الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَانْقَطع بهَا وَسَار السُّلْطَان إِلَى حمص ثمَّ إِلَى حماة فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن شفي الْعِمَاد ولحقه بهَا
وَكَانَ الْأَجَل الْفَاضِل بِدِمَشْق فَأرْسل الْحَكِيم الْمُوفق بن المطران واسْمه أسعد بن إلْيَاس إِلَى الْعِمَاد ببعلبك لما سمع بمرضه فَسَار من دمشق إِلَى بعلبك فِي يَوْم وَلَيْلَة وَعمل مَعَه عمل من طب لمن حب فبرئ بعون الله تَعَالَى فَرجع إِلَى دمشق فَلَمَّا استقام مزاجه رَحل إِلَى السُّلْطَان فوافقه بحماة
وَدخلت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة
قَالَ الْعِمَاد وَالسُّلْطَان مخيم بِظَاهِر حماة فَسَار إِلَى حلب وتلقاه أَخُوهُ الْعَادِل وَاجْتمعت لَهُ بهَا العساكر فَخرج مِنْهَا فِي صفر لقصد الْموصل فَسَار وَقطع الْفُرَات وَأقَام الْعَسْكَر ثَلَاثَة أَيَّام للعبور بهَا وَكَانَ السُّلْطَان قد سير إِلَى معاقل الْفُرَات وقلاعه ونواحيه وضياعه وَأمر أَهلهَا بعمارة كل سفينة فِي الْفُرَات وزورق ومركب وَجَمعهَا من كل مشرق ومغرب
ثمَّ وصل إِلَى حران وفيهَا مظفر الدّين بن زين الدّين وَهُوَ أَخُو زين الدّين يُوسُف صَاحب إربل وَقد كَانَ أول من دخل فِي خدمَة السُّلْطَان أول مَا قصد تِلْكَ الْبِلَاد فِي الْمرة الأولى واقتدى بِهِ أَخُوهُ وَغَيره من أَصْحَاب الْأَطْرَاف فِي الانتماء إِلَى السُّلْطَان وَحضر مَعَه حِصَار عدَّة بِلَاد كالموصل وسنجار وآمد وحلب وَأظْهر من الْمَوَدَّة فَوق مَا كَانَ فِي
الْحساب وَهُوَ كَانَ كثير الْحَث للسُّلْطَان على الْمسير إِلَى الْموصل هَذِه الْمرة بِرَسُولِهِ وَكتابه وَقَالَ رَسُوله للسُّلْطَان إِن مظفر الدّين إِذا عبرتم الْفُرَات يسْتَدرك كل مَا فَاتَ وَيقوم بِكُل مَا تحْتَاج إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْبِلَاد من النَّفَقَات والغرامات والأزواد وَيقدم يَوْم الْوُصُول إِلَى حران خمسين ألف دِينَار وَكتب خطه بذلك
فَلَمَّا وصل السُّلْطَان إِلَى حران لم ير مِنْهُ مَا الْتَزمهُ الرَّسُول فارتاب بِهِ وَظن أَنه مَال مَعَ المواصلة ووشت الْأَعْدَاء فِيهِ بذلك وَأَن نِيَّته قد تَغَيَّرت فَحلف للسُّلْطَان أَنه لم يتَغَيَّر وَأَن مَا الْتَزمهُ الرَّسُول لم يكن بأَمْره وَهُوَ ابْن ماهان فانعزل عِنْده عَن مرتبته وَهَان فَقبض السُّلْطَان على مظفر الدّين ليتبين أمره وشاور فِيهِ أَصْحَابه فَأَشَارَ بَعضهم بإتلافه وَبَعْضهمْ باستبقائه واستئلافه فَعَفَا السُّلْطَان عَنهُ على أَن يسلم قلعتي الرها وحران فَفعل ذَلِك وَهُوَ مسرور بِبَقَاء نَفسه ثمَّ أُعِيدَت إِلَيْهِ القلعتان فِي آخر السّنة لما رأى السُّلْطَان من حركاته المستحسنة
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَسَار السُّلْطَان حَتَّى أَتَى حران على طَرِيق البيرة والتقاه مظفر الدّين بالبيرة فِي ثَانِي عشر الْمحرم وَكَانَ قد وصل إِلَيْهِ عز الدّين بن عبد السَّلَام يَعْنِي الْموصِلِي رَسُولا واسْمه إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن عبد السَّلَام ويكنى بِأبي الْخَلِيل فَلَقِيَهُ بحماة يعْتَذر مِمَّا جرى فَأعْطَاهُ دستورا بعد أَن أكْرمه وَسَار من غير غَرَض
قلت وَصَحب ابْن عبد السَّلَام فِي هَذِه السفرة من الْموصل عمر بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الشّحْنَة فمدح السُّلْطَان بقصيدة أَولهَا
(سَلام مشوق قد براه التشوق
…
على الْحَيّ من وَادي الغضا إِذْ تفَرقُوا)
فَلَمَّا بلغ من مديحها إِلَى قَوْله
(وَقَالَت لي الآمال إِن كنت لاحقا
…
بأبناء أَيُّوب فَأَنت الْمُوفق)
قَالَ لَهُ السُّلْطَان لقد وفقت
وَأَجَازَهُ جَائِزَة سنية
ثمَّ قَالَ القَاضِي وَتقدم السُّلْطَان إِلَى سيف الدّين المشطوب أَن يسير فِي مُقَدّمَة الْعَسْكَر إِلَى رَأس عين وَوصل السُّلْطَان حران فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من صفر
وَفِي السَّادِس وَالْعِشْرين مِنْهُ قبض على مظفر الدّين لشَيْء كَانَ جرى مِنْهُ وَحَدِيث بلغه عَنهُ رَسُوله وَلم يقف عَلَيْهِ وَأنْكرهُ وَأخذ مِنْهُ حران والرها ثمَّ أَقَامَ فِي الاعتقال تأديبا إِلَى مستهل ربيع الأول ثمَّ خلع عَلَيْهِ وَطيب قلبه وَأعَاد عَلَيْهِ قلعة حران وبلاده الَّتِي كَانَت بِيَدِهِ وَأَعَادَهُ إِلَى قانونه فِي الاحترام وَالْإِكْرَام وَلم يتَخَلَّف لَهُ سوى قلعة الرها ووعده السُّلْطَان بهَا
ثمَّ رَحل السُّلْطَان ثَانِي ربيع الأول من حران إِلَى رَأس عين وَوَصله فِي ذَلِك الْيَوْم رَسُول قليج أرسلان يُخبرهُ أَن مُلُوك الشرق بأسرهم قد اتّفقت كلمتهم على قصد السُّلْطَان إِن لم يعد عَن الْموصل وماردين وَأَنَّهُمْ على عزم ضرب المصاف مَعَه إِن أصر على ذَلِك فَرَحل السُّلْطَان يطْلب دنيسر فوصله ثامن ربيع الأول عماد الدّين بن قرا أرسلان وَمَعَهُ عَسْكَر نور الدّين فالتقاهم السُّلْطَان واحترمهم ثمَّ رَحل من دنيسر نَحْو الْموصل حَتَّى نزل بِموضع يعرف بالإسماعيليات قريب الْموصل بِحَيْثُ يصل من الْعَسْكَر كل يَوْم نوبَة جَرِيدَة تحاصر الْموصل فَبلغ عماد الدّين بن قرا أرسلان موت أَخِيه نور الدّين فَطلب من السُّلْطَان دستورا طَمَعا فِي ملك أَخِيه فَأعْطَاهُ دستورا
وَقَالَ الْعِمَاد خرج السُّلْطَان من حران فِي ربيع الأول فَمر على رَأس عين ودارا فَخرج أميرها بِأَصْحَابِهِ فِي الْخدمَة وَقدم عماد الدّين أَبُو بكر بن قرا أرسلان بعساكر ديار بكر وآمد نِيَابَة عَن أَخِيه نور الدّين فَإِنَّهُ كَانَ مَرِيضا ثمَّ رَحل إِلَى نَصِيبين وَقدم صَاحب الجزيرة سنجر شاه بن أخي صَاحب الْموصل فَأكْرمه السُّلْطَان ثمَّ سَار من أقرب الطّرق من دجلة وتنكب طَرِيق الدولعية فَنزل على بلد آخر ربيع الأول ثمَّ توجه إِلَى الْموصل وخيم على الإسماعيليات
وَقدم على السُّلْطَان زين الدّين صَاحب إربل وَأول مَا بَدَأَ بِهِ السُّلْطَان يَوْم نُزُوله على بلد قبل الإسماعيليات إرْسَال ضِيَاء الدّين أبي الْفَضَائِل الْقَاسِم بن يحيى بن عبد الله بن الشهرزوري إِلَى الْخَلِيفَة بِمَا عزم عَلَيْهِ من حصر الْموصل فَإِن
أَهلهَا يواصلون الْأَعَاجِم وخاطبون لسلطانهم الْقَائِم وناقشو اسْمه فِي الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم وَأَنَّهُمْ يتعززون بالبهلوان ويعجزون إِلَّا عَن الطَّاعَة لَهُ والإذعان وَأَنَّهُمْ يرسلون إِلَى الفرنج ويقوون نُفُوسهم على قصد الثغور وتفريق الْجُمْهُور وَأَنه مَا جَاءَ طَمَعا فِي استضافة ملك وَلَا استزادة سلك وَلَا قلع بَيت قديم وَلَا قطع أصل كريم وَإِنَّمَا مَقْصُوده الْأَصْلِيّ ومطلوبه الْكُلِّي ردهم إِلَى طَاعَة الإِمَام ونصرة الْإِسْلَام وكشف مَا اعتادوه واعتوروه من الظُّلم والظلام وفطمهم عَن استحلال الْحَرَام وقطعهم عَن مُوَاصلَة الأعجام وإلزامهم بِمَا يجب عَلَيْهِم من حفظ الْجَار وصلَة الْأَرْحَام فَهَذَا صَاحب الجزيرة وَهُوَ ابْن أخي صَاحب الْموصل ولي عهد أَبِيه لم يرع فِيهِ ذمَّة أَخِيه وأبعده عَمَّا اسْتَحَقَّه بِالْإِرْثِ وَالتَّوْلِيَة وَحرمه مَا يستوجبه من التربية والتلبية وأخاف حرمه وَقطع رَحمَه وَلَو تمكن مِنْهُ لأطاح دَمه وَلَوْلَا خَوفه من جَانِبه وتوقيه من دَبِيب عقاربه لما التجأ إِلَى هَذَا الْجَانِب وَلما اخْتَار الْأَجَانِب على الْأَقَارِب
وَهَذَا صَاحب إربل جَار الْموصل أَبوهُ زين الدّين عَليّ هُوَ الَّذِي حفظ بَيتهمْ وَخلف فِي إحيائهم ميتهم وَهَذَا وَلَده فِي جوارهم يشكو جَوْرهمْ وَحَدِيث صَاحب الحديثة فِي حَادِثَة لَا تخفى وَعين من بتكريت من مخافتهم وآفتهم لَا تكرى
قلت وَفِي بعض الْكتب الْفَاضِلِيَّةِ عَن السُّلْطَان إِلَى الدِّيوَان وَكَانَ قد تحيز إِلَى الْخَادِم فِي وَقت حركته صَاحب تكريت والحديثة وَهُوَ يسْتَأْذن فِي استتباعهما بِحكم التَّقْلِيد الَّذِي تنَاول هَذَا وَغَيره وَلم يسْتَأْذن فِي ذَلِك استئذانا مُخَصّصا إِلَّا لمحلهم من جوَار دَار الْخلَافَة وَلِأَنَّهُمَا مِمَّا يرى الْخَادِم إِضَافَته إِلَى مَا يجْرِي فِي خَاص الدِّيوَان الْعَزِيز مَعَ غَيرهمَا مِمَّا يجْرِي
مجراهما فِي الْقرب من الْجوَار وَالدُّخُول فِي ذمام شرف تِلْكَ الدَّار فَإِن أذن لَهُ استثناهما فِي صلح إِن تمّ مَعَهم أَو حماهما مَعَ مباينته إِن اخْتَار الْمشَار إِلَيْهِم الْبَقَاء عَلَيْهَا وَهَذَا برد شرف قد أعوزه علمه وتاج إِذا أسلمه الْخط الشريف نظم الفخار منتظمه
وَمن كتاب آخر وَمَا كُنَّا بِشَهَادَة الله فِي قتال الْمَذْكُورين إِلَّا كقاطع كَفه ليسلم سَائِر جِسْمه وكراكب حد السنان مُضْطَرّا فِي حكمه
وأصحب الْعِمَاد الرَّسُول قصيدة مدح بهَا الصاحب مجد الدّين أَبَا الْفَضَائِل أَولهَا
(قضى الوجد لي أَن لَا أفِيق من الوجد
…
فيا ضلة اللاحي إِذا ظن أَن يهدي)
(محبكم جلد على كل حَادث
…
وَلَكِن على هجرانكم لَيْسَ بِالْجلدِ)
(بِبَغْدَاد حطوا رحلكم ليخصكم
…
أَبُو الْفضل مجد الدّين بِالْفَضْلِ وَالْمجد)
(رَآهُ الإِمَام النَّاصِر الدّين ناصرا
…
فحاول تعويلا على مجده المجدي)
وَمِنْهَا
(إِلَيْك صَلَاح الدّين ألجأ أمره
…
فحط رُكْنه وَالْعقد بالشد والشد)
(مليك على حَرْب الْعَدو مصمم
…
وَمَا زَالَ فِيهِ غَالب الْجد والجند)
(تساور أَفْوَاه الْجراح رماحه
…
مساورة الأميال للأعين الرمد)
(يحل المنايا الْحمر بالْكفْر مجريا
…
دم الْأَصْفَر الرُّومِي بالأبيض الْهِنْدِيّ)
(وَمَا لأمير الْمُؤمنِينَ كيوسف
…
فَتى فِي مراضيه بمهجته يفْدي)
قَالَ وَشرع السُّلْطَان فِي إقطاع الْبِلَاد والتوقيع بهَا على الأجناد وسير الْأَمِير سيف الدّين عَليّ بن أَحْمد الْمَعْرُوف بالمشطوب الهكاري وَمَعَهُ الْأُمَرَاء من قبيلته والأكراد من شيعته إِلَى بلد الهكارية وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء الحميدية إِلَى الْعقر وأعمالها لاستفتاح قلاعها واستغلال ضياعها
وَنصب الجسر وَملك الْأَمر وَعبر مظفر الدّين صَاحب حران وَغَيره من الْأُمَرَاء وخيموا بالجانب الغربي وَكَانَ الْحر إِذْ ذَاك شَدِيدا فَأمر السُّلْطَان بِالصبرِ عَن الْقِتَال إِلَى أَن يطيب الزَّمَان
وَأهل الْموصل فِي الْحصار وأشير عَلَيْهِ بتحويل دجلة وَكَانَ مَاؤُهَا قد قل بطرِيق ذكره خَبِير بهَا زعم أَنه يُمكن سد دجلة وسكرها وبثق فرضة أُخْرَى وَكسرهَا ونقلها وَتَحْوِيلهَا إِلَى دجلة نِينَوَى وتعطش الْموصل إِذا المَاء عَنْهَا انزوى وَعرض ذَلِك على رَأْي الْفَقِيه الْعَالم فَخر الدّين أبي شُجَاع ابْن الدهان الْبَغْدَادِيّ وَكَانَ مهندس زَمَانه وإنسان عين الْفضل وَعين إنسانه وَكَانَ مُنْذُ عهد قديم سكن الْموصل فِي ظلّ كَبِير من أَصْحَاب زين الدّين عَليّ وَلما سمع بكرم السُّلْطَان تفيأ بظله وتعرف إِلَى فَضله فَصدق المشير بذلك وَقَالَ هَذَا مُمكن وَلَا يتَعَذَّر ويتيسر وَلَا يتعسر
وَمن كتاب عمادي إِلَى بَغْدَاد وَذكر المهندسون أهل الْخِبْرَة أَنه يسهل تَحْويل دجلة الْموصل عَنْهَا بِحَيْثُ يبعد مستقى المَاء مِنْهَا وَحِينَئِذٍ يضْطَر أَهلهَا إِلَى تَسْلِيمهَا بِغَيْر قتال وَلَا حُصُول ضَرَر فِي تضييق وَلَا نزال