الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فِي فتح عكا وَغَيرهَا
وَهِي بِالْألف الممدودة وَيدل على ذَلِك أَنه يُقَال فِي النِّسْبَة إِلَيْهَا عكاوي وَقد وجدت ذَلِك فِي شعر قديم وَمِنْهُم من يَقُول عكه بِالْهَاءِ وَمثل ذَلِك حصن عرقه وَبَعْضهمْ يَقُول عرقا بِالْألف ونهر ثورا وَبَعْضهمْ يَقُول نهر ثوره بِالْهَاءِ
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد ثمَّ رَحل السُّلْطَان طَالبا عكا وَكَانَ نُزُوله عَلَيْهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء سلخ ربيع الآخر وقاتلها بكرَة الْخَمِيس مستهل جُمَادَى الأولى فَأَخذهَا واستنقذ من كَانَ فِيهَا من الْأُسَارَى وَكَانُوا زهاء أَرْبَعَة آلَاف نفر وَاسْتولى على مَا فِيهَا من الْأَمْوَال والذخائر والبضائع والتجائر فَإِنَّهَا كَانَت مَظَنَّة التُّجَّار وَتَفَرَّقَتْ العساكر فِي بِلَاد السَّاحِل يَأْخُذُونَ الْحُصُون والقلاع والأماكن المنيعة فَأخذُوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة وَكَانَ ذَلِك لخلو الرِّجَال بِالْقَتْلِ والأسر
قَالَ الْعِمَاد ورحل السُّلْطَان ظهر يَوْم الثُّلَاثَاء والتوحيد ظَاهر على التَّثْلِيث وَالطّيب قد امتاز من الْخَبيث وَنزل بِأَرْض لوبية عَشِيَّة وأعادها بأزهار بنوده وأنوار جُنُوده رَوْضَة موشية
ثمَّ أصبح سائرا إِلَى عكا سارا سره وبارا بِأَهْل الدّين بره وَكَانَ أَمِير الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة صلوَات الله على ساكنها فِي موكبه فَكَأَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سير للْفَقِير إِلَى نصرته من يثرى بِهِ
من يثربه وَهَذَا الْأَمِير عز الدّين أَبُو فليتة الْقَاسِم بن المهنا الْحُسَيْنِي قد وَفد فِي تِلْكَ السّنة أَوَان عود الْحَاج وَهُوَ ذُو شيبَة تقد كالسراج وَمَا برح مَعَ السُّلْطَان ماثور المآثر مَيْمُون الصُّحْبَة مَأْمُون الْمحبَّة مبارك الطلعة مشاركا فِي الْوَقْعَة فَمَا تمّ فتح فِي تِلْكَ السنين إِلَّا بِحُضُورِهِ وَلَا أشرق مطلع من النَّصْر إِلَّا بنوره فرأيته فِي ذَلِك الْيَوْم للسُّلْطَان مسايرا وَرَأَيْت السُّلْطَان لَهُ مشاورا محاورا وَأَنا أَسِير مَعَهُمَا وَقد دَنَوْت مِنْهُمَا ليسمعاني وأسمعهما ولاحت أَعْلَام عكا وَكَأن بيارق الفرنج المركوزة عَلَيْهَا أَلْسِنَة من الْخَوْف تتشكى وَكَأن عذبات النيرَان تصاعدت لعذاب أَهلهَا وَقد توافرت عَسَاكِر الْإِسْلَام إِلَيْهَا من وعرها وسهلها
وَلما أَشْرَفنَا عَلَيْهَا مستبشرين أيقنا بِفَتْحِهَا مسبشرين فَمَا كَانَ فِيهَا من يحميها فَمَا صدقنا كَيفَ نملكها ونحويها
وَظهر على السُّور أَهلهَا لأجل الممانعة والثبات على المدافعة وخفقان ألويتها يشْعر بقلوبها الخافقة وأرواح جلدهمْ الزاهقة
ووقفنا نتأمل طلولها ونؤمل حُصُولهَا وخيم السُّلْطَان بقربها وَرَاء التل وانبثت عساكره فِي الوعث والسهل
وبتنا تِلْكَ اللَّيْلَة وَقد هزتنا الأطراب ونقول مَتى يجْتَمع الصَّباح وَالْأَصْحَاب فَمَا هجدنا وَلَا غرارا وَلَا وجدنَا من الْفَرح قرارا وَالسُّلْطَان جَالس وَنحن عِنْده وَهُوَ يحض جنده ويقدح مَعَهم فِي اقتباس الآراء زنده وَمنا من يستنجز وعده وَمنا من يستميح رفده وَمنا من يواصله بِالدُّعَاءِ وَمنا من يشافهه بالهناء
وَأصْبح يَوْم الْخَمِيس وَركب فِي خميسه ووقف كالأسد فِي عريسه ووقفنا بِإِزَاءِ
الْبَلَد صُفُوفا وأطللنا على أطلاله وقوفا فَخرج أهل الْبَلَد يطْلبُونَ الْأمان ويبذلون الإذعان فآمنهم وَخَيرهمْ بَين الْمقَام والإنتقال ووهب لَهُم عصمَة الْأَنْفس وَالْأَمْوَال وَكَانَ فِي ظنهم أَنه يستبيح دِمَاءَهُمْ وَيَسْبِي ذُرِّيتهمْ ونساءهم وأمهلهم أَيَّامًا حَتَّى ينْتَقل من يخْتَار النقلَة فاغتنموا تِلْكَ المهلة وَفتح الْبَاب للخاصة وَاسْتغْنى بِالدُّخُولِ إِلَى الْبَلَد جمَاعَة من ذَوي الْخَصَاصَة فَإِن الْقَوْم مَا صدقُوا من الْخَوْف المزعج وَالْفرق المحرج كَيفَ يتركون دُورهمْ بِمَا فِيهَا ويسلمون وَعِنْدهم أَنهم إِذا نَجوا بِأَنْفسِهِم أَنهم يغنمون
فَلَمَّا دخل الْجند ركز كل على دَار رمحه وأسام فِيهَا سرحه فحصلوا على دور أخلاها أَرْبَابهَا وأموال خَلاهَا أَصْحَابهَا وَكُنَّا لأجل الْأمان نهابها فطاب لاولئك نهابها
وَجعل السُّلْطَان للفقيه عِيسَى الهكاري كل مَا كَانَ للداوية من منَازِل وضياع ومواضع وَربَاع فَأَخذهَا بِمَا فِيهَا من غلال ومتاع وَاسْتَخْرَجُوا الدفائن وولجوا المخازن وداروا الْأَمَاكِن وَكَذَلِكَ مماليك الْملك الْأَفْضَل وَأَصْحَابه وولاته ونوابه نبشوا المحارز وفتشوا المراكز واستباحوا الأهراء واجتاحوا الْأَشْيَاء
وَكَانَ السُّلْطَان قد فوض عكا وضياعها ومعاقلها وقلاعها إِلَى وَلَده الْأَكْبَر الْملك الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ
ثمَّ ذكر الْعِمَاد أَنْوَاع مَا استولوا عَلَيْهِ من الْأَمْوَال ثمَّ قَالَ وَمن جملَة ذَلِك أَنهم احتاطوا بِغَيْر علمي على دَار باسمي فباعوا مِنْهَا مَتَاعا بِسبع مئة دِينَار وأخلوها مِمَّا كَانَ فِيهَا من آلَات وأدخار وقلدوني الْمِنَّة فِي تَحْصِيل
تِلْكَ الدَّار فَإِنَّهَا كَانَت من أنفس الْعقار وسلموها إِلَى غُلَام صديق لي ليصونها وَيقوم بحفظها والذب عَنْهَا والدفاع دونهَا
فَذكر أَن الْغُلَام انْتفع من آلاتها بعد خلوها بِمَا قِيمَته سَبْعُونَ دِينَارا وَأَن الْأَوَّلين نقلوا مِنْهَا من الذخر أوقارا
قَالَ وَإِنَّمَا وصفت هَذَا ليعلم مَا غنموه والتهبوا على حيازته والتهموه وَتصرف الْملك المظفر تَقِيّ الدّين فِي دَار السكر فأفنى قنودها واستوعب موجودها وَنقل قدورها وأنقادها وحوى جواهرها وأعراضها
وَقَالَ فِي كتاب الْفَتْح وخلى سكان الْبَلَد دُورهمْ ومخزونهم ومذخورهم وتركوها لمن أَخذهَا ونبذوا مَا حووه لمن حواها وَمَا نبذها وافتقر من الفرنج أَغْنِيَاء وَاسْتغْنى من أجنادنا فُقَرَاء وَلَو ذخرت تِلْكَ الحواصل وحصلت تِلْكَ الذَّخَائِر وَجمع لبيت المَال ذَلِك المَال الْمَجْمُوع الوافر لَكَانَ عدَّة ليَوْم الشدائد وعمدة لنجح الْمَقَاصِد
فرتعت فِي خضرائها بل صفرائها وبيضائها سروح الأطماع وَطَالَ لمستحليها ومستجليها الإمتاع بذلك الْمَتَاع
قَالَ فِي الْبَرْق وقرئ على السُّلْطَان لَيْلَة من كتاب الْفَتْح وَنحن
بالقدس نعني هَذَا الْمَكَان وَذَلِكَ سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ فَقَالَ السُّلْطَان هَذِه رفيعة على ثَلَاثَة اثْنَان مِنْهُم فِي جوَار الرَّحْمَة وَالْآخر بَاقٍ فِي مقرّ الْعِصْمَة
يَعْنِي بالاثنين الْفَقِيه عِيسَى وتقي الدّين وبالآخر الْبَاقِي وَلَده نور الدّين
قَالَ ولعمري هُوَ كَمَا ذكره لَكِن الْأَفْضَل مَا حصل لَهُ لخاصه بل لِذَوي اخْتِصَاصه واستخلاصه
وفتحوا الْبَلَد يَوْم الْجُمُعَة مستهل جُمَادَى الأولى فَجِئْنَا إِلَى كنيستها الْعُظْمَى فأزحنا عَنْهَا البؤسى بالنعمى وَحضر الْأَجَل الْفَاضِل فرتب بهَا الْمِنْبَر والقبلة وَهِي أول جُمُعَة أُقِيمَت بالسَّاحل بعد يَوْم الْفَتْح وَكَانَ الْخَطِيب وَالْإِمَام فِيهَا الْفَقِيه جمال الدّين عبد اللَّطِيف بن الشَّيْخ أبي النجيب السهروردي وولاه السُّلْطَان مناصب الشَّرِيعَة بعكا تولى الخطابة وَالْقَضَاء والحسبة وَالْوَقْف
وَمن كتاب فاضلي إِلَى بَغْدَاد بعد فتح عكا يصف كسرة حطين
صبح الْخَادِم طبرية فاقتض عذرتها بِالسَّيْفِ وهجم عَلَيْهَا هجوم الطيف وتفرق أَهلهَا بَين الْأسر وَالْقَتْل وعاجلهم الْأَمر فَلم يقدروا على الخداع والختل وَجَاء الْملك وَمن مَعَه من كفاره وَلم يشْعر أَن ليل الْكفْر قد آن وَقت إسفاره فأضرم الْخَادِم عَلَيْهِم نَارا ذَات شرار أذكرت بِمَا أعد الله لَهُم فِي دَار الْقَرار فترجل هُوَ وَمن مَعَه عَن صهوات الْجِيَاد وتسنموا هضبة رَجَاء أَن تنجيهم من حر السيوف الْحداد ونصبوا للْملك خيمة حَمْرَاء وضعُوا على الشّرك عمادها وتولت الرِّجَال حفظ أطنابها فَكَانُوا أوتادها فَأخذ الْملك أَسِيرًا {وَكَانَ يَوْمًا على الْكَافرين عسيرا} وَأسر الإبرنس لَعنه الله فحصد بذره وَقَتله الْخَادِم بِيَدِهِ ووفى بذلك نَذره وَأسر جمَاعَة من مقدمي دولته وكبراء ضلالته وَكَانَ الْقَتْلَى تزيد على أَرْبَعِينَ ألفا وَلم يبْق أحد من الداوية فَللَّه. هُوَ من يَوْم تصاحب فِيهِ الذِّئْب والنسر وتداول فِيهِ الْقَتْل والأسر
أصدر الْخَادِم هَذِه الْخدمَة من ثغر عكا وَالْإِسْلَام قد اتَّسع مجاله وَتصرف أنصاره وَرِجَاله وَالْكفْر قد ثبتَتْ أوجاله وَدنت آجاله
قَالَ الْعِمَاد وَمن جملَة البشائر بكسرة حطين وَلما أحيط بالقوم آوى ملكهم إِلَى جبل يعصمه من العوم فأسمعه السَّيْف لَا عَاصِم الْيَوْم وَاسْتولى الخذلان عَلَيْهِم بأسرهم وَبَردت أَيدي الْمُؤمنِينَ بَحر قَتلهمْ وأسرهم وَلم يبْق لَهُم بَاقِيَة وغصت بقتلاهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة أَرض الله الواسعة ونار الله الحامية فَمَا يطَأ من يصل إِلَى خيمنا إِلَّا على رممهم البالية