الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القلعة ورتبها وَأمر بعمارتها وولاها الْأَمِير سعد الدّين مَسْعُود بن أنر وَكَانَ السُّلْطَان يعْتَمد عَلَيْهِ وَأُخْته ابْنة معِين الدّين كَانَت فِي حبالة السُّلْطَان وَكَانَ رُؤَسَاء سنجار بني يَعْقُوب فَتركت الرياسة فيهم وَولى الْقَضَاء مِنْهُم نظام الدّين نصر بن المظفر بن مُحَمَّد بن يَعْقُوب
ثمَّ رَحل السُّلْطَان إِلَى نَصِيبين فَأَقَامَ بهَا لِأَن الْأَيَّام كَانَت بَارِدَة وَمِنْهَا ودع رسل دَار الْخلَافَة وشكا أهل نَصِيبين من أميرها أبي الهيجاء السمين فاستصحبه السُّلْطَان مَعَه وَسَار إِلَى دَارا وأميرها صمصام الدّين بهْرَام الأرتقي فَتلقى السُّلْطَان بِأَحْسَن ملقى فَأكْرمه وَسَار إِلَى حران وَأقَام بهَا للاستراحة وَعَاد كل إِلَى بَلَده وَسَار تَقِيّ الدّين إِلَى حماة
هَذَا والمواصلة فِي جد من جمع الجموع وبغاء الغوائل للسُّلْطَان
فصل فِي وَفَاة فرخشاه بن شاهنشاه بن أَيُّوب
قَالَ الْعِمَاد وَفِي هَذِه السّنة فِي جُمَادَى الأولى توفّي بِدِمَشْق الْملك الْمَنْصُور عز الدّين فرخشاه وَوصل خَبره إِلَى السُّلْطَان عِنْد عبوره
الْفُرَات فَأقر السُّلْطَان وَلَده الْملك الأمجد بهرامشاه على بعلبك وأعمالها مَكَان أَبِيه وَنفذ شمس الدّين بن الْمُقدم واليا مَكَانَهُ على دمشق وأعمالها
قَالَ ابْن أبي طي كَانَ فرخشاه من أكْرم النَّاس يدا وأطهرهم أَخْلَاقًا وأسدهم رَأيا وأشجعهم قلبا وَمِمَّا يحْكى من كرمه أَنه دخل الْحمام يَوْمًا فَرَأى رجلا قد قعد بِهِ الزَّمَان وَكَانَ يعرفهُ من أهل الْيَسَار وَشَاهد عَلَيْهِ ثيابًا رثَّة يبين مِنْهَا بعض جسده فاستدعى بِجَمِيعِ مَا يحْتَاج الرجل إِلَى لبسه
وببغلة مسرجة وبألف دِينَار وَقَالَ لبَعض غلمانه اجْعَل هَذَا كُله فِي مَوضِع ثِيَاب الرجل وَخذ ثِيَابه وَاجعَل هَذَا الْغُلَام وَالْبَغْلَة لَهُ
فَفعل
فَلَمَّا تغسل الرجل وَخرج رأى مَوضِع ثِيَابه تِلْكَ الثِّيَاب فَسَأَلَ الحمامي عَن ثِيَابه فَقَالَ انبدلت بِهَذِهِ الثِّيَاب
فَتقدم إِلَيْهِ الْغُلَام وَأخْبرهُ بِجَمِيعِ مَا صنعه عز الدّين وَأخْبرهُ بِأَنَّهُ قد أجْرى عَلَيْهِ معيشة عشْرين دِينَارا فِي كل شهر فَلبس الثِّيَاب وَخرج من الْحمام وَهُوَ من أغْنى النَّاس
قَالَ وَكَانَ فرخشاه ممدحا مدحه ابْن سَعْدَان بعدة قصائد من جُمْلَتهَا الَّتِي يَقُول فِيهَا
(تخذ السابري لبدا وعود الزَّمَان
…
نابا والهندواني ظفرا)
(أعجمي الْأَنْسَاب قصرت الْأَعْرَاب
…
عَنهُ سجعا ونظما ونثرا)
(هزمت كتبه الْكَتَائِب جفلا
…
وأعادت دجى الْحَوَادِث فجرا)
(فَهُوَ كالمازني علما وكالأحنف
…
حلما وكالفرزدق شعرًا)
قَالَ وَكَانَ فرخشاه مُضَافا إِلَى شجاعته عَالما متفننا كثير الْأَدَب مطبوع النّظم والنثر فَمن شعره قَوْله
(أَنا فِي أسر السقام
…
من هوى هَذَا الْغُلَام)
(رشأ ترشق عَيناهُ
…
فُؤَادِي بسهام)
(كلما أرشفني فَاه
…
على حر الأوام)
(ذقت مِنْهُ الثَّلج فِي الشهد
…
الْمُصَفّى فِي المدام)
قلت ونبغ ابْنه الأمجد أَيْضا شَاعِرًا وَكَانَ السُّلْطَان كثير الِاعْتِمَاد على فرخشاه
وَفِي بعض الْكتب الْفَاضِلِيَّةِ عَن السُّلْطَان إِلَيْهِ وصل كِتَابه يتَضَمَّن خُرُوج الفرنج وَمَا دبره من الْأَحْوَال وأعده من مكايد الْقِتَال ولسنا نستبعد أَن يدني الله بِهِ كل بعيد من المُرَاد وَأَن يُقَابل بتدبيره تقلب الَّذين كفرُوا فِي الْبِلَاد وَأَن يجْرِي على يَده أول النَّحْل الَّذِي توعد بِهِ آخر صَاد وَأَن يصب بِهِ على الْمُشْركين سَوط عَذَاب إِن رَبك لبالمرصاد
وَقَالَ الْعِمَاد وَكَانَ عز الدّين فرخشاه من أهل الْفضل ويفضل على أَهله ويغني الْكِرَام عَن الابتذال بكرم بذله
وَمن أخص خواصه وَذَوي اصطفائه واستخلاصه الصَّدْر الْكَبِير الْعَالم تَاج الدّين أَبُو الْيمن الْكِنْدِيّ أوحد عصره ونسيج وَحده وقريع دهره وعلامة زَمَانه وَحسان إحسانه ووزير دسته ومشير وقته وجليس أنسه ورفيق درسه وشعاع شمسه وحبِيب نَفسه ولي فِي هَذَا الْملك قصائد مِنْهَا قصيدة هائية موسومة مدحته بهَا فِي أول سنة صَحِبت فِيهَا السُّلْطَان إِلَى مصر وَهِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وعارضها تَاج الدّين أَبُو الْيمن بِكَلِمَة بديعة فِي وَزنهَا ورويها وَحسن زيها فَأَما كلمتي فَهِيَ
(بَين أَمر حلاوة الْعَيْش الشهي
…
وَهوى أحَال غضارة الزَّمن الْبَهِي)
(وصبابة لَا أستقل بشرحها
…
عَن حصرها حصر البليغ المدره)
(أأحبتي إِن غبت عَنْكُم فالهوى
…
دَان لقلب بالغرام موله)
(أنهِي إِلَيْكُم أَن صبري منتئ
…
بل منته والشوق لَيْسَ بمنته)
(أما عُقُود مدامعي فَلَقَد وهت
…
وأبت عُقُود الود مني أَن تهي)
(وَلَقَد دهيت ببينكم فاشتقتكم
…
يَا من لمشتاق ببينكم دهي)
(فِي شوقكم أَبَد الزَّمَان تفكري
…
وبذكركم عِنْد الْكِرَام تفكهي)
(لَو قيل لي مَا تشْتَهي من هَذِه الدُّنْيَا
…
لَقلت سواكم لَا اشتهي)
(مَا كَانَ أرفه عيشتي وألذها
…
من ذَا الَّذِي يبْقى بعيش أرفه)
(وَمن السفاهة أنني فارقتكم
…
من أَيْن ذُو الْحلم الَّذِي لم يسفه)
وَمِنْهَا
(وعقاب أَيْلَة لَا يُفَارق جلقا
…
أحد إِلَيْهَا غير غر أبله)
(مَالِي ومصر وللمطامع إِنَّمَا
…
ملكت قيادي حَيْثُ لم أتنزه)
(لَا تنهني يَا عاذلي فَأَنا الَّذِي
…
تبع الْهوى وأتى بِمَا عَنهُ نهي)
(قد قلت للحادي وَقد ناديته
…
فِي مهمه أقصر وصلت مَه مَه)
(حتام جذبك للزمام فأرخه
…
فَلَقَد أنخت إِلَى ذرى فرخشه)
(متكرم بالطبع لَا متكره
…
شتان بَين تكرم وَتكره)
(إِحْسَان ذِي مجد وهمة محسن
…
مجد وتقوى عَابِد متأله)
وَهِي ثَلَاثَة وَثَمَانُونَ بَيْتا وَالْقَصِيدَة التاجية تِسْعَة وَأَرْبَعُونَ بَيْتا أَولهَا
(هَل أَنْت رَاحِم عِبْرَة وتوله
…
ومجير صب عِنْد مأمنه دهي)
(هَيْهَات يرحم قَاتل مقتوله
…
وسنانه فِي الْقلب غير منهنه)
(من بل من دَاء الغرام فإنني
…
مذ حل بِي مرض الْهوى لم أنقه)
(إِنِّي بليت بحب أغيد سَاحر
…
بلحاظه رخص البنان برهره)
(أبغي شِفَاء تدلهي من دله
…
وَمَتى يرق مدلل لمدله)
(يَا مُفردا بالْحسنِ إِنَّك منته
…
فِيهِ كَمَا أَنا فِي الصبابة منتهي)
(قد لَام فِيك معاشر أفأنتهي
…
باللوم عَن حب الْحَيَاة وَأَنت هِيَ)
(أبْكِي لَدَيْهِ فَإِن أحس بلوعة
…
وتشهق أوما بِطرف مقهقه)
(أَنا من محاسنه وحالي عِنْده
…
حيران بَين تفكه وتفكه)
(ضدان قد جمعا بِلَفْظ وَاحِد
…
لي فِي هَوَاهُ بمعنيين موجه)
قلت يُقَال تفكهت بالشَّيْء أَي تمتعت بِهِ وتفكهت أَي تعجبت وَيُقَال تندمت وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {فظلتم تفكهون} فَهُوَ فِي تفكه أَي تمتّع بالمحاسن وَفِي تعجب من حَاله وتندم عَلَيْهَا
ثمَّ قَالَ
(أَنا عبد من شهد الزَّمَان بعجزه
…
عَن أَن يَجِيء لَهُ بند مشبه)
(عبد لعز الدّين ذِي الشّرف الَّذِي
…
ذل الْمُلُوك لعزه فرخشه)
(طابت موارده فغص فناؤه
…
وشدا الحداة بِذكرِهِ فِي المهمه)
(يفديك كل مملك متتايه
…
أبدا بألسنة الرعاع ممده)
(لَا يفقه النَّجْوَى إِذا حدثته
…
وَإِذا بدا بحَديثه لم يفقه)
قلت وَذكر الْعِمَاد فِي ديوانه أبياتا حَسَنَة فِي مدح الشَّيْخ تَاج الدّين أبي الْيمن رحمهمَا الله
(تَذَاكر من وراد مصر عِصَابَة
…
حَدِيث فَتى طَابَ الندي بِذكرِهِ)
(وَقَالُوا رَأينَا فَاضلا ذَا نباهة
…
أديبا يفوق الفاضلين بفخره)
(يدين حبيب والوليد لنظمه
…
وَيَحْمَدهُ عبد الحميد لنثره)
(وَلَو عَاشَ قس فِي زمَان بَيَانه
…
لَكَانَ مشيدا فِي الْبَيَان بشكره)
(فضائله كَالشَّمْسِ نورا وَلم تزل
…
مناقبه فِي الدَّهْر أعداد زهره)
(بَيَان هُوَ السحر الْحَلَال وإننا
…
نرى معجزا من فَضله حل سحره)
(ذَوُو الْفضل هم عِنْد الْحَقِيقَة أبحر
…
وَلَكنهُمْ أضحوا جداول بحره)