الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وباتت جَمِيع الفرنج محترسة وغدت مترسة فَمَا هِيَ إِلَّا أَن حذفت والجة على المينا وَفِيه المراكب والبضائع فاستولت على عدَّة من المراكب تحطيما وتكسيرا ونطاحا يقلقل وَلَو كَانَ ثبيرا وأخلت سَاحل الفرنج بقتالها وباشرت مثل المَاء بنزولها ونزالها وَهَذَا مِمَّا لم يعْهَد من الأسطول الإسلامي مثله فِي سالف الدَّهْر لَا فِي حَالَة قُوَّة إِسْلَام وَلَا ضعف كفر وَمِمَّا سَبيله أَن تطرز السّير الْكَرِيمَة بفخره كَمَا طرز الله الصَّحِيفَة الشَّرِيفَة بأجره
وَقتل على قلعة عكا ثَلَاثَة نفر بأليم السِّهَام أبعد مَا كَانُوا وقفُوا عَنْهَا وآمن مَا كَانُوا مِنْهَا فصرعتهم الْأَيْدِي والأفواه وخروا سجدا على الجباه سجودا لَا يرفعون مِنْهُ الرؤوس وَلَا ينتقلون مِنْهُ إِلَى حَالَة الْجُلُوس وَلَا يرفع فِيمَا يرفع لَهُم من عمل وَلَا لَهُم فِيهِ من قبْلَة وَلَا لَهُم بِهِ من قبل
وأقامت المراكب يَوْمَيْنِ تقَابلهَا وتقاتلها وتناضلها
فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة
مِنْهَا حجَّة الْفَاضِل الثَّانِيَة ووفاة الْخَلِيفَة المستضيء بِاللَّه وَغير ذَلِك
قَالَ الْعِمَاد وَفِي الْعشْر الْأَخير من شَوَّال خرج الْفَاضِل من دمشق إِلَى الْحَج ثمَّ عَاد إِلَى مصر من مَكَّة
قلت وقفت على نُسْخَة كتاب الْفَاضِل إِلَى الصفي بن الْقَابِض
يصف لَهُ مَا لَقِي فِي طَرِيقه إِلَى مصر وركوب الْبَحْر وَكَانَت جماله ذهبت بِمَكَّة فِي خَامِس عشر ذِي الْحجَّة فَقَالَ خرجنَا من مَكَّة شرفها الله يَوْم الْخَامِس وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة وَفِي هَذِه الْأَيَّام زَاد تبسط المفسدين وإسراف المسرفين وَظهر من هوان أَمِير الْحَاج الْعِرَاقِيّ وَمن ضعف نَفسه وانخفاض جنَاحه مَا أطمع الْمُفْسد وأخاف المصلح
ووصلنا إِلَى جدة يَوْم الْأَحَد السَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة وركبنا الْبَحْر يَوْم الثُّلَاثَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين مِنْهُ وبتنا فِيهِ لَيْلَتي الْأَرْبَعَاء وَالْخَمِيس ورمتنا الرّيح إِلَى جَزِيرَة بِالْقربِ من بِلَاد الْيمن تسمى دبادب
وَكَانَت إِحْدَى الليلتين فِي الْبَحْر من ليَالِي الْبلَاء وَبِاللَّهِ أقسم لقد شَاب بعض رُؤُوس أَصْحَابنَا فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَأَيِسُوا من الْأَنْفس وتمنوا معاجلة الْأَمر وتقصير الْعَذَاب وظنوا أَنهم أحيط بهم وعاتبوا أنفسهم ثمَّ احْتَجُّوا عَلَيْهَا بالأقدار الَّتِي لَا حِيلَة فِيهَا
وصبرنا إِلَى أَن فرج الله سُبْحَانَهُ ونزلنا الْبَريَّة بِحَيْثُ لَا مَاء يشرب وَلَا جمل يركب وَنفذ إِلَى البجاة النازلين على سَاحل الْبَحْر فأحضروا جمالا ضَعِيفَة أجرتهَا أَكثر من ثمنهَا وَثمن مَا تحمله فَرَكبْنَا ووصلنا إِلَى عيذاب بعد عشرَة أَيَّام وَقد هلكنا ضعفا وتعبا وجوعا وعطشا لِأَن الْخلق كَانُوا كثيرا والزاد يَسِيرا
وركبنا الْبَريَّة من عيذاب إِلَى أسوان فَكَانَت أشق من كل طَرِيق سلكناها وَمن كل مَسَافَة قَطعْنَاهَا لأَنا وردنا المَاء فِي إِحْدَى عشرَة لَيْلَة مرَّتَيْنِ وَكَانَت الهمة قَاصِرَة فِي المزاد وَكَانَت الْبلوى عَظِيمَة فِي الْعَطش
فَأَما الحزون والوعر فَهِيَ تزيد على مَا فِي
بَريَّة الشَّام بِكَوْنِهَا طَرِيقا بَين جبلين كالدرب المتضايق والزقاق المتقارب وحر الشَّمْس شَدِيد وَقَرِيب الْوَعْد بَينهمَا بعيد ولطف الله إِلَى أَن وصلنا مصر فِي السَّابِع عشر من صفر
قلت وللوجيه ابْن الذروي فِي الْفَاضِل
(لَك الله إِمَّا حجَّة أَو وفادة
…
فَمن مشْهد يُرْضِي الْإِلَه وموسم)
(ترى تَارَة بَين الصوارم والقنا
…
وطورا ترى بَين الْحطيم وزمزم)
(وَكم لَك يَا عبد الرَّحِيم مآثر
…
لَهَا فِي سَمَاء الْفَخر إشراق أنجم)
(كَأَنَّك لم تخلق لغير عبَادَة
…
وَإِظْهَار فضل فِي الورى وتكرم)
قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة ظهر الْملك الْعَزِيز أَبُو الْفَتْح عُثْمَان عماد الدّين بن السُّلْطَان وَكَانَ أحب أَوْلَاده إِلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي قَامَ بتدبير الْملك بعده وَولد بِمصْر ثامن جُمَادَى الأولى سنة سبع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة كَمَا سبق ذكره
وَكَانَ السُّلْطَان لما قدم الشَّام زَاد شوقه إِلَيْهِ فاستقدمه فَقدم عَلَيْهِ عَاشر رَجَب سنة إِحْدَى وَسبعين وَأنْشد الْعِمَاد السُّلْطَان عِنْد قدومه قصيدة مِنْهَا
(يَا أسدا يحمي عرين الْعلَا
…
هنيت جمع الشمل بالشبل)
(عُثْمَان ذِي النورين بَين الورى
…
من سؤدد سَام وَمن فضل)
(يحكيك إقداما وبأسا فَمَا
…
أشبه هَذَا الْفَرْع بِالْأَصْلِ)
(مخايل الرشد على بشره
…
شاهدة بِالْفَضْلِ والنبل)
(ملك قضى الله لَهُ أَنه
…
على مُلُوك الأَرْض يستعلي)
(بِالْملكِ النَّاصِر سلطاننا
…
طَالَتْ يَد الْإِحْسَان وَالْعدْل)
ثمَّ لم يُفَارِقهُ واستصحبه إِلَى مصر فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين ثمَّ عَاد بِهِ مَعَه إِلَى الشَّام فِي شَوَّال سنة ثَلَاث وَسبعين وَاتخذ لَهُ معلما من مصر وَهُوَ نجم الدّين يُوسُف بن الْحُسَيْن المجاور فَحصل من صحبته رزقا وَاسِعًا لَا سِيمَا فِي عَام الطّهُور فَإِنَّهُ عَم فِيهِ السرُور والحبور وَكَانَ مُتَوَلِّي الْإِنْفَاق فِي الطّهُور صفي الدّين بن الْقَابِض لِأَنَّهُ كَانَ مُتَوَلِّي الخزانة والديوان والأعمال بِدِمَشْق
قَالَ وَحج يَعْنِي ابْن الْقَابِض سنة أَربع وَسبعين وفيهَا حج
الْفَاضِل من مصر يَعْنِي حجَّته الأولى وَعَاد إِلَى الشَّام وَمَعَهُ ابْن الْقَابِض
قلت فَلَمَّا رجعا مَعًا فِي حجَّة الْفَاضِل الأولى إِلَى الشَّام ثمَّ انْفَرد الْفَاضِل بِالْحَجِّ ثَانِيًا من الْعَام الْمقبل وَهُوَ سنة خمس وَسبعين وَتمّ لَهُ فِي رُجُوعه مَا تمّ كَاتبه بِالْكتاب الَّذِي سبق ذكره يصف لَهُ مَا لَقِي فِي رُجُوعه
وَكَانَت حجَّة الْفَاضِل الأولى من مصر وَرجع إِلَى الشَّام وَكَانَت الثَّانِيَة من الشَّام وَرجع إِلَى مصر
وَفِي هَذِه السّنة توفّي الْملك الْمَنْصُور حسن بن السُّلْطَان صَلَاح الدّين وقبره الْقَبْر القبلي من الْقُبُور الْأَرْبَعَة بالقبة الَّتِي فِيهَا شاهنشاه بن أَيُّوب بالمقبرة النجمية بالعوينة ظَاهر دمشق
قَالَ الْعِمَاد وفيهَا خَرجُوا إِلَى بعلبك لتسليمها إِلَى عز الدّين فرخشاه فسلكوا طَرِيق الرواديف وَهِي طَرِيق شاقة
وفيهَا أغار عز الدّين على صفد ثامن عشر ذِي الْقعدَة وَكَانَ قد جمع لَهُم من رجال بانياس وَمَا حولهَا وَرجع غانما سالما
قَالَ وَفِي مستهل ذِي الْقعدَة أَو ثَانِيه توفّي بِبَغْدَاد الْخَلِيفَة الإِمَام المستضيء بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ واستخلف وَلَده النَّاصِر لدين الله أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد
وَكَانَ رَسُول السُّلْطَان ضِيَاء الدّين بن الشهرزوري حَاضرا فَحَضَرَ
وَبَايع وَأخْبر بجلية الْحَال فبادر السُّلْطَان إِلَى الْخطْبَة لَهُ فِي جَمِيع الْبِلَاد وَمضى صدر الدّين شيخ الشُّيُوخ عبد الرَّحِيم بن إِسْمَاعِيل من بَغْدَاد رَسُولا إِلَى بهلوان وألزمه حَتَّى خطب بهمذان وأصفهان وعمت الدعْوَة الهادية فِي جَمِيع بِلَاد خُرَاسَان
ثمَّ لما رَجَعَ شيخ الشُّيُوخ جَاءَ إِلَيْنَا رَسُولا فِي سنة سِتّ وَسبعين وَأَخذه السُّلْطَان مَعَه إِلَى مصر وَحج مِنْهَا وَركب الْبَحْر كَمَا سَيَأْتِي ذكره
وللعماد فِي مدح الإِمَام النَّاصِر قصائد مِنْهَا قصيدة بائية مدحه بهَا سنة فتح الْقُدس وَسَيَأْتِي مِنْهَا أَبْيَات عِنْد ذكر فَتحه وَمِنْهَا
(الدَّهْر ينصرني مَا دَامَ ينسبني
…
لخدمة النَّاصِر الْمَنْصُور نساب)
(بِطَاعَة النَّاصِر بن المستضيء أبي الْعَبَّاس
…
أَحْمد للأيام إصحاب)
وَقَالَ مُحَمَّد بن القادسي فِي تذييل تَارِيخ أبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ
مولد المستضيء ثَالِث عشري شعْبَان من سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَكَانَت خِلَافَته تسع سِنِين وَسِتَّة أشهر وواحدا وَعشْرين يَوْمًا
بُويِعَ تَاسِع ربيع الآخر سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَكَانَ كَرِيمًا رحوما بارا بالرعية يعْفُو عَن الجرائم الْكِبَار عادلا
ظهر يَوْم مبايعته من رد الْمَظَالِم والأملاك المقبوضة والإفراج عَن المسجونين وَإِسْقَاط الضرائب والمكوس مَا شاع واشتهر
قَالَ وَتقدم إِلَى شيخ الشُّيُوخ عبد الرَّحِيم وَإِلَى عبد الرَّحْمَن بن الْجَوْزِيّ فَصَليَا عَلَيْهِ
ثمَّ بَايع النَّاصِر أَخُوهُ الْأَمِير أَبُو مَنْصُور هَاشم ثمَّ بَنو أَعْمَامه وخواصه ثمَّ الْوُلَاة وأرباب المناصب والأعيان والوافدون لِلْحَجِّ من بِلَاد خُرَاسَان وَغَيرهم
وَكَانَ وَالِده المستضيء قد عهد إِلَيْهِ قبل وَفَاته بِيَوْم وَاحِد
قلت كَذَا نقلته من خطه وَلَعَلَّه أَرَادَ بأسبوع وَاحِد فَسبق بِهِ قلمه فَإِن ابْن الدبيثي ذكر أَنه خطب للناصر بِولَايَة الْعَهْد يَوْم الْجُمُعَة الثَّانِي وَالْعِشْرين من شَوَّال
ثمَّ قَالَ ابْن القادسي وَفِي سَابِع ذِي الْقعدَة قبض على صَاحب المخزن ظهير الدّين أبي بكر بن الْعَطَّار ووكل بِهِ وتتبع أَصْحَابه وَمن يتَعَلَّق بِهِ
وَقتل النَّقِيب مَسْعُود الَّذِي كَانَ بَين يَدَيْهِ وَكَانَ أحد الأعوان بِبَاب النوبي قد نزعت الرَّحْمَة من قلبه فَقطع قطعا وربط فِي رجله حَبل وسحبته الْعَامَّة فِي الدروب ثمَّ أحرق بعد ذَلِك
قَالَ وَفِي حادي عشره حمل ابْن الْعَطَّار مَيتا وَعلم بِهِ الْعَامَّة فرجموا تابوته بالآجر فَأَلْقَاهُ الحمالون وهربوا فَأَخذه الْعَامَّة وشدوا فِي رجله شريطا وسحب فِي جَمِيع بَغْدَاد ومنافذها ودروبها ومحالها وَقطع لَحْمه قطعا
قَالَ وَتوجه شيخ الشُّيُوخ أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحِيم إِلَى البهلوان بن إيلدكز شحنة همذان لأجل الْخطْبَة فتوقف عَن ذَلِك فهاجت الْعَامَّة عَلَيْهِ ووثب أهل الْمَذْكُور وخطبوا
وَجَاء كتاب شيخ الشُّيُوخ إِلَى الدِّيوَان سطرها فلَان وَالْحَال فِي الجنوح كقصة نوح من قَرَأَ السُّورَة عرف الصُّورَة
قَالَ وَفِي هَذِه السّنة اشْتَدَّ الغلاء وَكثر الوباء بِبَغْدَاد وَغَيرهَا من الْبِلَاد وَذكر أَن رجلا بواسط ذبح بِنْتا لَهُ وأكلها وَآخر بقر بطن صبي وَأخذ كبده وشواها وأكلها
قَالَ وَفِي رَابِع عشر ربيع الآخر زلزلت الأَرْض بعد الْعَتَمَة فَوق بِلَاد