الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحصن تبنين وَالْأَخ الْعَادِل سيف الدّين نَصره الله قد كُوتِبَ بالوصول بِمن عِنْده من العساكر وَينزل فِي طَرِيقه على غَزَّة وعسقلان ويجهز مراكب الأسطول المنصورة إِلَى عكا وَمَا يتَأَخَّر النهوض إِلَى الْقُدس فَهَذَا هُوَ أَوَان فَتحه وَلَقَد دَامَ عَلَيْهِ ليل الضلال وَقد آن أَن يسفر فِيهِ الْهدى عَن صبحه
فصل فِي فتح تبنين وصيدا وبيروت وجبيل وَغَيرهَا ومجيء المركيس إِلَى صور
قَالَ الْعِمَاد أرسل السُّلْطَان إِلَى تبنين ابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين فضايقها وَكتب إِلَى السُّلْطَان أَن يَأْتِيهِ بِنَفسِهِ فوصل إِلَيْهَا فِي ثَلَاث مراحل وَنزل عَلَيْهَا يَوْم الْأَحَد حادي عشر جُمَادَى الأولى فراسلوا السُّلْطَان وسألوا الْأمان واستمهلوا خَمْسَة أَيَّام لينزلوا بِأَمْوَالِهِمْ فأمهلوا وبذلوا رهائن من مقدميهم ووفوا بِمَا بذلوا وتقربوا بِإِطْلَاق الْأُسَارَى من الْمُسلمين فَخرج الْأُسَارَى مسرورين فسر بهم السُّلْطَان وسربهم وأقرهم وقربهم وكساهم وحباهم وآتاهم بعد ردهم إِلَى مغانيهم غناهم وَهَذَا دأبه فِي كل بلد يَفْتَحهُ وَملك يربحه أَنه يبْدَأ بالأسارى فيفك قيودها وَيُعِيد بعد عدمهَا وجودهَا فخلص تِلْكَ السّنة من الْأسر أَكثر من عشْرين ألف أَسِير وَوَقع فِي أسره من الْكفَّار مئة ألف وَلما خلوا القلعة وأخلو الْبقْعَة سيرهم وَمَعَهُمْ
من الْعَسْكَر الْمَنْصُور من أوصلهم إِلَى صور وتسلمها يَوْم الْأَحَد الثَّامِن عشر من جُمَادَى الأولى وَكَانَ شَرط عَلَيْهِم تَسْلِيم الْعدَد وَالدَّوَاب والخزائن
وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد فتحهَا السُّلْطَان عنْوَة وَكَانَ بهَا رجال أبطال شديدون فِي دينهم فاحتاجوا إِلَى معاناة شَدِيدَة وَنَصره الله عَلَيْهِم وَأسر من بَقِي بهَا بعد الْقَتْل ثمَّ رَحل مِنْهَا إِلَى مَدِينَة صيدا فَنزل عَلَيْهَا وَمن الْغَد تسلمها وَهُوَ يَوْم الْأَرْبَعَاء الْحَادِي وَالْعشْرُونَ
قَالَ الْعِمَاد سنحت لَهُ صيدا فتصدى لصيدها وَكَانَت همته فِي قيدها وبادرها إشفاقا من مكر العداة وكيدها
ووصلنا فِي يَوْمَيْنِ إِلَى صيدا إِلَى منهل فتحهَا صادين وَعَن حمى الْحق دونهَا لأهل الْبَاطِل صادين وَلما نزلنَا من الوعر إِلَى السهل سهل مَا توعر وَصفا من الْأَمر مَا ظن أَنه تكدر فصرفنا الأعنة إِلَى صرفند وَهِي مَدِينَة لَطِيفَة على السَّاحِل مورودة المناهل ذَات بساتين وأشجار ورياحين وأزهار فأخذناها وخيمنا على صيدا وَقد جَاءَت رسل صَاحبهَا بمفاتيحها وَقد طلعت الرَّايَة الصَّفْرَاء على أسوارها وأقيمت بهَا الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة واستديمت بهَا بدل الْعِصْيَان لله الطَّاعَة
ثمَّ سَار فِي يَوْمه على سمت بيروت فَنزل عَلَيْهَا يَوْم الْخَمِيس وضايقها وحاصرها ثَمَانِيَة أَيَّام ثمَّ طلبُوا الْأمان فَأَمنَهُمْ
وتسلمها يَوْم الْخَمِيس التَّاسِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى
وَمرض الْعِمَاد فأملى كتاب صلح بيروت وَرجع إِلَى دمشق للمداواة ثمَّ وجد الشِّفَاء وَعَاد إِلَى السُّلْطَان يَوْم فتح الْقُدس كَمَا سَيَأْتِي
قَالَ وسلمت بيروت بحضوري فَكَانَ من سَبَب إبلالي سروري بِفَتْحِهَا وحبوري وَخرج مِنْهَا وَمن قلعتها الفرنج وامتلأ بهم إِلَى صور النهج وَعَاد الْإِسْلَام الْغَرِيب فِيهَا إِلَى وَطنه وتوطن الدّين بهَا فِي مأمنه وَسكن فِي مَسْكَنه
وَأما جبيل فَإِن صَاحبهَا أوك كَانَ فِي جملَة من نقل إِلَى دمشق مَعَ الْملك الْأَسير فَضَاقَ ذرعا بسجنه الَّذِي تعجل لَهُ فِيهِ عَذَاب السعير فَتحدث مَعَ الصفي بن الْقَابِض فِي أمره وباح إِلَيْهِ بسره وَقَالَ مالكم فِي اسري فَائِدَة وَلَا غنيمَة على فتح جبيل زَائِدَة وانا أسلمها بِشَرْط سلامتي فخذوها وَلَا تقعدوني فقد قَامَت قيامتي
فأنهى الصفي حَاله واستصوب مَا قَالَه فَأمر بإحضاره فِي قَيده والاحتراز من كَيده فوصل بِهِ وَنحن على بيروت فَسلم جبيل وَسلم وَربح نجاته وغنم وَمضى إِلَيْهَا من تولاها وانسل مِنْهَا صَاحبهَا وسلاها وتبعها فتح بيروت وتلاها فانتظمت هَذِه الْبِلَاد المتناسقة بالسَّاحل فِي سلك من الْفتُوح متسق وَأمر من الاسْتقَامَة مُتَّفق
وَكَانَ مُعظم أهل صيدا وبيروت وجبيل مُسلمين مَسَاكِين لمساكنة الفرنج مستسلمين فذاقوا الْعِزَّة بعد الذلة وفاقوا الْكَثْرَة بعد الْقلَّة وصدقت البشائر وصدحت المنابر وَظهر عيب البيع وَشهر جمع الْجمع وقرئ
الْقُرْآن واستشاط الشَّيْطَان وخرست النواقيس وَبَطلَت النواميس وَرفع الْمُسلمُونَ رؤوسهم وَعرفُوا نُفُوسهم
وَكَانَ كل من استأمن من الْكفَّار يمْضِي إِلَى صور محمي الذمار فَصَارَت صور عش غشهم ووكر مَكْرهمْ وملجأ طريدهم ومنجى شريدهم وَهِي الَّتِي فر القومص إِلَيْهَا يَوْم كسرتهم بل يَوْم حسرتهم وَلما عرف القومص قرب السُّلْطَان مِنْهَا أخلاها وخلاها وآوى إِلَى طرابلس وثواها فَمَا متع بِمَا ملك وَكَانَ كَمَا قيل
(رَاح يَبْغِي نجوة
…
من هَلَاك فَهَلَك)
وتعوضت صور عَن القومص بالمركيس كَمَا يتعوض عَن الشَّيْطَان بإبليس فَأدْرك ذماء الْكفْر بَعْدَمَا أشفى وَأَيْقَظَ روع الروع بَعْدَمَا أغفى وَضبط صور بِمن فِيهَا من مهزومي الفرنج ومنفيها
وَكَانَ المركيس من أكبر طواغيت الْكفْر وأغوى شياطينه وأضرى سراحينه وأخبث ذئابه وانجس كلابه وَهُوَ الطاغية الداهية الَّذِي خلقت لَهُ ولأمثاله الهاوية وَلم يكن وصل إِلَى السَّاحِل قبل هَذَا الْعَام وَاتفقَ وُصُوله إِلَى ميناء عكا وَهُوَ بِفَتْحِهَا جَاهِل وَعَمن فِيهَا من الْمُسلمين ذاهل فعزم على إرساء الشيني بالمينا ثمَّ تعجب وَقَالَ مَا نرى أحدا من أَهلهَا يلتقينا وَرَأى زِيّ النَّاس غير الَّذِي يعرفهُ فارتاب وارتاع وَحدث عَن الدُّخُول توقفه وَبَان تندمه وَتَأَخر تقدمه وَسَأَلَ عَن الْحَال فَأخْبر
بهَا ففكر فِي النجَاة والهواء راكد وَالْقَضَاء عَنهُ رَاقِد فَإِنَّهُ لَو خرج إِلَيْهِ مركب لأَخذه وَلَو وقف لَهُ قَاصد لوقذه فاحتال كَيفَ يخرج بسفينته وَلَا يدْخل مَعَ فقد سكينته فَسَأَلَ عَن مُتَوَلِّي الْبَلَد وَقَالَ خُذُوا لي مِنْهُ أَمَانًا حَتَّى أَدخل وَأَرْفَع مَا معي من الْمَتَاع وأنقل
فجيء إِلَيْهِ من الْأَفْضَل بالأمان فَقَالَ مَا أَثِق إِلَّا بِخَط يَده وَلَا أنزل إِلَّا بعهده إِلَى بَلَده وَهُوَ ينْتَظر هبوب الرّيح الْمُوَافقَة فَمَا زَالَ يردد الرُّسُل وَيُدبر الْحِيَل حَتَّى وافقته الرّيح فأقلع وأفلت من الشّرك بَعْدَمَا وَقع وَصَارَ فِي صور فزم الْأُمُور وجرأ الْكفْر بعد خوره وبصر الشَّيْطَان بعد عماه وعوره وَأرْسل رسله إِلَى الجزائر وَذَوي الجرائر يَسْتَعْدِي ويستدعى ويستودع مِلَّة الصَّلِيب عباده ويسترعي ويستثير ويستزير ويستنفر ويستنصر وَثَبت فِي صور وَنبت وَجمع إِلَيْهِ من الفرنج من تشَتت وَمَا فتح بلد بالأمان إِلَّا سَار أَهله فِي حفظ السُّلْطَان حَتَّى يصيروا بصور ويأمنوا الْمَحْذُور فَاجْتمع إِلَيْهَا أهل الْبِلَاد الْمَفْتُوحَة بالقلوب المقفلة المغلقة المقروحة فامتلأت وَكَانَت خاليه وانتشأت وَكَانَت بالية وتعللت وَكَانَت معتلة وتعقدت وَكَانَت منحلة وَلم يحتفل بهَا فَأخر فتحهَا فاستجدت رمقا بالمهلة وتصعبت بعد مقادتها السهلة وألهى عَن طلبَهَا طلب مَا هُوَ أشرف وَهُوَ الْبَيْت الْمُقَدّس فَإِن فَتحه من كل فتح أنفس والمركيس فِي أثْنَاء ذَلِك يحْفر الخَنْدَق ويحكمه ويعقد الموثق ويبرمه وَيجمع المتفرق وينظمه