الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَسلمهَا إِلَى بدر الدّين دلدرم
وَمن كتاب فاضلي نزلنَا تل خَالِد يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي عشر محرم وَكَانَ قد تقدمنا الْأَجَل تَاج الْمُلُوك إِلَيْهَا وأناخ عَلَيْهَا وقابلها وقاتلها وعالجها وَلَو شَاءَ لعاجلها وَلما أطلت عَلَيْهَا راياتنا ألْقى من فِيهَا بِيَدِهِ وأنجز النَّصْر صَادِق موعده وأرسلتها حلب مُقَدّمَة لفتحها وَقد أنعم الله علينا بنعم لَا نحصيها تعدادا وَلَا نستقصيها اعتدادا وَلَا نستوعبها وَلَو كَانَ النَّهَار طرسا وَالْبَحْر مدادا ورايتنا المنصورة قد صَارَت مغناطيس الْبِلَاد تجذبها بطبعها وسيوفنا قد صَارَت مفاتح الْأَمْصَار تفتحها بنصر الله لَا بحدها وَلَا بقطعها
قلت وَمَا أحسن مَا قَالَ التلعفري من قصيدة لَهُ فِي السُّلْطَان
(قل للملوك تنحوا عَن ممالككم
…
فقد أَتَى آخذ الدُّنْيَا ومعطيها)
فصل فِي فتح حلب
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد لما عَاد السُّلْطَان بَدَأَ بتل خَالِد فَنزل عَلَيْهَا وقاتلها وَأَخذهَا فِي ثَانِي عشر محرم سنة تسع وَسبعين ثمَّ سَار إِلَى حلب
فَنزل عَلَيْهَا فِي سادس عشري الْمحرم وَكَانَ أول نُزُوله بالميدان الْأَخْضَر وسير الْمُقَاتلَة يُقَاتلُون ويباسطون عَسْكَر حلب ببانقوسا وَبَاب الْجنان غدْوَة وَعَشِيَّة
وَفِي يَوْم نُزُوله جرح أَخُوهُ تَاج الْمُلُوك
وَكَانَ عماد الدّين زنكي قبل ذَلِك قد خرج وَخرب قلعة عزاز فِي تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَسبعين وَخرب حصن كفرلاثا وَأَخذهَا من بكمش فَإِنَّهُ كَانَ قد صَار مَعَ السُّلْطَان وَقَاتل تل بَاشر فَلم يقدر عَلَيْهَا وَجَرت غارات من الفرنج على الْبِلَاد بِحكم اخْتِلَاف العساكر
قَالَ وَلما نزل السُّلْطَان على حلب استدعى العساكر من الجوانب فَاجْتمع خلق كثير وقاتلها قتالا شَدِيدا وَتحقّق عماد الدّين زنكي أَنه لَيْسَ لَهُ بِهِ قبل وَكَانَ قد ضرس من اقتراح الْأُمَرَاء عَلَيْهِ وجبههم فَأَشَارَ إِلَى حسام الدّين طمان أَن يسفر لَهُ مَعَ السُّلْطَان فِي إِعَادَة بِلَاده وَتَسْلِيم حلب إِلَيْهِ واستقرت الْقَاعِدَة وَلم يشْعر أحد من الرّعية وَلَا من الْعَسْكَر حَتَّى تمّ الْأَمر ثمَّ أعلمهم وَأذن لَهُم فِي تَدْبِير أنفسهم فأنفذوا عَنهُ وَعَن الرّعية عز الدّين جرديك وزين الدّين بلك فبقوا عِنْده إِلَى اللَّيْل واستحلفوه على الْعَسْكَر وعَلى أهل الْبَلَد وَذَلِكَ فِي سَابِع عشر صفر وَخرجت العساكر إِلَى خدمته إِلَى الميدان الْأَخْضَر ومقدمو حلب وخلع عَلَيْهِم وَطيب قُلُوبهم وَأقَام عماد الدّين بالقلعة يقْضِي أشغاله وينقل أقمشته وخزائنه إِلَى يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشري صفر
وَفِيه توفّي تَاج الْمُلُوك أَخُو السُّلْطَان من الْجرْح الَّذِي كَانَ أَصَابَهُ وشق عَلَيْهِ أَمر مَوته وَجلسَ للعزاء
قلت وَكَانَ أَصْغَر أَوْلَاد أَيُّوب ذكر ابْن القادسي أَن مولده سنة سِتّ وَخمسين فِي ذِي الْحجَّة فَيكون عمره اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة وشيئا وَأنْشد لَهُ شعرًا
وَقَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب فِي كتاب الخريدة إِنَّه لم يبلغ الْعشْرين سنة وَله نظم لطيف وَفهم شرِيف
ثمَّ قَالَ القَاضِي أَبُو المحاسن وَفِي ذَلِك الْيَوْم نزل عماد الدّين إِلَى خدمته وَعَزاهُ وَسَار مَعَه بالميدان الْأَخْضَر وتقررت بَينهمَا قَوَاعِد وأنزله عِنْده بالخيمة وَقدم لَهُ تقدمة سنية وخيلا جميلَة وخلع على جمَاعَة من أَصْحَابه
وَسَار عماد الدّين من يَوْمه إِلَى قرا حِصَار سائرا إِلَى سنجار وَأقَام السُّلْطَان بالمخيم بعد مسير عماد الدّين غير مكترث بِأَمْر حلب وَلَا مستعظم لشأنها إِلَى يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع عشري صفر ثمَّ صعد فِي ذَلِك الْيَوْم قلعة حلب مَسْرُورا منصورا وَعمل لَهُ حسام الدّين طمان دَعْوَة سنية وَكَانَ قد تخلف لأخذ مَا تخلف لعماد الدّين من قماش وَغَيره
وَقَالَ الْعِمَاد وصل السُّلْطَان إِلَى حلب وفيهَا عماد الدّين زنكي بن
مودود الَّذِي كَانَ صَاحب سنجار وَقد تحصن بِكَثْرَة الأجناد وَالْعدَد وَأَرَادَ مُقَابلَة السُّلْطَان ومقاتلته وَأَرَادَ السُّلْطَان أَن يظفر بهَا بِدُونِ ذَلِك من الْقِتَال وعداوة الرِّجَال لَكِن الشَّبَاب وجهال الْأَصْحَاب راموا الْقِتَال وأحبوا النزال وتقدموا وأقدموا وَالسُّلْطَان ينهاهم فَلَا ينتهون وَكَانَ فيهم تَاج الْمُلُوك بوري أَخُو السُّلْطَان فطعن فِي فَخذه ثمَّ مَاتَ بعد ذَلِك بأيام بعد فتح الْبَلَد
وَكَانَ السُّلْطَان ذَلِك الْيَوْم قد صنع وَلِيمَة لعماد الدّين زنكي وَكَانَ السُّلْطَان أول مَا نزل على حلب نزل فِي صدر الميدان الْأَخْضَر وَذَلِكَ فِي زمن الرّبيع الأنضر ثمَّ رَحل وَنزل على جبل جوشن وَنهى عَن الْقِتَال وَقَالَ نَحن هَاهُنَا نستغل الْبِلَاد وَمَا علينا من الْحصن الَّذِي بلغ مِنْهُ هَذَا العناد
وَنفذ رسل التَّرْهِيب إِلَيْهِم ففكر عماد الدّين زنكي فِي أمره وَرَأى أَن الصَّوَاب مصالحة السُّلْطَان فنفذ سرا إِلَيْهِ حسام الدّين طمان وَصَالَحَهُ وحلفه على أَن يسلم إِلَيْهِ حلب وَيرد عَلَيْهِ بَلْدَة سنجار
فَفعل وزاده الخابور ونصيبين والرقة وسروج وَاشْترط عَلَيْهِ إرْسَال الْعَسْكَر فِي الْخدمَة للغزاة
وَمن كتب فاضلية تسلمنا مَدِينَة حلب وقلعتها بسلم وضعت بِهِ الْحَرْب أَوزَارهَا وَبَلغت بهَا الهمم أوطارها وَعوض صَاحبهَا بِمَا لم يخرج عَن الْيَد لِأَنَّهُ مشترط عَلَيْهِ بِهِ الْخدمَة بِنَفسِهِ وَعَسْكَره ومختلط بِالْجُمْلَةِ فَهُوَ أحد الْأَوْلِيَاء فِي مغيبه ومحضره عوض عماد الدّين عَنْهَا من بِلَاد الجزيرة
سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج فَهُوَ صرف بِالْحَقِيقَةِ أَخذنَا فِيهِ الدِّينَار وأعطينا الدَّرَاهِم ونزلنا عَن المبيحات وأحرزنا العواصم وسرنا أَنَّهَا انجلت وَالْكَافِر الْمُحَارب وَالْمُسلم المسالم
واشترطنا على عماد الدّين الْخدمَة والمظاهرة والحضور فِي مَوَاقِف الْغَزْو والمصابرة فانتظم الشمل الَّذِي كَانَ نثيرا وَأصْبح الْمُؤمن بأَخيه كثيرا وَزَالَ الشغب وأخمد اللهب واتصل السَّبَب وَأخذت للغزاة الأهب ووصلت إِلَى غايتها همة الطّلب والألفة وَاقعَة والمصلحة جَامِعَة وأشعة أنوار الِاتِّفَاق شائعة
فتحنا مَدِينَة حلب بسلم مَا كشفت لحرمتها قناعا وتسلمنا قلعتها الَّتِي ضمنت أَن نتسلم بعْدهَا بِمَشِيئَة الله قلاعا وَعوض صَاحبهَا من بِلَاد الجزيرة مَا اشْترط عَلَيْهِ بِهِ الْخدمَة فِي الْجِهَاد بالعدة الموفورة فَهِيَ بيدنا بِالْحَقِيقَةِ لِأَن مرادنا من الْبِلَاد رجالها لَا أموالها وشوكتها لَا زهرتها ومناظرتها لِلْعَدو لَا نضرتها وَأَن تعظم فِي الْعَدو الْكَافِر نكايتها لَا أَن تعذق بالولي الْمُسلم ولايتها
والأوامر بحلب نَافِذَة والرايات بأطراف قلعتها آخذة
وَجَاء أهل الْمَدِينَة يستبشرون وَقد بلغُوا مَا كَانُوا يؤملون وأمنوا مَا كَانُوا يحذرون وَعوض صَاحبهَا بِبِلَاد من الجزيرة على أَن تكون
العساكر مجتمعة على الْأَعْدَاء مرصدة للاستدعاء فالبلاد بِأَيْدِينَا لنا مغنمها ولغيرنا مغرمها وَفِي خدمتنا مَا لَا نسمح بِهِ وَهُوَ عسكرها وَفِي يَده مَا لَا نضن بِهِ وَهُوَ درهمها
شرطنا على عماد الدّين النجدة فِي أَوْقَاتهَا والمظاهرة على العداة عِنْد ملاقاتها فَلم يخرج منا بلد إِلَّا إِلَيْنَا عَاد عسكره وَإِنَّمَا استنبنا فِيهِ من يحمل عَنَّا مُؤْنَته ويدبره وَيكون عساكره إِلَى عساكرنا مُضَافَة ونتمثل قَوْله سبحانه وتعالى {وقاتلوا الْمُشْركين كَافَّة كَمَا يقاتلونكم كَافَّة}
ونشعر الْأَمِير بِمَا من الله بِهِ من فتح مَدِينَة حلب الَّتِي هِيَ مِفْتَاح الْبِلَاد وتسلم قلعتها الَّتِي هِيَ أحد مَا رست بِهِ الأَرْض من الْأَوْتَاد فَللَّه الْحَمد وَأَيْنَ يَقع الْحَمد من هَذِه الْمِنَّة ونسأل الله الْغَايَة الْمَطْلُوبَة بعد هَذِه الْغَايَة وَهِي الْجنَّة
وصدرت هَذِه الْبُشْرَى والموارد قد أفضت إِلَى مصادرها وَالْأَحْكَام فِي مَدِينَة حلب نَافِذَة فِي باديها وحاضرها وقلعتها قد أناف لواؤنا على أنفها وقبضت على عقبه بكفها واعتذرت من لِقَائِه أمس برشفها ورأينا أَن نتشاغل بِمَا بورك لنا فِيهِ من الْجِهَاد وَأَن نوسع المجال فِيمَا يضيق بِهِ تقلب الَّذين كفرُوا فِي الْبِلَاد
قلت وَلأبي الْحسن بن الساعاتي فِي مدح السُّلْطَان عِنْد إِرَادَة فتح حلب قصيدة مِنْهَا
(مَا بعد لقياك للعافين من أمل
…
ملك الْمُلُوك وهذي دولة الدول)
(فانهض إِلَى حلب فِي كل سَابِقَة
…
سُرُوجهَا قلل تغني عَن القلل)
(مَا فتحهَا غير إقليد الممالك والداعي
…
إِلَيْهِ جَمِيع الْخلق والملل)
(وَمَا عَصَتْ مَنْعَة لكنه غضب
…
علام أهملتها إهمال مبتذل)
(غارت وحقك من جاراتها فشكت
…
مَا باله باقتضاضي غير محتفل)
قلت وَهَذَا معنى حسن يُشِير إِلَى أَنَّهَا كَانَت من آخر الْبِلَاد الإسلامية فتحا على يَدَيْهِ فَلهَذَا غضِبت إِذْ كَانَ من حَقّهَا لجلالة قدرهَا أَن تخْطب أَولا
وللقاضي السعيد ابْن سناء الْملك من قصيدة
(بدولة التّرْك عزت مِلَّة الْعَرَب
…
وبابن أَيُّوب ذلت بيعَة الصلب)
(إِن العواصم كَانَت أَي عَاصِمَة
…
معصومة بتعاليها عَن الرتب)
(جليسة النَّجْم فِي أَعلَى مراتبه
…
وطالما غَابَ عَنْهَا وَهِي لم تغب)
(وَمَا نَعته كمعشوق تَمنعهُ
…
أحلى من الشهد أَو أشهى من الضَّرْب)
(فَمر عَنْهَا بِلَا غيظ وَلَا حنق
…
وَسَار عَنْهَا بِلَا حقد وَلَا غضب)
(تطوي الْبِلَاد وأهليها كتائبه
…
طيا كَمَا طوت الْكتاب للكتب)
(أَرض الجزيرة لم تظفر ممالكها
…
بِمَالك فطن أَو سائس درب)
(ممالك لم يدبرها مدبرها
…
إِلَّا بِرَأْي خصي أَو بعقل صبي)
(حَتَّى أَتَاهَا صَلَاح الدّين فانصلحت
…
من الْفساد كَمَا صحت من الوصب)
(وَقد حواها وَأعْطى بَعْضهَا هبة
…
فَهُوَ الَّذِي يهب الدُّنْيَا وَلم يهب)
(ومذ رَأَتْ صده عَن ربعهَا حلب
…
وَوَصله لبلاد حلوة الخلب)
(غارت عَلَيْهِ ومدت كف مفتقر
…
مِنْهَا إِلَيْهِ وأبدت وَجه مكتئب)
(واستعطفته فوافتها عواطفه
…
وأكثب الصُّلْح إِذْ نادته عَن كثب)
(وَحل مِنْهَا بأفق غير منخفض
…
للصاعدين وبرج غير مُنْقَلب)
(فتح الْفتُوح بلامين وَصَاحبه
…
ملك الْمُلُوك ومولاها بِلَا كذب)
وَقَالَ ابْن أبي طي وَكَانَ كثير من الشُّعَرَاء يحرضون السُّلْطَان على فتح حلب مِنْهُم أَبُو الْفضل بن حميد الْحلَبِي لَهُ من قصيدة
(يَا ابْن أَيُّوب لَا بَرحت مدى الدَّهْر
…
رفيع الْمَكَان وَالسُّلْطَان)
(حلب الشَّام نَحْو مرآك ولهى
…
وَله الصب ريع بالهجران)
وَقَالَ ابْن سَعْدَان الْحلَبِي فِي قصيدة
(دُونك والحسناء من أم الْقرى
…
وبازها الْأَشْهب والطود الأشم)
(واركب إِلَى العلياء كل صعبة
…
أَبيت لعنا وخلاك كل ذمّ)
(وارم فَكل الصَّيْد فِي جَوف الفرا
…
لَا صارد السهْم وَلَا نابي الحكم)
(مد إِلَى أُخْت السهاء زورة
…
لَا فرق يعقبها وَلَا نَدم)
(فيا لَهَا شماء مشمخرة
…
تطارح الْبَرْق وساحات الديم)
(ايه صَلَاح الدّين شدّ أزرها
…
واعزم عَلَيْهَا فالزمان قد عزم)
(ودونك المنعة من قبابها
…
وبابها المغلق فِي وَجه الْأُمَم)
قَالَ وَفِي آخر يَوْم السبت ثامن عشر صفر نشر سنجق السُّلْطَان الْأَصْفَر على سور قلعة حلب وَضربت لَهُ البشائر وَفِي ذَلِك الْوَقْت تخفى عماد الدّين وَخرج من القلعة لَيْلًا إِلَى الخيم وَأخذ فِي إِخْرَاج مَا كَانَ لَهُ فِي القلعة من مَال وَسلَاح وأثاث
وَكَانَ استناب الْأَمِير حسام الدّين طمان فِي القلعة حَتَّى توافي رسله بِتَسْلِيم سنجار ونصيبين والخابور إِلَى نوابه وَأعْطى السُّلْطَان طمان الرقة لوساطته فِي أَمر عماد الدّين
وَكَانَ السُّلْطَان
شَرط أَنه مَا يُرِيد من حلب إِلَّا الْحجر فَقَط وَأذن لعماد الدّين فِي أَخذ جَمِيع مَا فِي القلعة وَمَا يُمكنهُ حمله فَلم يتْرك عماد الدّين فِيهَا شَيْئا وَبَاعَ فِي السُّوق كل مَا لم يتَمَكَّن من حمله وَأطلق لَهُ السُّلْطَان بغالا وجمالا وخيلا برسم حمل مَا يحْتَاج إِلَى حمله وَعمل لَهُ يَوْم الْأَحَد تَاسِع عشر صفر دَعْوَة عَظِيمَة فِي الميدان الْأَخْضَر وأحضرها جَمِيع الْأُمَرَاء ومقدمي حلب
قَالَ وبينما السُّلْطَان على لذته بالدعوة وَالْأَخْذ وَالعطَاء والإنعام والحباء إِذْ حضر إِلَيْهِ من عَرَفَة وَفَاة أَخِيه تَاج الْمُلُوك بِسَبَب الضَّرْبَة الَّتِي أَصَابَته على حلب فَلم يتَغَيَّر لذَلِك وَلَا اضْطِرَاب وَلَا انْقَطع عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ من البشاشة والفرح وبذل الْإِحْسَان وَأمر بستر ذَلِك وتوعد عَلَيْهِ إِن ظهر وكظم حزنه وأخفى رزيته وصبر على مصيبته وَلم يزل على طلاقته وبشاشته إِلَى وَقت الْعَصْر وَفِي ذَلِك الْوَقْت انْقَضتْ الدعْوَة وتفرق النَّاس فَحِينَئِذٍ قَامَ رحمه الله واسترجع وَبكى على أَخِيه ثمَّ أَمر بِهِ فَغسل وكفن وَصلى عَلَيْهِ وَأمر بِهِ فَدفن فِي مقَام إِبْرَاهِيم صلى الله عليه وسلم بِظَاهِر حلب ثمَّ حمله بعد ذَلِك إِلَى دمشق وَدَفنه بهَا
قَالَ وَكَانَ تَاج الْمُلُوك شَابًّا حسن الشَّبَاب مليح الأعطاف عذب الْعبارَة حُلْو الفكاهة مليح الرَّمْي بِالْقَوْسِ والطعن بِالرُّمْحِ وَكَانَ شجاعا باسلا مقداما على الْأَهْوَال وَكَانَ قد جمع إِلَى ذَلِك الْكَرم والتفنن فِي الْأَدَب وَله ديوَان شعر حسن متوسط فَمِنْهُ
(يَا هَذِه وأماني النَّفس قربكم
…
يَا ليتها بلغت مِنْكُم أمانيها)
(إِن كَانَت الْعين مذ فارقتكم نظرت
…
إِلَى سواكم فخانتني أماقيها)
قَالَ وَلما انْقَضتْ تَعْزِيَة السُّلْطَان بأَخيه خلع على النَّاس فِي الْيَوْم الرَّابِع وَفرق فِي وُجُوه الحلبيين الْأَمْوَال
وَفِي سادس عشر صفر ورد أَصْحَاب عماد الدّين وأحضروا إِلَيْهِ العلائم بتسلم سنجار ونصيبين والخابور فَفِي ذَلِك الْيَوْم سلم قلعة حلب وَأنزل مِنْهَا الْأَمِير طمان وَأَصْحَابه وَلما سلمهَا إِلَى نواب السُّلْطَان ركب عماد الدّين فِي وُجُوه أَصْحَابه وأمرائه وَخرج إِلَى خدمَة السُّلْطَان ظَاهرا وَركب السُّلْطَان إِلَى لِقَائِه فاجتمعا عِنْد مشْهد الدُّعَاء الَّذِي بِظَاهِر حلب من جِهَة الشمَال فتسالما وَلم يترجل أحد مِنْهُمَا لصَاحبه
ثمَّ جَاءَ بعد عماد الدّين وَلَده قطب الدّين فترجل للسُّلْطَان وترجل السُّلْطَان لَهُ وأعتنقه وعادا فركبا وَسَار هُوَ وَأَبوهُ فِي خدمَة السُّلْطَان إِلَى المخيم بالميدان الْأَخْضَر فأجلس السُّلْطَان عماد الدّين مَعَه على طراحته وَقدم لَهُ تقدمة حَسَنَة عشْرين بقجة صفراء فِيهَا مئة ثوب من العتابي والأطلس وَالْمُعتق والممرش وَغير ذَلِك وَعشرَة جُلُود قندس وَخمْس خلع خَاص برسمه ورسم وَلَده ومئة قبَاء ومئة كمة وحجرتين عربيتين بأداتهما وبغلتين مسروجتين وَعشرَة أكاديش وَخمْس قطر بغال وَثَلَاث قطر جمال عربيات وقطار بخت
وَلما فرغ السُّلْطَان من عرض الْهَدِيَّة قدم الطَّعَام فَلَمَّا أصَاب مِنْهُ عماد الدّين نَهَضَ للرُّكُوب وَخرج السُّلْطَان مَعَه وَركب لوداعه وَسَار مَعَه إِلَى قريب من بأبلى وودعه وَعَاد وَسَار عماد الدّين إِلَى بِلَاده
قَالَ وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع عشر صفر ركب السُّلْطَان وَصعد إِلَى قلعة حلب وَكَانَ صُعُوده إِلَيْهَا من بَاب الْجَبَل وَسمع وَهُوَ صاعد إِلَى قلعة حلب يقْرَأ {قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك تؤتي الْملك من تشَاء} الْآيَة وَقَالَ وَالله مَا سررت بِفَتْح مَدِينَة كسروري بِفَتْح هَذِه الْمَدِينَة والآن قد تبينت أنني أملك الْبِلَاد وَعلمت أَن ملكي قد اسْتَقر وَثَبت
وَقَالَ صعدت يَوْمًا مَعَ نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى إِلَى هَذِه القلعة فَسَمعته يقْرَأ {قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك} الْآيَة
قَالَ وَلما بلغ السُّلْطَان بَاب دَار عماد الدّين قَرَأَ {وأورثكم أَرضهم وديارهم وَأَمْوَالهمْ وأرضا لم تطؤوها} ثمَّ صَار إِلَى الْمقَام فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ سجد فَأطَال السُّجُود ثمَّ خرج وَدَار فِي جَمِيع القلعة ثمَّ عَاد إِلَى المخيم وَأطلق المكوس والضرائب وسامح بأموال عَظِيمَة وَجلسَ للهناء بِفَتْح حلب وأنشده جمَاعَة من الشُّعَرَاء مِنْهُم يُوسُف البزاعي لَهُ من قصيدة
(شرفت بسامي مجدك الشَّهْبَاء
…
وتجللتها بهجة وضياء)
(أَلْقَت إِلَيْك قيادها وَبهَا على
…
كل الْمُلُوك ترفع وإباء)
وَمِنْهُم سعيد بن مُحَمَّد الحريري لَهُ من قصيدة تقدم بَعْضهَا
(وصبحت شهباء العواصم مُصْلِتًا
…
قواضب عزم لَا يفل شهيرها)
(فأمطتك مِنْهَا غازيا فِيك رَاغِبًا
…
وَعَاد يَسِيرا فِي يَديك عسيرها)
(وأوطأت مِنْهَا أخمصيك تنوفة
…
يعز على الشعرى العبور عبورها)
(ورد إِلَيْهَا روح عدلك روحها
…
وَكَانَت رميما لَا يُرْجَى نشورها)
قَالَ وَقَالَ وَالِدي أَبُو طي النجار من قصيدة
(حلب شامة الشآم وَقد زيدت
…
جلالا بِيُوسُف وجمالا)
(هِيَ آس الفخار من نَالَ أَعْلَاهَا
…
تَعَالَى فخامة وتغالا)
(وَمحل الْعَلَاء من حل فِيهَا
…
تاه كبرا وَعزة وجلالا)
(من حواها مملكا ملك الأَرْض
…
اقتسارا سهولة وجبالا)
(فافترعها مهنأ بِمحل
…
سمق الأنجم الوضاء وطالا)
قَالَ وحَدثني جمَاعَة من الحلبيين مِنْهُم الرُّكْن ابْن جهبل الْعدْل
قَالَ كَانَ الْفَقِيه مجد الدّين بن جهبل الشَّافِعِي الْحلَبِي قد وَقع إِلَيْهِ تَفْسِير
الْقُرْآن لأبي الحكم المغربي فَوجدَ فِيهِ عِنْد قَوْله تَعَالَى {الم غلبت الرّوم} الْآيَة أَن أَبَا الحكم قَالَ إِن الرّوم يغلبُونَ فِي رَجَب سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة وَيفتح الْبَيْت الْمُقَدّس وَيصير دَارا لِلْإِسْلَامِ إِلَى آخر الْأَبَد
وَاسْتدلَّ على ذَلِك بأَشْيَاء ذكرهَا فِي كِتَابه
فَلَمَّا فتح السُّلْطَان حلب كتب إِلَيْهِ الْمجد بن جهبل ورقة تبشره بِفَتْح الْبَيْت الْمُقَدّس على يَدَيْهِ ويعين فِيهِ الزَّمَان الَّذِي يَفْتَحهُ فِيهِ وَأعْطى الورقة للفقيه عِيسَى فَلَمَّا وقف الْفَقِيه عِيسَى عَلَيْهَا لم يتجاسر على عرضهَا على السُّلْطَان وَحدث بِمَا فِي الورقة لمحيي الدّين بن زكي الدّين القَاضِي الدِّمَشْقِي وَكَانَ ابْن زكي الدّين واثقا بعقل ابْن جهبل وَأَنه لَا يقدم على هَذَا القَوْل حَتَّى يحققه ويثق بِهِ فَعمل قصيدة مدح السُّلْطَان بهَا حِين فتح حلب فِي صفر وَقَالَ فِيهَا
(وفتحكم حَلبًا بِالسَّيْفِ فِي صفر
…
قضى لكم بافتتاح الْقُدس فِي رَجَب)
وَلما سمع السُّلْطَان ذَلِك تعجب من مقَالَته ثمَّ حِين فتح السُّلْطَان الْبَيْت الْمُقَدّس خرج إِلَيْهِ الْمجد بن جهبل مهنئا لَهُ بفتحه وحدثه حَدِيث الورقة فتعجب السُّلْطَان من قَوْله وَقَالَ قد سبق إِلَى ذَلِك محيي الدّين بن زكي الدّين غير أَنِّي أجعَل لَك حظا لَا يزاحمك فِيهِ أحد
ثمَّ جمع لَهُ من فِي الْعَسْكَر من الْفُقَهَاء وَأهل الدّين ثمَّ أدخلهُ إِلَى الْقُدس والفرنج بعد مَا خَرجُوا مِنْهُ وَأمره أَن يذكر درسا من الْفِقْه على الصَّخْرَة
فَدخل وَذكر درسا هُنَاكَ وحظي بِمَا لم يحظ بِهِ غَيره
قلت وَسَيَأْتِي فِي فتح بَيت الْمُقَدّس فِي فصل الْمِنْبَر ذكر مَا قَالَه أَبُو الحكم فِي تَفْسِيره وَغَيره مِمَّا يُنَاسِبه وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
وَقَالَ الْعِمَاد تمّ فتح حلب فِي صفر من هَذِه السّنة ومدح القَاضِي محيي الدّين بن الزكي السُّلْطَان بِأَبْيَات مِنْهَا
(وفتحكم حَلبًا بِالسَّيْفِ فِي صفر
…
مُبشر بفتوح الْقُدس فِي رَجَب)
فَوَافَقَ فتح الْقُدس كَمَا ذكره فَكَأَنَّهُ من الْغَيْب ابتكره
قَالَ وَيُشبه هَذَا أنني فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين طلبت من السُّلْطَان جَارِيَة من سبي الأسطول الْمَنْصُور فِي الأبيات وَهِي
(يؤمل الْمَمْلُوك مَمْلُوكَة
…
تبدل الوحشة بالأنس)
(تخرجه من ليل وسواسه
…
بطلعة تشرق كَالشَّمْسِ)
(فوحدة الْعزبَة قد حركت
…
سواكن البلبال والمس)