الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: بناء الأسرة الصالحة
إن من الحِكَم العظيمة التي شرع الله من أجلها النكاح، أن تبنى الأسرة المكونة من الزوج والزوجة على الدين والصلاح.
فبصلاح هذه الأسرة يكون صلاح المجتمع، فالأسرة هي اللبنة الأولى للمجتمع وفي هذه الأسرة تُنَشَّأ الأجيال من البنين والبنات.
ولذلك حث الإسلام وأمر باختيار الأساس الجيد لهذه الأسرة سواء في ذلك الزوج والزوجة لما لهما من أثر مباشر على الأولاد إما في إصلاحهم أو إفسادهم، فقد وضح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر صلاح الأبوين أو فسادهما بقوله:(ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟)
(1)
.
وقد وردت الآيات في كتاب الله داعية لهذه الحكمة العظيمة بأوامر ونواه وتشريعات آخذة كل آية بزمام الأخرى لبيان ما لبناء الأسرة على الصلاح والدين من الخير العظيم للفرد والمجتمع، وفيما يلي بيانها:
•
المطلب الأول: تحريم نكاح المشركات وإنكاح المشركين
.
فقد نهى الله عباده عن ذلك وبيّن لهم وجه النهي فقال: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام برقم (1292) ، ومسلم في كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين برقم (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)} [البقرة: 221].
فبينت الآية الكريمة أنه لا يجوز للمسلم أن ينكح امرأة مشركة - غير الكتابية -
(1)
بأي حال، مهما شرف نسبها وكرم أصلها أو كانت ذا مال وجمال، وكذلك نهى أن تُنكَح المسلمة لمشرك مهما كان نسيبا حسيبا.
فاشترط جل وعلا الإيمان في النكاح وأكد ذلك بأن الأمَة مهما كانت فقيرة ودميمة وكانت مؤمنة فهي خير من المشركة وإن كانت حسيبة جميلة، وكذلك العبد إن كان مؤمنا فهو خير من المشرك وإن كان ذو نسب وحسب.
(1)
اختلف المفسرون في دخول الكتابية في عموم هذه الآية على قولين:
القول الأول: لم ير دخول الكتابيات في عموم هذه الآية وأن المراد بهذه الآية المشركات من العرب ولذلك لم ير أن الآية دخلها تخصيص أو نسخ وذهب إلى هذا القول قتادة وسعيد بن جبير ووافقهم ابن جرير الطبري رحمه الله.
واستدلوا بما ورد من الآيات التي تفرق بين المشركين وأهل الكتاب كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)} [البينة: 1] فجعل أهل الكتاب من جملة الكفار ولم يدخلهم في المشركين فدل على أن المراد بهذه الآية هن المشركات من العرب.
القول الثاني: قول من قال أن المراد في هذه الآية عام في المشركات من العرب وغيرهن من أهل الكتاب، ثم خص الكتابية بجواز نكاحها بآية المائدة وهي قوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ
…
الآية} [المائدة: 5] وعلى هذا القول جمهور السلف والمفسرين كابن عباس، و مالك بن أنس وسفيان بن سعيد الثوري، و الأوزاعي.، وهو الراجح لعموم الآية ودخول أهل الكتاب في اسم المشركين كما قال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} إلى قوله: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 30 - 31].
وروي عن عمر بن الخطاب وابن عمر رضي الله عنهما أن الآية عامة ولم يدخلها تخصيص، وأنهما نهيا عن نكاح الكتابية، ولعل النهي منهما لم يقصدا به التحريم وإنما أرادا به الكراهة وألا يعدل عن نكاح المؤمنات والله أعلم. انظر:(جامع البيان 4/ 362 - 265)(أحكام القرآن للجصاص 2/ 15، 16) ، (الجامع لأحكام القرآن 3/ 455 - 457)(أضواء البيان 1/ 106).
وهذا التحريم لبيان أهمية الإيمان في صلاح الأسرة واستقامتها ولذلك بين الله الحِكمة من هذا النهي فقال: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} .
أي أن مخالطة المشركين في أعمالهم تقود إلى النار والعياذ بالله لانعدام أصل الإيمان لديهم فليس لهم دين يدينون به فيحرم عليهم الخيانة، إضافة إلى ما لديهم من العادات الرذيلة والخرافات الشركية، فقد يحصل من المخالطة التهاون في تعاليم الإسلام والمجاراة في بعض الشركيات، إضافة إلى ما يحصل من تأثر الأبناء بما يرونه ويشاهدونه من الشرك.
ولما كان درء المفاسد مقدم على جلب المصالح فلا عبرة باحتمال أن يترك الكافر كفره ويدخل في الإسلام.
وهذا يبين ما لاجتماع الزوجين على الإيمان من صلاح للأسرة وتنشئة أبنائها على الدين وفضائل الأخلاق، الأمر الذي يقود إلى الجنة والمغفرة بإذنه عز وجل.
(1)
ولما كان هذا النهي عند إرادة النكاح فقد أمر الله من دخل في الإسلام وزوجته لا تزال على الكفر بفسخ نكاحها، وكذلك الزوجة إذا أسلمت وزوجها مازال على الكفر فلا تحل له ولا يحل لها فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)} [الممتحنة: 10]
فإنه لما كان صلح الحديبية كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فرد يومئذ أبا جندل
(2)
إلى أبيه سهيل بن عمرو ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك
(1)
انظر: جامع البيان (4/ 370، 371) ، نظم الدرر (1/ 420) ، روح المعاني (2/ 120).
(2)
أبو جندل ابن سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر العامري القرشي، واسمه العاص، كان من خيار الصحابة توفي شهيدا في طاعون عمواس بالأردن 18 هـ (السير 1/ 192)(أسد الغابة 5/ 54).
المدة وإن كان مسلما، وجاء المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله يومئذ وهي عاتق
(1)
فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ..... إلى قوله ..... وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}
(2)
.
فنهى الله تبارك وتعالى عن رد المؤمنات المهاجرات إلى الكفار بعد التثبت من أن الهجرة للمدينة إنما كانت رغبة في الإسلام، وبين أن العلة في ذلك هو اختلاف الدين وأن التفريق بين المرأة وزوجها بسبب إسلامها وبقائه على الكفر فقال:{لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} أي: لم يحل الله مؤمنة لكافر ولا نكاح مؤمن لمشركة.
ثم أمر الله المؤمنين بفراق زوجاتهم إذا بقين على الكفر فقال: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}
ولما نزلت هذه الآية طلّق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأتين له كانتا على الشرك
(3)
.
فهذه الآيات تؤكد أن الكفر مانع من صلاح الأسرة، وأن الحياة الزوجية لا تؤسس على الإيمان بالله إن كان أحد الزوجين كافرا وذلك لأن الزوجين هما ركنا هذه الأسرة فكيف يكون أحد الركنين فاسدا؟
أما ما خصه الله من جواز نكاح الكتابية مع كونها كافرة، ومنع الكتابي من النكاح بالمسلملة في قوله:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)} [المائدة: 5].
(1)
أي: استحقت التزويج. انظر: (الفائق في غريب الحديث والأثر 1/ 283)
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الشروط، باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة، برقم (2564)
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، برقم (2581).
فذلك أن أهل الكتاب يجمع بينهم وبين المسلمين اعتقاد وجود الله وانفراده بالخلق والإيمان بالأنبياء ويفرق بيننا وبين النصارى الاعتقاد ببنوة عيسى والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويفرق بيننا وبين اليهود الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديق عيسى، فأباح الله تعالى للمسلم أن يتزوج الكتابية ولم يبح تزوج المسلمة من الكتابي اعتداداً بقوة تأثير الرجل على امرأته فالمسلم يؤمن بأنبياء الكتابية وبصحة دينها قبل النسخ فيوشك أن يكون ذلك جالباً إياها إلى الإسلام، لأنها أضعف منه جانباً وأما الكافر فهو لا يؤمن بدين المسلمة ولا برسولها فيوشك أن يردها عن دينها
(1)
.
والظاهر من قوله تعالى في الآية {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أنها الحُرَّة العفيفة
(2)
.
فلا يجوز للمسلم أن ينكح الإماء الكتابيات أو المومسات منهن فيجتمع فيها الكفر والبغي أو الكفر والرق، أو جميع هذه الصفات وبذلك يتخلل الفساد إلى الأسرة إما بسبب الفجور ونقص الدين أو بسبب الرق الذي يلحق الأولاد.
ومع ذلك كله فإن المسلم إذا خشي على ولده الكفر من هذا النكاح فلا ينبغي له أن يقدم عليه، ولذلك فقد كره عمر رضي الله عنه نكاح الكتابيات وخشي أن يزهد الناس في المسلمات أو تنكح المومسات منهن أو لغير ذلك من المعاني
(3)
.
وقد سئل الحسن عن زواج الكتابية فقال: (ما له ولأهل الكتاب، وقد أكثر الله المسلمات! فإن كان لا بد فاعلا فليعمد إليها حَصانًا غير مسافحة). قال الرجل: وما المسافحة؟ قال: (هي التي إذا لَمَح الرجل، إليها بعينه اتّبعته)
(4)
.
وهذا كله من حرص الإسلام على بناء الأسرة الصالحة دينيا ودنيويا.
(1)
التحرير والتنوير (2/ 363).
(2)
وهذا القول هو الراجح وعليه جمهور المفسرين في هذه الآية. انظر: تفسير القرآن العظيم (3/ 42) أضواء البيان (4/ 110).
(3)
انظر: جامع البيان (9/ 589) ، (4/ 367).
(4)
أخرجه الطبري في التفسير وقد صححه الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه للطبري (9/ 591).