المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمس مئة - الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية - جـ ٣

[أبو شامة المقدسي]

فهرس الكتاب

- ‌ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسبعين وَخمْس مئة

- ‌ فصل

- ‌فصل كَالَّذي قبله فِي حوادث مُتَفَرِّقَة

- ‌فصل فِي عمَارَة حصن بَيت الأحزان ووقعة الهنفري

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِيمَا فعل مَعَ الفرنج فِي بَاقِي هَذِه السّنة وَأول الْأُخْرَى ووقعة مرج عُيُون

- ‌ثمَّ دخلت سنة خمس وَسبعين وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي تخريب حصن بَيت الأحزان وَذَلِكَ فِي شهر ربيع الأول

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة

- ‌ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسبعين وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي وَفَاة صَاحب الْموصل

- ‌فصل فِي وَفَاة شمس الدولة بن أَيُّوب أخي السُّلْطَان الْأَكْبَر وقدوم رسل الدِّيوَان بالتفويض إِلَى السُّلْطَان مَا طلبه

- ‌فصل فِي رُجُوع السُّلْطَان إِلَى مصر مرّة ثَانِيَة

- ‌ثمَّ دخلت سنة سبع وَسبعين وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي ذكر وَفَاة الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل بن نور الدّين رحمهمَا الله وَمَا تمّ فِي بِلَاده بعده وَذَلِكَ بحلب

- ‌فصل

- ‌فصل فِي أُمُور تتَعَلَّق بولاة الْيمن فِي هَذِه السّنة

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة

- ‌فصل فِي عود السُّلْطَان من الديار المصرية إِلَى الشَّام

- ‌ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسبعين وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي مسير السُّلْطَان إِلَى بِلَاد الْمشرق مرّة ثَانِيَة

- ‌فصل

- ‌فصل فِي وَفَاة فرخشاه بن شاهنشاه بن أَيُّوب

- ‌فصل فِي أَخذ السالكين الْبَحْر لقصد الْحجاز

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة

- ‌فصل فِي فتح آمد

- ‌ثمَّ دخلت سنة تسع وَسبعين وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي فتح حلب

- ‌فصل فِيمَا جرى بعد فتح حلب

- ‌فصل فِي رُجُوع السُّلْطَان إِلَى دمشق وَخُرُوجه مِنْهَا للغزاة بمخاضة الْأُرْدُن

- ‌فصل فِي ولَايَة الْملك الْعَادِل حلب وَولَايَة تَقِيّ الدّين مصر وَغير ذَلِك

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة

- ‌ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌فصل يحتوي على ذكر المفاضلة بَين مصر وَالشَّام والتعريف بِحَال زين الدّين الْوَاعِظ

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة

- ‌وَدخلت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل فِيمَا فعل السُّلْطَان فِي أَمر خلاط وميافارقين وَغَيرهمَا من الْبِلَاد

- ‌فصل فِي انتظام الصُّلْح مَعَ أهل الْموصل وَمرض السُّلْطَان المرضة الْمَشْهُورَة بحران

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة وَمن توفّي فِيهَا من الْأَعْيَان

- ‌ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي ذكر مَا استأنفه السُّلْطَان بِمصْر وَالشَّام من نقل الولايات بَين أَوْلَاده

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة

- ‌فصل

- ‌ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌فصل فِي فتح عكا وَغَيرهَا

- ‌فصل فِي فتح نابلس وَجُمْلَة من الْبِلَاد الساحلية بعد فتح عكا وطبرية وَذكر بعض كتب البشائر الشاهدة لذَلِك

- ‌فصل فِي فتح تبنين وصيدا وبيروت وجبيل وَغَيرهَا ومجيء المركيس إِلَى صور

- ‌فصل فِي فتح عسقلان وغزة والداروم وَغَيرهَا

- ‌فتح الْبَيْت الْمُقَدّس شرفه الله تَعَالَى

- ‌فصل

- ‌فصل فِي نزُول السُّلْطَان على الْبَيْت الْمُقَدّس وحصره وَمَا كَانَ من أمره

- ‌فصل فِي ذكر يَوْم الْفَتْح وَبَعض كتب البشائر إِلَى الْبِلَاد

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي صفة إِقَامَة الْجُمُعَة بالأقصى شرفه الله تَعَالَى فِي رَابِع شعْبَان ثامن يَوْم الْفَتْح

- ‌فَصْل

- ‌فصل فِي إِيرَاد مَا خطب بِهِ القَاضِي محيي الدّين رحمه الله

- ‌فصل فِي الْمِنْبَر

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي حِصَار صور وَفتح هونين وَغير ذَلِك

- ‌فصل فِي وُرُود رسل التهاني من الْآفَاق وقدوم الرَّسُول العاتب من الْعرَاق

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ

الفصل: ‌ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمس مئة

وَمن كتاب فاضلي إِلَى بعض إخوانه كتبت هَذِه الْمُكَاتبَة من جسر الْخشب ظَاهر دمشق وَقد ورد السُّلْطَان أعز الله أنصاره للغزاة إِلَى بِلَاد الْكفْر فِي عَسْكَر فِيهِ عَسَاكِر وَفِي جمع البادي فِيهِ كَأَنَّهُ حَاضر وَفِي حشد يتَجَاوَز أَن يحصله النَّاظر إِلَى أَن لَا يحصله الخاطر وَقد نهضت بِهِ همة لَا يُرْجَى غير الله لإنهاضها ونجحت بِهِ عَزمَة الله المسؤول فِي حسم عوارض اعتراضها وَبَاعَ الله نفسا يسْتَمْتع أهل الْإِسْلَام بهيئتها وَيذْهب الله الشّرك بهيبتها وَأَرْجُو أَن يتمخض عَن زبدة تستريح الْأَيْدِي بعْدهَا عَن المخض وَأَن يكون الله قد بعث سفتجة نصْرَة الْإِسْلَام وسلطانه قد نَهَضَ للقبض

‌ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة

وَهِي سنة كسرة حطين وَفتح السَّاحِل وَالْأَرْض المقدسة للْمُسلمين

قَالَ الْعِمَاد فِي كتاب الْبَرْق وَهِي السّنة الْحَسَنَة المحسنة وَالزَّمَان الَّذِي تقضت على انْتِظَار إحسانه الْأَزْمِنَة وطهر فِيهِ الْمَكَان الْمُقَدّس الَّذِي سلمت بسلامته الْأَمْكِنَة وخلصت بمنحة الله من المحنة الأَرْض المقدسة الممتحنة وَكفى الله شَرّ الشّرك وَحكم على دِمَاء الْكَفَرَة بالسفك ونصرت الدولة الناصرية وخذلت الْملَّة النَّصْرَانِيَّة وانتقم التَّوْحِيد من التَّثْلِيث وشاع فِي الدُّنْيَا بمحاسن الْأَيَّام الصلاحية حسن الْأَحَادِيث

ص: 275

ثمَّ ذكر فِي كتابي الْفَتْح والبرق مَا جملَته أَن قَالَ فبرز السُّلْطَان من دمشق يَوْم السبت أول الْمحرم فِي الْعَسْكَر العرمرم وَمضى بِأَهْل الْجنَّة لجهاد أهل جَهَنَّم فَلَمَّا وصل إِلَى رَأس المَاء أَمر وَلَده الْملك الْأَفْضَل بِالْإِقَامَةِ هُنَاكَ ليستدني إِلَيْهِ الْأُمَرَاء الواصلين والأملاك وَيجمع الْأَعْرَاب والأعاجم والأتراك وَسَار السُّلْطَان إِلَى بصرى وخيم على قصر السَّلامَة وَأقَام على ارتقاب اقتراب الْحجَّاج وَكَانَ فيهم حسام الدّين مُحَمَّد بن عمر بن لاجين ووالدته أُخْت السُّلْطَان مَعَ جمَاعَة من الْخَواص وَقد تقدم ذكر غدر إبرنس الكرك وَهُوَ على طريقي الْعَسْكَر الْمصْرِيّ وَالْحجاج

وَوصل الْحَاج فِي آخر صفر وخلا سر السُّلْطَان من شغلهمْ ثمَّ سَار وَنزل على الكرك وأخاف أَهله وَأخذ مَا كَانَ حوله ورعى زرعهم وَقطع أَشْجَارهم وكرمهم ثمَّ سَار إِلَى الشوبك وَفعل بِهِ مثل ذَلِك وَوصل عَسْكَر مصر فَتَلقاهُ بالقريتين وفرقه على أَعمال القلعتين وَأقَام على هَذِه الْحَالة فِي ذَلِك الْجَانِب شَهْرَيْن وَالْملك الْأَفْضَل وَلَده مُقيم بِرَأْس المَاء فِي جمع عَظِيم من العظماء وَعِنْده الجحافل الحافلة والحواصل الْحَاصِلَة والعساكر الكاسرة والقساور القاسرة وَهُوَ ينْتَظر أمرا من أَبِيه وَيكْتب إِلَيْهِ ويقتضيه وانقضى من السّنة شَهْرَان وَطَالَ بهم انْتِظَار السُّلْطَان فأنهض مِنْهُم سَرِيَّة سَرِيَّة وأمرها بالغارة على أَعمال طبرية ورتب على خيل الجزيرة وَمن جَاءَ من الشرق وديار بكر مظفر الدّين كوكبري صَاحب حران وعَلى عَسْكَر حلب والبلاد الشامية بدر الدّين دلدرم بن ياروق وعَلى عَسْكَر

ص: 276

دمشق وبلادها صارم الدّين قايماز النجمي فَسَارُوا مدججين وسروا مدلجين وصبحوا صفورية وساء صباح الْمُنْذرين فَخرج إِلَيْهِم الفرنج فِي حشدهم فآتاهم الله النَّصْر الهني وَالظفر السّني وشفوا مِنْهُم حنين الحنايا وأدركوا فيهم منى المنايا وفازوا وظفروا وَقتلُوا وأسروا وَهلك مقدم الإسبتار وَحصل جمَاعَة من فرسانهم فِي قَبْضَة الإسار وأفلت مقدم الداوية وَله حصاص وَوَقع الْبَاقُونَ وَلم يكن لَهُم من الْهَلَاك خلاص وعادوا سَالِمين سالبين غَانِمِينَ غَالِبين فَكَانَت هَذِه النّوبَة باكورة البركات ومقدمة مَا بعْدهَا من ميامن الحركات

وجاءتنا الْبُشْرَى وَنحن فِي نواحي الكرك والشوبك فَسَار السُّلْطَان وَوصل السّير بالسرى وخيم بعشترا وَالْقدر يَقُول لَهُ تعيش وَترى

وَقد غصت بخيل الله الوهاد والذرى وامتد الْعَسْكَر فراسخ عرضا وطولا وملأ بالملأ حزونا وسهولا وَمَا رَأَيْت عسكرا أبرك مِنْهُ وَلَا أكبر وَلَا أكرث للكفر وَلَا أَكثر وَكَانَ يَوْم عرضه مذكرا بِيَوْم الْعرض وَمَا شَاهده إِلَّا من تَلا {وَللَّه جنود السَّمَاوَات وَالْأَرْض} وَعرض الْعَسْكَر فِي اثْنَي عشر ألف مدجج فِي ليل العجاج مُدْلِج وَلما تمّ الْعرض وحم الْفَرْض وسالت بأفلاك السَّمَاء الأَرْض وَتعين الْجِهَاد وَتبين الِاجْتِهَاد ثمَّ رتب السُّلْطَان الْعَسْكَر أطلابا وَحزبه أحزابا وَسَار يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشر ربيع الآخر عَازِمًا على دُخُول السَّاحِل فَأَنَاخَ لَيْلَة السبت على خسفين ثمَّ سَار فِي الْأُرْدُن إِلَى ثغر الأقحوانة وَأقَام هُنَاكَ

ص: 277

خَمْسَة أَيَّام وَقد عين مَوَاقِف الْأُمَرَاء وشعارهم وأحاط ببحيرة طبرية بحره الْمُحِيط وضاق ببسائط خيامه ذَلِك الْبَسِيط

وَلما سمع الفرنج باجتماع كلمة الْإِسْلَام عَلَيْهِم وسير تِلْكَ العساكر إِلَيْهِم علمُوا أَنه قد جَاءَهُم مَا لَا عهد لَهُم بِمثلِهِ وَأَن الْإِيمَان كُله قد برز إِلَى الشّرك كُله فَاجْتمعُوا واصطلحوا وحشدوا وجمعوا وانتخوا وَدخل القومص مَعَهم بعد أَن دخل عَلَيْهِ الْملك وَرمى بِنَفسِهِ عَلَيْهِ وصفوا راياتهم بصفورية ولووا الألوية وحشدوا الْفَارِس والراجل والرامح والنابل وَرفعُوا صَلِيب الصلبوت فَاجْتمع إِلَيْهِ عباد الطاغوت وضلال الناسوت واللاهوت وَنَادَوْا فِي نوادي أهل أقاليم أهل الأقانيم وصلبوا للصليب الْأَعْظَم بالتعظيم وَمَا عصاهم من لَهُ عَصا وَخَرجُوا عَن الْعد والإحصا وَكَانُوا عدد الْحَصَى وصاروا فِي زهاء خمسين ألفا وَيزِيدُونَ ويكيدون مَا يكيدون قد توافوا على صَعِيد ووافوا من قريب وبعيد وهم هُنَاكَ مقيمون لَا يريمون وَالسُّلْطَان فِي كل صباح يسير إِلَيْهِم ويشرف عَلَيْهِم ويراميهم وينكي فيهم ويتعرض لَهُم ليتعرضوا لَهُ ويردوا عَن رقابهم سيوفه وَعَن شعابهم سيوله فربضوا مَا نبضوا وقعدوا وَمَا نهضوا فَلَو برزوا للمصاف لطالت عَلَيْهِم يَد الانتصاف

فَلَمَّا رأى السُّلْطَان أَنهم لَا يبرحون وَمن قرب صفورية وَلَا ينزحون أَمر أمراءه أَن يقيموا فِي مقابلتهم ويدوموا على عزم مُقَاتلَتهمْ وَنزل هُوَ فِي خواصه العبسية على

ص: 278

مَدِينَة طبرية وَعلم أَنهم إِذا علمُوا بنزوله عَلَيْهَا بَادرُوا للوصول إِلَيْهَا فَحِينَئِذٍ يتَمَكَّن من قِتَالهمْ ويجهد فِي استئصالهم ثمَّ أحضر الجاندارية والنقابين والخراسانية والحجارين وأطاف بسورها وَشرع فِي تخريب معمورها وَأخذ النقابون النقب فِي برج فهدوه وهدموه وتسلقوا فِيهِ وتسلموه وَدخل اللَّيْل وصباح الْفَتْح مُسْفِر وليل الويل على الْعَدو معتكر وامتنعت القلعة بِمن فِيهَا من القومصية صَاحِبَة طبرية وبنيها

وَلما سمع القومص بِفَتْح طبرية وَأخذ بَلَده سقط فِي يَده وَخرج عَن جلد جلده وسمح للفرنج بسبده ولبده وَقَالَ لَهُم لَا قعُود بعد الْيَوْم وَلَا بُد لنا من لِقَاء الْقَوْم وَإِذا أخذت طبرية أخذت الْبِلَاد وَذَهَبت الطراف والتلاد وَمَا بَقِي لي صَبر وَمَا بعد هَذَا الْكسر من جبر

وَكَانَ الْملك قد حالفه فَمَا خَالفه وَوَافَقَهُ فَمَا نافقه ورحل بجمعه وَأَتْبَاعه وشياطينه وأشياعه فمادت الأَرْض بحركته وغامت السَّمَاء من غبرته وَوصل الْخَبَر بِأَن الفرنج ركبُوا ووثبوا ففرح السُّلْطَان وَقَالَ جَاءَنَا مَا نُرِيد وَنحن أولُوا بَأْس شَدِيد وَإِذا صحت كسرتهم فطبرية وَجَمِيع السَّاحِل مَا دونه مَانع وَلَا عَن فَتحه وازع

ص: 279

واستخار الله تَعَالَى وَسَار وَعدم الْقَرار وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشري ربيع الآخر والفرنج سائرون إِلَى طبرية بقضهم وقضيضهم وهم كالجبال السائرة والبحار الزاخرة أمواجها ملتطمة وأفواجها مزدحمة فرتب السُّلْطَان فِي مقابلتهم أطلابه وَحصل بعسكره قدامهم وحجز بَينهم وَبَين المَاء وَالْيَوْم قيظ وَلِلْقَوْمِ غيظ وحجز اللَّيْل بَين الْفَرِيقَيْنِ وحجرت الْخَيل على الطَّرِيقَيْنِ وهيئت دركات النيرَان وهنئت دَرَجَات الْجنان وانتظر مَالك واستبشر رضوَان فَهِيَ لَيْلَة الْقدر خير من ألف شهر تنزل فِيهَا الْمَلَائِكَة وَالروح وَفِي سحرها نشر الظفر يفوح وَفِي صباحها الْفتُوح فَمَا أبهجنا بِتِلْكَ اللَّيْلَة الفاخرة فقد كُنَّا مِمَّن قَالَ الله تَعَالَى فيهم {فآتاهم الله ثَوَاب الدُّنْيَا وَحسن ثَوَاب الْآخِرَة} وبتنا وَالْجنَّة معروضة وَالسّنة مَفْرُوضَة والكوثر واقفة سقاته والخلد قاطفة جناته والسلسبيل وَاضح سَبيله والإقبال ظَاهر قبيله والظهور قَائِم دَلِيله وَالله نَاصِر الْإِسْلَام ومديله

وسهر السُّلْطَان تِلْكَ اللَّيْلَة حَتَّى عين الجاليشية من كل طلب وملأ جعابها وكنائنها بالنبال وَكَانَ مَا فرقه من النشاب أَربع مئة حمل ووقف سبعين جمازة فِي حومة الوغى يَأْخُذ مِنْهَا من خلت جعابه وَفرغ نشابه حَتَّى إِذا أَسْفر الصَّباح خرج الجاليشية تحرق بنيران النصال أهل النَّار ورنت القسي وغنت الأوتار ذَاك وَالْيَوْم ذَاك والجيش شَاك وللقيظ عَلَيْهِم فيض وَمَا للغيظ مِنْهُم غيض وَقد وَقد الْحر واستشرى الشَّرّ وَوَقع

ص: 280

الْكر والفر والسراب طافح والظمأ لافح والجو محرق والجوى مقلق ولأولئك الْكلاب من اللهب لهث وبالغيث عَبث وَفِي ظنهم أَنهم يردون المَاء فاستقبلتهم جَهَنَّم بشرارها واستظهرت عَلَيْهِم الظهيرة بنارها وَذَلِكَ فِي يَوْم الْجُمُعَة بجموع أَهلهَا المجتمعة ووراء عسكرنا بحيرة طبرية والورد عد وَمَا مِنْهُ بعد

وَقد قطعت على الفرنج طَرِيق الْوُرُود وبلوا من الْعَطش بالنَّار ذَات الْوقُود فوقفوا صابرين مصابرين مكابرين مضابرين فكلبوا على ضراوتهم وَشَرِبُوا مَا فِي إداوتهم وشفهوا مَا حَولهمْ من موارد المصانع واستنزفوا حَتَّى مَاء المدامع وأشرفوا على الْمصير إِلَى المصارع وَدخل اللَّيْل وَسكن السَّيْل وَبَاتُوا حيارى وَمن الْعَطش سكارى وهم على شعف الْبحيرَة بحيرة وقووا أنفسهم على الشدَّة واستعدوا بالعزائم المحتدة وَقَالُوا غَدا نصب عَلَيْهِم مَاء المواضي ونقاضيهم إِلَى القواضب القواضي فأحدوا عزم الْبلَاء وطلبوا الْبَقَاء بالتورط فِي الفناء

وَأما عسكرنا فَإِنَّهَا اجترأت وَمن كل مَا يعوقها بَرِئت فَهَذَا لسنانه شاحذ وَهَذَا لعنانه آخذ وَهَذَا سهم مفوق وَهَذَا شهم موفق وَهَذَا مكثر للتكبير ومنتظر للتبكير وَهَذَا نَاجٍ للسعادة وَهَذَا راج للشَّهَادَة فيالله تِلْكَ من لَيْلَة حراسها الْمَلَائِكَة وَمن سحرة أنفاسها ألطاف الله المتداركة

ص: 281

وَالسُّلْطَان رحمه الله قد وثق بنصر الله فَهُوَ يمْضِي بِنَفسِهِ على الصُّفُوف ويحضهم ويعدهم من الله بنصره المألوف ويغري المئين بالألوف وهم بمشاهدته إيَّاهُم يجيدون ويجدون ويصدون الْعَدو ويردون

وَكَانَ للسُّلْطَان مَمْلُوك اسْمه منكورس حمل فِي أول النَّاس وَكَانَ حصانه قوي الراس فأبعد عَن إخوانه وَلم يُتَابِعه أحد من أقرانه فَانْفَرد بِهِ الفرنج فَأثْبت فِي مستنقع الْمَوْت رجله وَقَاتل إِلَى أَن بلغُوا قَتله فَلَمَّا أخذُوا رَأسه ظنُّوا أَنه أحد أَوْلَاد السُّلْطَان وانتقل الشَّهِيد إِلَى جوَار الرَّحْمَن

وَلما شَاهد الْمُسلمُونَ استشهاده وَجلده وجلاده حميت حميتهم وخلصت لله نيتهم وَأصْبح الْجَيْش على تعبئته والنصر على تلبيته وَذَلِكَ يَوْم السبت الْخَامِس وَالْعِشْرين من ربيع الآخر وَهُوَ يَوْم النُّصْرَة وَوُقُوع الكسرة وبرح بالفرنج الْعَطش وأبت عثرتها تنتعش وَكَانَ النسيم من أمامها والحشيش تَحت أَقْدَامهَا فَرمى بعض مطوعة الْمُجَاهدين النَّار فِي الْحَشِيش فتأجج عَلَيْهِم استعارها وتوهج أوارها فبلوا وهم أهل التَّثْلِيث من الدُّنْيَا بِثَلَاثَة الْأَقْسَام فِي الاصطلاء والاصطلام نَار الضرام ونار الأوام ونار السِّهَام فرجا الفرنج فرجا وَطلب طَلَبهمْ المحرج مخرجا فَكلما خَرجُوا جرحوا وبرح بهم حر الْحَرْب فَمَا برحوا وهم ظماء وَمَا لَهُم مَاء سوى مَا بِأَيْدِيهِم من مَاء الفرند مَاء فشوتهم نَار السِّهَام وأشوتهم وصممت عَلَيْهِم قُلُوب القسي القاسية وأصمتهم وأعجزوا وأزعجوا وأحرجوا وأخرجوا وَكلما حملُوا ردوا وأردوا وَكلما سَارُوا وشدوا أَسرُّوا

ص: 282

وشدوا وَمَا ذبت مِنْهُم نملة وَلَا ذبت عَنْهُم حَملَة واضطرموا واضطربوا والتهفوا والتهبوا وناشبهم النشاب فَعَادَت أسودهم قنافذ وضايقتهم السِّهَام فوسعت فيهم الْخرق النَّافِذ فآووا إِلَى جبل حطين يعصمهم من طوفان الدمار فأحاطت بحطين بوارق الْبَوَار ورشفتهم الظبى وفرشتهم على الربى ورشقتهم الحنايا وقشرتهم المنايا وقرشتهم البلايا ورقشتهم الرزايا

وَلما أحس القومص بالكسرة حسر عَن ذِرَاع الْحَسْرَة واقتال من الْعَزِيمَة واحتال فِي الْهَزِيمَة وَكَانَ ذَلِك قبل اضْطِرَاب الْجمع واضطرام الْجَمْر فَخرج بِطَلَبِهِ يطْلب الْخُرُوج واعوج إِلَى الْوَادي وَمَا ود أَن يعوج وَمضى كومض الْبَرْق ووسع خطى خرقه قبل اتساع الْخرق وأفلت فِي عدَّة مَعْدُودَة وَلم يلْتَفت إِلَى ردة مَرْدُودَة وَكَانَ قَالَ لأَصْحَابه أَنا أسبق بالحملة وأفصلهم من الْجُمْلَة

فَاجْتمع هُوَ ومؤازروه وَجَمَاعَة من المقدمين هم مضافروه وَصَحبه صَاحب صيدا وباليان بن بارزان وَتَآمَرُوا على أَنهم يحملون ويبلغون الطعان

فَحمل القومص وَمن مَعَه على الْجَانِب الَّذِي فِيهِ الْملك المظفر تَقِيّ الدّين وَهُوَ مؤيد من الله بالتوفيق والتمكين فَفتح لَهُم طَرِيقا وَرمى من أتباعهم فريقا فَمَضَوْا على رؤوسهم ونجوا بنفوسهم

وَلما عرف الفرنج أَن القومص أَخذ بالعزيمة وَنفذ فِي الْهَزِيمَة وهنوا وهانوا ثمَّ اشتدوا وَمَا لانوا وثبتوا على مَا كَانُوا واستقبلوا واستقتلوا واستلحموا وحملوا ووقعنا عَلَيْهِم وُقُوع النَّار فِي

ص: 283

الحلفاء وصببنا مَاء الْحَدِيد للإطفاء فَزَاد فِي الإذكاء فحطوا خيامهم على غارب حطين حِين رأونا بهم محيطين فأعجلناهم عَن ضرب الْخيام بِضَرْب الْهَام ثمَّ استحرت الْحَرْب واشتجر الطعْن وَالضَّرْب وأحيط بالفرنج من حواليهم ودارت الدَّوَائِر عَلَيْهِم وترجوا خيرا فترجلوا عَن الْخَيل وجرفهم السَّيْف جرف السَّيْل وَملك عَلَيْهِم الصَّلِيب الْأَعْظَم وَذَاكَ مصابهم الْأَعْظَم

وَلما شاهدوا الصَّلِيب سليبا ورقيب الردى قَرِيبا أيقنوا بِالْهَلَاكِ وأثخنوا بِالضَّرْبِ الدراك فَمَا برحوا يؤسرون وَيقْتلُونَ ويخمدون ويخملون وللوثوب يخفون وبالجراح يثقلون وَمن مصَارِع الْقَتْل إِلَى معاصر الْأسر ينقلون

ووصلنا إِلَى مقدمهم وملكهم وإبرنسهم فتم أسر الْملك وإبرنس الكرك وَأخي الْملك جفري وأوك صَاحب جبيل وهنفري بن هنفري وَابْن صَاحب إسكندرونة وَصَاحب مرقية وَأسر من نجا من الْقَتْل من الداوية ومقدمها وَمن الإسبتارية ومعظمها وَمن البارونية وَمن أخطأه الْبَوَار فَأَصَابَهُ وسآءه الإسار وَأسر الشَّيْطَان وَجُنُوده وَملك الْملك وكنوده وجبر الْإِسْلَام بكسرتهم وَقتلُوا وأسروا بأسرهم فَمن شَاهد الْقَتْلَى قَالَ مَا هُنَاكَ أَسِير وَمن عاين الأسرى قَالَ مَا هُنَاكَ قَتِيل ومذ استولى الفرنج على سَاحل الشَّام مَا شفي للْمُسلمين كَيَوْم حطين غليل

فَالله عز وجل سلط السُّلْطَان وأقدره على مَا أعجز عَنهُ الْمُلُوك وهداه من التَّوْفِيق لامتثال أمره وَإِقَامَة فَرْضه النهج المسلوك ونظم لَهُ فِي حتوف أعدائه والفتوح لأوليائه السلوك وَخَصه بِهَذَا الْيَوْم الْأَغَر والنصر الأبر واليمن الْأسر والنجح الأدر وَلَو لم يكن لَهُ إِلَّا فَضِيلَة هَذَا الْيَوْم لَكَانَ

ص: 284

متفردا على الْمُلُوك السالفة فَكيف مُلُوك الْعَصْر فِي السمو والسوم غير أَن هَذِه النّوبَة الْمُبَارَكَة كَانَت لِلْفَتْحِ الْقُدسِي مُقَدّمَة ولمعاقد النَّصْر وقواعده مبرمة محكمَة

وَمن عجائب هَذِه الْوَقْعَة وغرائب هَذِه الدفعة أَن فارسهم مَا دَامَ فرسه سالما لم يدل للصرعة فَإِنَّهُ من لبسه الزردي من قرنه إِلَى قدمه كَأَنَّهُ قِطْعَة حَدِيد ودراك الضَّرْب وَالرَّمْي إِلَيْهِ غير مُفِيد لَكِن فرسه إِذا هلك فرس وَملك فَلم يغنم من خيلهم ودوابهم وَكَانَت ألوفا مَا هُوَ سَالم وَمَا ترجل فَارس إِلَّا والطعن وَالرَّمْي لمركوبه كالم وغنمنا مَا لَا يحصر من بيض مَكْنُون وزغف موضون وبلاد وحصون وسهول وحزون وابتذلنا مِنْهُم بِهَذَا الْفَتْح كل إقليم مصون وَذَلِكَ سوى مَا استبيح من مَال مخزون واستخرج من كنز مدفون

وَصحت هَذِه الكسرة وتمت هَذِه النُّصْرَة يَوْم السبت وَضربت ذلة أهل السبت على أهل الْأَحَد وَكَانُوا أسودا فعادوا من النَّقْد فَمَا أفلت من تِلْكَ الآلاف إِلَّا آحَاد وَمَا نجا من أُولَئِكَ الْأَعْدَاء إِلَّا أعداد وامتلأ الملا بالأسرى والقتلى وانجلى الْغُبَار عَنْهُم بالنصر الَّذِي تجلى وقيدت الْأُسَارَى فِي الحبال وَاجِبَة الْقُلُوب وفرشت الْقَتْلَى فِي الوهاد وَالْجِبَال وَاجِبَة الْجنُوب وحطت حطين تِلْكَ الْجِيَف عَن

ص: 285

متنها وطاب نشر النَّصْر بنتنها وعبرت بهَا فألفيتها مَحل الِاعْتِبَار وشاهدت مَا فعل أهل الإقبال بِأَهْل الإدبار وعاينت أعيانهم خَبرا من الْأَخْبَار وَرَأَيْت الرؤوس طائرة والنفوس بائرة والعيون غائرة والجسوم رمستها السوافي والرسوم درستها العوافي وأشلاء المشلولين فِي الْمُلْتَقى ملقاة بالعراء عُرَاة ممزقة بالمآزق مفصلة المفاصل مفرقة الْمرَافِق مفلقة المفارق محذوفة الرّقاب مقصوفة الأصلاب مقطعَة الْهَام موزعة الْأَقْدَام مجدوعة الآناف منزوعة الْأَطْرَاف مفقوءة الْعُيُون مبعوجة الْبُطُون منصفة الأجساد مقصفة الأعضاد مقلصة الشفاه مخلصة الجباه سَائِلَة الأحداق مائلة الْأَعْنَاق عديمة الْأَرْوَاح هشيمة الأشباح كالأحجار بَين الْأَحْجَار عِبْرَة لأولي الْأَبْصَار

وَلما أَبْصرت خدودهم ملصقة بِالتُّرَابِ وَقد قطعُوا آرابا تلوث قَول الله تَعَالَى {وَيَقُول الْكَافِر يَا لَيْتَني كنت تُرَابا} فَمَا أطيب نفحات الظفر من ذَلِك الْخبث وَمَا ألهب عذبات الْعَذَاب فِي تِلْكَ الجثث وَمَا أحسن عمارات الْقُلُوب بقبح ذَلِك الشعث وَمَا أَجْزَأَ صلوَات البشائر بِوُقُوع ذَلِك الْحَدث هَذَا حِسَاب من قتل فقد حصرت أَلْسِنَة الْأُمَم عَن حصره وعده وَأما من أسر فَلم تكف أطناب الخيم لقيده وشده وَلَقَد رَأَيْت فِي حَبل وَاحِد ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعين يقودهم فَارس وَفِي بقْعَة وَاحِدَة مئة ومئتين يحميهم حارس وهنالك العتاة عناة والعداة عُرَاة وذوو الأسرة أسرى وَأولُوا الأثرة عثرى والقوامص قنائص والفوارس فرائس وغوالي الْأَرْوَاح رخائص ووجوه الداوية عوابس والرؤوس تَحت الأخامص فكم أصيد صيد

ص: 286

وقائد قيد وَقيد وَملك مَمْلُوك وهاتك مهتوك وحر فِي الرّقّ ومبطل فِي يَد المحق وَلم يؤسر الْملك حَتَّى أَخذ صَلِيب الصلبوت وَأهْلك دونه الطاغوت وَهُوَ الَّذِي إِذا نصب وأقيم وَرفع سجد لَهُ كل نَصْرَانِيّ وَركع وهم يَزْعمُونَ أَنه من الْخَشَبَة الَّتِي يَزْعمُونَ أَنه صلب عَلَيْهَا معبودهم وَقد غلفوه بِالذَّهَب الْأَحْمَر وكللوه بالدر والجوهر وأعدوه ليَوْم الروع الْمَشْهُود ولموسم عَلَيْهِم الْمَوْعُود فَإِذا أخرجته القسوس وَحَمَلته الرؤوس تبَادرُوا إِلَيْهِ وانثالوا عَلَيْهِ وَلَا يسع أحدهم عَنهُ التَّخَلُّف وَلَا يسوغ للمتخلف عَن اتِّبَاعه فِي نَفسه التَّصَرُّف وَأَخذه عِنْدهم أعظم من أسر الْملك وَهُوَ أَشد مصاب لَهُم فِي ذَلِك المعترك فَإِن الصَّلِيب السليب مَا لَهُ عوض وَلَا لَهُم فِي سواهُ غَرَض والتأله لَهُ عَلَيْهِم مفترض فَهُوَ إلههم وتعفر لَهُ جباههم وتسبح لَهُ أَفْوَاههم يتغاشون عِنْد أحضاره ويتعاشون لإبصاره ويتلاشون لإظهاره ويتغاضون إِذا شاهدوه ويتواجدون إِذا وجدوه ويبذلون دونه المهج وَيطْلبُونَ بِهِ الْفرج بل صاغوا على مثله صلبانا يعبدونها ويخشعون لَهَا فِي بُيُوتهم ويشهدونها

فَلَمَّا أَخذ هَذَا الصَّلِيب عظم مصابهم ووهت أصلابهم وَكَانَ الْجمع المكسور عَظِيما والموقف الْمَنْصُور كَرِيمًا فكأنهم لما عرفُوا إِخْرَاج هَذَا الصَّلِيب لم يتَخَلَّف أحد عَن يومهم العصيب فهلكوا قتلا وأسرا وملكوا قهرا وقسرا

وَلما صَحَّ الْكسر وَقضي الْأَمر وَتمكن النَّصْر وَسكن الْبَحْر ضرب السُّلْطَان فِي تِلْكَ الحومة دهليز السرادق وتوافت إِلَيْهِ حماة الْحَقَائِق وَنزل السُّلْطَان وَصلى للشكر وَسجد وجدد الاستبشار بِمَا وجد وأحضر

ص: 287

عِنْده من الْأُسَارَى الْملك والبرنس وأجلس الْملك بجنبه

وَقَالَ فِي كتاب الْفَتْح وَجلسَ السُّلْطَان لعرض أكَابِر الْأُسَارَى وهم يتهادون فِي الْقُيُود تهادي السكارى فَقدم بداية مقدم الداوية وعدة كَثِيرَة مِنْهُم وَمن الاسبتارية وأحضر الْملك كي وَأَخُوهُ جفري وأوك صَاحب جبيل وهنفري والإبرنس أرناط صَاحب الكرك وَهُوَ أول من وَقع فِي الشّرك وَكَانَ السُّلْطَان نذر دَمه وَقَالَ لأعجلن عِنْد وجدانه عَدمه

فَلَمَّا حضر بَين يَدَيْهِ أجلسه إِلَى جنب الْملك وَالْملك بجنبه وقرعه على غدره وَذكره بِذَنبِهِ وَقَالَ لَهُ كم تحلف وتحنث وتعهد وتنكث وتبرم الْمِيثَاق وتنقض وَتقبل على الْوِفَاق ثمَّ تعرض فَقَالَ الترجمان عَنهُ إِنَّه يَقُول قد جرت بذلك عَادَة الْمُلُوك وَمَا سلكت غير السّنَن المسلوك

وَكَانَ الْملك يَلْهَث ظمأ ويميل من سكرة الرعب منتشيا فآنسه السُّلْطَان وحاوره وفثأ سُورَة الوجل الَّذِي ساوره وَسكن رعبه وَأمن قلبه وَأمر لَهُ بِمَاء مثلوج فشربه وأطفأ بِهِ لهبه ثمَّ ناول الْملك الإبرنس الْقدح فاستشفه وَبرد بِهِ لهفه فَقَالَ السُّلْطَان للْملك لم تَأْخُذ فِي سقيه مني إِذْنا فَلَا يُوجب ذَلِك لَهُ مني أمنا

ثمَّ ركب وخلاهما وبنار الوهل أصلاهما وَلم ينزل إِلَى أَن ضرب سرادقه وركزت أَعْلَامه وبيارقه وعادت إِلَى الْحمى عَن الحومة فيالقه

فَلَمَّا دخل سرادقه استحضر الإبرنس فَقَامَ إِلَيْهِ وتلقاه بِالسَّيْفِ فَحل عَاتِقه وَحين صرع أَمر بِرَأْسِهِ فَقطع وجر بِرجلِهِ قُدَّام الْملك حِين أخرج

ص: 288

فارتاع الْملك وانزعج فَعرف السُّلْطَان أَنه خامره الْفَزع وساوره الْهَلَع وسامره الْجزع فاستدعاه واستدناه وأمنه وطمنه ومكنه من قربه وسكنه وَقَالَ لَهُ وَذَاكَ رداءته أردته وغدرته كَمَا ترَاهُ غادرته وَقد هلك بغيه وبغيه

ونبا زند حَيَاته ووردها عَن ريه ووريه

ثمَّ جمع الْأُسَارَى المعروفين وسلمهم إِلَى وَالِي قلعة دمشق الناصح الغيدي فَقَالَ لَهُم أَنْتُم تَحت قيدي

وسلمهم إِلَى أَصْحَابه فتسلمتهم الْأَيْدِي وَأمرهمْ أَن يَأْخُذُوا خطّ الصفي بن الْقَابِض فِي دمشق بوصولهم ويحتاط عَلَيْهِم فِي أغلالهم وكبولهم

فَتفرق الْعَسْكَر بِمن ضمته أَيدي السَّبي أَيدي سبا وهادتهم الوهاد والربى

قَالَ وَلما أصبح السُّلْطَان يَوْم الْأَحَد استقام على الجدد وخيم على طبرية وراسل القومصية وأخرجها من حصنها بالأمان ووفى لَهَا وللفرسان بنيها بِشُرُوط الْأمان فَخرجت بمالها ورحالها ونسائها ورجالها وسارت إِلَى طرابلس بلد زَوجهَا القومص بمالها وحالها

وَولى طبرية قايماز النجمي

وَكَانَت طبرية فِي عهد الفرنج تقاسم على نصف مغل الْبِلَاد من الصَّلْت والبلقاء وجبل عَوْف والحيانية والسواد وتناصف الجولان وَمَا يقربهَا إِلَى بلد حوران فخلصت المناصفات وصفت الصفاة وَأمنت الْآفَات هَذَا وَالسُّلْطَان نَازل ظَاهر طبرية وَقد طب الْبَريَّة وَعَسْكَره قد طبق الْبَريَّة

ص: 289

فَلَمَّا أصبح يَوْم الِاثْنَيْنِ بعد الْفَتْح بيومين طلب الْأُسَارَى من الداوية والاستبارية وَقَالَ أَنا أطهر الأَرْض من هَذِه الجنسين النجسين فَمَا جرت عَادَتهمَا بالمفاداة وَلَا يقلعان عَن المعاداة وَلَا يخدمان فِي الْأسر وهما أَخبث أهل الْكفْر

فَتقدم بإحضار كل أَسِير داوي واسبتاري ليمضي فِيهِ حكم السَّيْف وَرَأى البقيا عَلَيْهِم عين الحيف ثمَّ علم أَن كل من عِنْده أَسِير لَا يسمح بِهِ وَأَنه يضن بعطبه فَجعل لكل من يَأْتِيهِ بأسير مِنْهُمَا من الدَّنَانِير الْحمر خمسين فَأتوهُ فِي الْحَال بمئين فَأمر بإعطابهم وَضرب رقابهم ومحو حسابهم وَكَانَ بِحَضْرَتِهِ جمَاعَة من المتطوعة المتورعة والمتصونة المتصوفة والمتعممة المتصرفة وَمن يمت بالزهد والمعرفة فَسَأَلَ كل وَاحِد فِي قتل وَاحِد وسل سَيْفه وحسر عَن ساعد وَالسُّلْطَان جَالس وَوَجهه بَاشر وَالْكفْر عَابس والعساكر صُفُوف والأمراء فِي السماطين وقُوف فَمنهمْ من فرى وبرى وشكر وَمِنْهُم من أَبى ونبا وَعذر وَمِنْهُم من يضْحك مِنْهُ وينوب سواهُ عَنهُ وشاهدت هُنَاكَ الضحوك الْقِتَال وَرَأَيْت مِنْهُ القوال الفعال فكم وعد أنجزه وَحمد أحرزه وَأجر استدامه بِدَم أجراه وبر أعنق إِلَيْهِ بعنق براه

وسير ملك الفرنج وأخاه وهنفري وَصَاحب جبيل ومقدم الداوية وَجَمِيع أكابرهم المأسورين إِلَى دمشق ليودعوا السجون وتستبدل حركاتهم السّكُون وَتَفَرَّقَتْ العساكر بِمَا حوت أَيْديهم من السَّبي وَسبق بهم إِلَى الْبِلَاد النَّاس وَلم يَقع على عَددهمْ الْقيَاس فَكتب إِلَى الصفي بن الْقَابِض نَائِبه بِدِمَشْق أَن يضْرب عنق من يجد من الداوية والاسبتارية فامتثل الْأَمر فِي إزهاقهم وَضرب أَعْنَاقهم فَمَا قتل إِلَّا من عرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام

ص: 290

فَأبى أَن يسلم وَمَا أسلم إِلَّا آحَاد حسن إسْلَامهمْ وتأكد بِالدّينِ غرامهم

قَالَ الْعِمَاد وَمَا زلت أبحث عَن سَبَب نذر السُّلْطَان إِرَاقَة دم الإبرنس حَتَّى حَدثنِي الْأَمِير الْعَزِيز عبد الْعَزِيز بن شَدَّاد بن تَمِيم بن الْمعز بن باديس وَهُوَ ذُو الْبَيْت الْكَبِير والحسب الْجَلِيل وَكَانَ جده صَاحب إفريقية والقيروان وَكَانُوا يتوارثون ملكه إِلَى قريب من هَذَا الزَّمَان ذكر أَن الْأَجَل الْفَاضِل حَدثهُ أَن السُّلْطَان لما عَاد إِلَى دمشق من حران بعد المرضة الَّتِي صَار بهَا كل قلب عَلَيْهِ حران وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَهُوَ من عقابيل سقمه لَا يُفَارق الأنين فَقلت لَهُ مَا مَعْنَاهُ قد أيقظك الله وَمَا يعيذك من هَذَا السوء سواهُ فانذر أَنَّك إِذا أبللت من هَذَا الْمَرَض تقوم بِكُل مالله من المفترض وَأَنَّك لَا تقَاتل من الْمُسلمين أحدا أبدا وَتَكون فِي جِهَاد أَعدَاء الله مُجْتَهدا وَأَنَّك إِذا نصرك الله فِي المعترك وظفرت بالقومص وإبرنس الكرك تتقرب إِلَى الله بإراقة دمهما فَمَا يتم وجود النَّصْر إِلَّا بعدمهما

فَأعْطَاهُ يَده على هَذَا النّذر ونجاه الله ببركة هَذَا الْعذر من الذعر وخلصه إخلاصه فِي مرضاة الله فأبل من مرضته واستقل بنهضته واستقبل السّنة الْقَابِلَة بِسنة الْغَزْو وفريضته ثمَّ جرى من مُقَدمَات الْجِهَاد ونتائجها مَا جرى وخيم السُّلْطَان فِي جموع الْإِسْلَام بعشترا وَركب يَوْمًا فِي عسكره وعزم على نشر القساطل وطي المراحل وَدخُول السَّاحِل وَالْقَذْف بِالْحَقِّ على الْبَاطِل فَبَدَأَ بلقاء الطلعة الْمُبَارَكَة من الْأَجَل الْفَاضِل فَقَالَ لَهُ ليكن نذرك على ذكرك واستزد نعْمَة الله عِنْده بمزيد شكرك وَلَا تخطر غير قمع أهل الْكفْر بفكرك فَمَا أنقذك الله من تِلْكَ الورطة ونعشك من تِلْكَ

ص: 291