير وجه حق.
وفي هذه الآية دليل على عناية الشريعة بما يحفظ مصالح العباد وحقوقهم من التلف والضياع.
(1)
•
المطلب الثالث: حفظ حق اليتيم والسفيه
.
إن الشريعة الإسلامية كما اعتنت ببيان حفظ المال بين الناس، فقد جاءت مؤكدة على حفظ حق الضعفاء في المجتمع لضعفهم وعجزهم عن القيام على حفظ حقوقهم
(1)
انظر: التفسير الكبير (7/ 116) ، تيسير الكريم الرحمن (ص 118، 119) ، تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين (3/ 410).
ومصالحهم
(1)
، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم أمته وحذرهم من الاقتراب من حقوق الضعفاء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(اللهم إني أحرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة)
(2)
.
ومن أعظم هذه الحقوق المال كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه .. )
(3)
الحديث.
وقد أرشد الله جل وعلا في كتابه الكريم إلى حفظ هذا الحق من الضياع، بعدة طرق وهي:
1.
منع السفيه من التصرف بماله.
كما قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)} [النساء: 5].
فأمر الله تعالى عباده بإمساك أموال السفهاء حفظا لأموالهم من الضياع.
والتعبير بضمير المخاطب في قوله: {أَمْوَالَكُمُ} مبالغة في محافظة الأولياء على أموال الضعفاء، وكأن أموالهم هي عين أموال الأولياء، وهي دعوة كذلك لجميع المخاطبين بهذه الآية بالسعي إلى حفظ المال، وأن في حفظ مال المحجور عليهم حفظ لمال المجتمع الذي توجه إليه النداء في بداية السورة بقوله:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ}
(4)
.
وفي قوله تعالى: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} تأكيد لحفظ المال الذي به قيام الحياة ومصالحها وبضياعه ضياعها، وهو كذلك كالقيم للنفوس لأن بقاءها بها كما تدل على ذلك القراءة الأخرى {قِيَماً} ،
(5)
وهذا توجيه للناس إلى حفظ ما به قيام الحياة وبقاؤها.
(1)
انظر: منهج القرآن الكريم في رعاية ضعفاء المجتمع (ص 162).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند، برقم (9664) ، والنسائي في سننه، كتاب عشرة النساء، باب حق المرأة على زوجها، برقم (9149)، قال الأرناؤوط في تعليقه على المسند: إسناده قوي من أجل محمد بن عجلان وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين، وحسنه الشيخ الألباني (السلسلة الصحيحة 3/ 12).
(3)
سبق تخريجه (ص 44).
(4)
انظر: التفسير الكبير (9/ 190) ، التحرير والتنوير (4/ 234).
(5)
هي قراءة نافع وابن عامر (انظر: البحر المحيط (3/ 237) ، الدر المصون (3/ 580، 581).
وفي قوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} حفظ لحق اليتيم ومن في حكمه من الإنفاق عليهم بما ينفعهم ويصلحهم، فلا يضيّق عليه في رزقه وكسوته.
وفي التعبير بـ (في) بدل (من) في الآية إشارة إلى حفظ المال بالاتجار فيه وتنميته حتى لا ينقص من الإنفاق حال تسليمه للسفيه إذا رشد، والمراد أن جملة المال ما يحصل به الرزق والكسوة تارة من عينه وتارة من ثمنه وتارة من نتاجه
(1)
.
2.
النهي عن الاقتراب من مال اليتيم.
وقد كرر الله عز وجل النهي عن القرب من مال اليتيم فقال: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152]
فنهى الله تبارك وتعالى عن إتلاف أموال اليتامى، إذ هم أحق الناس بالنهي عن قربان أموالهم لضعفهم وعجزهم، وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يستحلون أموال اليتامى فيأكلونها، فهم ضعفاء في حجرهم، لا يستطيعون رد الحق، ولا يفطن أحد لمظلمتهم
ولذلك نهى الله عن مجرد قربان شيء منها فضلا عن الأكل، مبالغة في الابتعاد وسدا للذريعة، وتحذيرا من الأخذ ولو كان أقل القليل.
ومجيء النهي ثلاث مرات بضمير الجماعة إشارة إلى أن المجتمع مسؤول عن اليتيم والحفاظ على ماله من التلف والضياع
(2)
.
والنهي عن الاقتراب في الآية يشمل ما تتطلع إليه النفس من الفوارق الخفيفة والتحايل من استبدال شيء مكان شيء فيحصل بذلك استبدال الخبيث بالطيب، وقد نص الله على تحريم ذلك فقال:{وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)} [النساء: 2].
(3)
(1)
انظر: الكشاف (1/ 247) ، التحرير والتنوير (4/ 235).
(2)
انظر: التفسير الكبير (20/ 205) ، التحرير والتنوير (5/ 163)(15/ 67 ، 96).
(3)
أضواء البيان (6/ 70).
• وقد استثنى الله جل وعلا القرب منها بالتي هي أحسن وفي ذلك حفظ لمال اليتيم من الفساد فعن ابن عباس قال: لما نزلت {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} و {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} قال: اجتنب الناس مالَ اليتيم وطعامه، حتى كان يفسُد، إنْ كان لحمًا أو غيره. فشقّ ذلك على الناس، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220].
(1)
فالتعامل مع مال اليتيم إذاً لا يكون إلا بالتي هي أحسن في حقه وأصلح لماله، ومن ذلك ما نص عليه الفقهاء أن من ولي مال اليتيم واستحق أجراً، فله الأقل من أحد أمرين: إما نفقته في نفسه، وإما أجرته على عمله حفظا لماله
(2)
.
وقد يحتال بعض الناس أو تسول له نفسه حاجته للأكل من مال اليتيم فيأكله من غير حاجة ضرورية قبل بلوغ اليتيم فلا يبقى له عند البلوغ إلا النزر اليسير من المال فنهى الله تعالى عن ذلك وقال: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6].
3.
دفع أموالهم إليهم بعد البلوغ ومؤانسة رشدهم:
فقد أمر الله الأوصياء بدفع أموال اليتامى إليهم فقال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6].
والأمر بالدفع متعلق بشرطين لا بد من تحققهما:
الأول: البلوغ.
الثاني: إيناس الرشد منهم.
وهي دعوة للأوصياء باختبار اليتامى ومؤانسة الرشد منهم قبل التسليم فإن حصل أدنى مؤانسة وجب دفع المال إليه بدون مماطلة أو تأخير
(3)
.
(1)
أخرجه الطبري في التفسير (4/ 353) ، والنسائي في سننه، كتاب الوصايا، باب ما للوصي من مال اليتيم إذا قام عليه برقم (6496) وحسنه الألباني.
(2)
انظر: البحر المحيط (4/ 325) ، أضواء البيان (6/ 70).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 67) ، أضواء البيان (1/ 188) ، التحرير والتنوير (4/ 242).