الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الَّذِي أسسه دَاوُد وَأوصى ببنائه سُلَيْمَان وَلأَجل إجلاله أنزل الله سُبْحَانَهُ {سُبْحَانَ} وَهُوَ الَّذِي افتتحه الْفَارُوق وافتتحت بِهِ سُورَة من الْفرْقَان
فَمَا أَجله وأعظمه وأشرفه وأفخمه وَأَعلاهُ وَأَجْلَاهُ وأسماه وأسناه وأيمن بركاته وأبرك ميامنه وَأحسن حالاته وَأحلى محاسنه وأزين مباهجه وأبهج مزاينه وَقد أظهر الله طوله وَطوله بقوله {الَّذِي باركنا حوله} وَكم فِيهِ من الْآيَات الَّتِي أَرَاهَا الله نبيه وَجعل مسموعنا من فضائله مرئية وَوصف للسُّلْطَان من خَصَائِصه ومزاياه مَا وثق على استعادة آلائه مواثيقه وألاياه وَأقسم لَا يبرح حَتَّى يبر قسمه وَيرْفَع بأعلاه علمه وتخطو إِلَى زِيَارَة مَوضِع الْقدَم النَّبَوِيَّة قدمه ويصغي إِلَى صرخة الصَّخْرَة وَسَار واثقا بِكَمَال النُّصْرَة
فصل فِي نزُول السُّلْطَان على الْبَيْت الْمُقَدّس وحصره وَمَا كَانَ من أمره
قَالَ الْعِمَاد نزل السُّلْطَان على غربي الْقُدس يَوْم الْأَحَد خَامِس عشر
رَجَب وَكَانَ فِي الْقُدس حِينَئِذٍ من الفرنج سِتُّونَ ألف مقَاتل من فَارس وراجل وسائف ونابل فاستهدفوا للسهام واستوقفوا للحمام وَقَالُوا كل وَاحِد منا بِعشْرين وكل عشرَة بمئتين وَدون الْقِيَامَة تقوم الْقِيَامَة ولحب سلامتها تقلى السَّلامَة
وَأقَام السُّلْطَان خَمْسَة أَيَّام يَدُور حول الْبَلَد وَيقسم على حصاره أهل الْجلد وَأبْصر فِي شماليه أَرضًا رضيها للحصار متسعة لمجال الأسماع والأبصار مُمكنَة للدنو من النقب إِن صَار من حيّز الْأَنْصَار
فانتقل إِلَى الْمنزل الشمالي يَوْم الْجُمُعَة الْعشْرين من شهر رَجَب فَمَا أصبح يَوْم السبت إِلَّا على منجنيقات قد نصبت بِلَا نصب فدام الْقِتَال والنزال وفرسانهم فِي كل يَوْم يباشرون دون الباشورة أَمَام جموعهم المحصورة المحسورة المحشورة ويبرزون ويبارزون ويطاعنون ويحاجزون والمطيعون لله عَلَيْهِم يحملون وَمن دِمَائِهِمْ ينهلون وينهلون كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فيهم {يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله فيقتلون وَيقْتلُونَ} وَمِمَّنْ اسْتشْهد مبارزا وَلم يشْهد بَينه وَبَين الْجنَّة حاجزا الْأَمِير عز الدّين عِيسَى بن مَالك كَانَ أَبوهُ صَاحب قلعة جعبر فَإِنَّهُ حَاز بِشَهَادَتِهِ فِي الْمَحْشَر المفخر وَأكْثر وُرُود الْمَوْت إِلَى أَن ورد الْكَوْثَر وَكَانَ فِي كل يَوْم يفرس فوارس ويلقى ببشر وَجهه وُجُوه الْمنون العوابس فَاغْتَمَّ الْمُسلمُونَ من صرعته وَهَان عَلَيْهِم إِتْلَاف المهج بعد تلاف مهجته فَرَكبُوا أكتاف الرهج حَتَّى وصلوا إِلَى
الخَنْدَق فخرقوه وبددوا جمعه وفرقوه والتصقوا بالسور فنقبوه وعلقوه وحشوه وأحرقوه وَصَدقُوا وعد الله فِي الْقِتَال لأعدائه فصدقوه وَلما عضتهم الْحَرْب وَقع السُّور واتسع النقب فصعب عَلَيْهِم الهين وَهَان لنا الصعب عقدوا مَا بَينهم مشورة وقعدوا مَا بَينهم ضَرُورَة وَقَالُوا مالنا إِلَّا الاستئمان فقد أَخذ لنا بِخَطِّهِ الخذلان والحرمان
وأخرجوا كبراءهم ليؤخذ لَهُم الْأمان فَأبى السُّلْطَان إِلَّا قِتَالهمْ وتدميرهم واستئصالهم وَقَالَ مَا آخذ الْقُدس إِلَّا كَمَا أَخَذُوهُ من الْمُسلمين مُنْذُ إِحْدَى وَتِسْعين سنة فَإِنَّهُم استباحوا الْقَتْل وَلم يتْركُوا طرفا يستزير سنة فَأَنا أفني رِجَالهمْ قتلا وأحوي نِسَائِهِم سبيا فبرز ابْن بارزان ليأمن من السُّلْطَان بموثقه وَطلب الْأمان لِقَوْمِهِ وتمنع السُّلْطَان وتسامى فِي سومه وَقَالَ لَا أَمن لكم وَلَا أَمَان وَمَا هوانا إِلَّا أَن نديم لكم الهوان وَغدا نملككم قسرا ونوسعكم قتلا وأسرا ونسفك من الرِّجَال الدِّمَاء ونسلط على الذُّرِّيَّة وَالنِّسَاء السباء
وأبى فِي تأمينهم إِلَّا الإباء فتعرضوا للتضرع وخوفوا عَاقِبَة التسرع وَقَالُوا إِذا أيسنا من أمانكم وخفنا من سلطانكم وخبنا من إحسانكم وأيقنا أَنه لَا نجاة وَلَا نجاح وَلَا صلح وَلَا صَلَاح وَلَا سلم وَلَا سَلامَة وَلَا نعْمَة وَلَا كَرَامَة فَإنَّا نستقتل فنقاتل قتال الدَّم والندم ونقابل الْوُجُود بِالْعدمِ ونلقي أَنْفُسنَا على النَّار وَلَا نلقي بِأَيْدِينَا إِلَى التَّهْلُكَة والعار وَلَا يجرح منا وَاحِد حَتَّى يجرح عشرَة وَإِنَّا نحرق الدّور ونخرب الْقبَّة وونترك عَلَيْكُم فِي سبينَا السبة ونقلع الصَّخْرَة ونوجدكم عَلَيْهَا الْحَسْرَة وقبة الصَّخْرَة نرميها وَعين سلوان نعميها والمصانع نخسفها والمطالع نكسفها وَعِنْدنَا من الْمُسلمين خَمْسَة آلَاف أَسِير مَا بَين غَنِي وفقير وكبير وصغير فنبدأ
بِقَتْلِهِم وشت شملهم وَأما الْأَمْوَال فَأَنا نعطبها وَلَا نعطيها وَأما الذَّرَارِي فَإنَّا نسارع إِلَى إعدامها وَلَا نستبطيها فَلَا يحصل لكم سبي وَلَا يقبل لكم سعي وَلَا يسلم عمر وَلَا عمَارَة وَلَا نضار وَلَا نضارة وَلَا نسَاء وَلَا صبيان وَلَا جماد وَلَا حَيَوَان فَأَي فَائِدَة لكم فِي هَذَا الشُّح وكل خسر لكم فِي هَذَا الرِّبْح وَرب خيبة جَاءَت من رَجَاء النجح وَلَا يصلح السوء سوى الصُّلْح فَشَاور السُّلْطَان أَصْحَابه فَقيل لَهُ الصَّوَاب أَن نحسبهم أسارانا فنبيعهم نُفُوسهم ونعمم بصغار الْجِزْيَة رؤوسهم وَيدخل فِي القطيعة مرؤوسهم وَرَئِيسهمْ
وَاسْتقر بعد مراودات ومعاودات ومفاوضات وتفويضات وضراعات من الْقَوْم وشفاعات على قطيعة تكمل بهَا الْغِبْطَة وَيحصل مِنْهَا الحوطة اشْتَروا بهَا منا أنفسهم وَأَمْوَالهمْ وخلصوا بهَا رِجَالهمْ وَنِسَائِهِمْ وأطفالهم على أَنه من عجز بعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَمَّا لزمَه أَو امْتنع مِنْهُ وَمَا سلمه ضرب عَلَيْهِ الرّقّ وَثَبت فِي تملكه لنا الْحق وَهُوَ عَن كل رجل عشرَة دَنَانِير وَعَن كل امْرَأَة خَمْسَة دَنَانِير وَعَن كل صَغِيرَة أَو صَغِير دِينَارَانِ الذّكر وَالْأُنْثَى فِي ذَلِك سيان وَدخل ابْن بارزان والبطرك ومقدما الداوية والاسبتار فِي هَذَا الضَّمَان وبذل ابْن بارزان ثَلَاثِينَ ألف دِينَار عَن الْفُقَرَاء وَقَامَ بِالْأَدَاءِ وَلم ينكل عَن الْوَفَاء فَمن سلم خرج من بَيته أمنا وَلم يعد إِلَيْهِ سَاكِنا وسلموا الْبَلَد يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب على هَذِه القطيعة وردوه بالرغم رد الْغَصْب لَا الْوَدِيعَة وَكَانَ فِيهِ أَكثر من مئة ألف إِنْسَان من
رجال وَنسَاء وصبيان فأغلقت دونهم الْأَبْوَاب ورتب لعرضهم واستخراج مَا يلْزمهُم النواب ووكل بِكُل بَاب أَمِير ومقدم كَبِير يحصر الخارجين ويحصي الوالجين فَمن استخرج مِنْهُ خرج وَمن لم يقم بِمَا عَلَيْهِ قعد فِي الْحَبْس وَعدم الْفرج وَلَو حفظ ذَلِك المَال حق حفظه لفاز مِنْهُ بَيت المَال بأوفر حَظه لكنما تمّ التَّفْرِيط وَعم التَّخْلِيط فَكل من رشا مَشى وتنكب الْأُمَنَاء نهج الرشد بالرشا فَمنهمْ من أدلي من السُّور بالحبال وَمِنْهُم من حمل مخفيا فِي الرّحال وَمِنْهُم من غيرت لبسته فَخرج مخفيا فِي زِيّ الْجند وَمِنْهُم من وَقعت فِيهِ شَفَاعَة مطاعة لم تقَابل بِالرَّدِّ والثقات الأكابر استنابوا أصاغر فأقاموا فِي تقصيرهم المعاذر وقنوا لأَنْفُسِهِمْ الذَّخَائِر وأدعى مظفر الدّين كوكبوري أَن مِنْهُم جمَاعَة من أرمن الرها وعددها ألف نسمَة فَجعل إِلَيْهِ أمرهَا وَكَذَلِكَ صَاحب البيرة ادّعى بالعدة الْكَثِيرَة زهاء خمس مئة أرمني ذكر أَنهم من بَلَده وَأَن الْوَاصِل مِنْهُم إِلَى الْقُدس لأجل متعبده وَكَذَلِكَ كل من استوهب عدَّة استطلقها وَحصل لَهُ مرفقها ثمَّ تولى الْملك الْعَادِل استخراجهم وَقوم على الْأَدَاء منهاجهم وَسَهل على السُّلْطَان لفرط جوده الاستخراج والإخراج وتوفر لعامة النَّاس وخاصتهم ببهجة سماحه الابتهاج وَمَا فِينَا إِلَّا من فَازَ بأوفى نصيب ورعى مِنْهُ فِي مرعى خصيب
وَكَانَ السُّلْطَان قد رتب عدَّة دواوين فِي كل ديوَان مِنْهَا عدَّة من النواب المصريين وَفِيهِمْ من الشاميين فَمن أَخذ من أحد الدَّوَاوِين خطا بِالْأَدَاءِ انْطلق مَعَ الطُّلَقَاء بعد عرض خطه على من بِالْبَابِ من الْأُمَنَاء
والوكلاء فَذكر لي من لَا أَشك فِي مقاله أَنه كَانَ يحضر فِي الدِّيوَان ويطلع على حَاله فَرُبمَا كتبُوا خطا لمن نَقده فِي كيسهم وتلبس أَمر تلبيهم فَكَانُوا شُرَكَاء بَيت المَال لَا أمناءه وخانوه على مَا حصل لكل من الْغنى والنفع وَمَا أضرّ غناءه وَمَعَ ذَلِك حصل لبيت المَال مَا يُقَارب مئة ألف دِينَار وَبَقِي من بَقِي تَحت رق وإسار ينْتَظر بِهِ انْقِضَاء الْمدَّة المضروبة وَالْعجز عَن الْوَفَاء بالقطيعة الْمَطْلُوبَة
وَكَانَت بالقدس ملكة رُومِية متعبدة مترهبة فِي عبَادَة الصَّلِيب متصلبة وعَلى مصابها متلهبة وَفِي التَّمَسُّك بملتها متعصبة متعصبة أنفاسها متصاعدة للحزن وعبراتها متحدرة تحدر القطرات من المزن وَلها حَال وَمَال ومتاع وَأَشْيَاء وأشياع وَأَتْبَاع فعاذت بالسلطان فأعاذها وَمن عَلَيْهَا وعَلى كل من مَعهَا بالإفراج وَأذن فِي إِخْرَاج كل مَا لَهَا فِي الأكياس والإخراج وَأبقى عَلَيْهَا من مصوغات صلبانها الذهبية المجوهرة ونفائسها وكرائم خزائنها فَخرجت بِجَمِيعِ مَالهَا وحالها ونسائها ورجالها وأسفاطها وأعدالها والصناديق بأقفالها وتبعها من لم يكن من أتباعها فراحت فرحى وَإِن كَانَت من شجنها قرحى
وَكَذَلِكَ خرجت زَوْجَة الْملك المأسور كي وَهِي ابْنة الْملك أماري وَكَانَت مُقِيمَة فِي جوَار الْقُدس مَعَ مَالهَا من الخول والخدم والجواري فاستأذنت فِي الْإِلْمَام بزوجها وَكَانَ بقيده مُقيما فِي برج نابلس موكلا بِهِ ليَوْم وعد تسريحه فَأذن لَهَا فخلصت هِيَ وَمن تبعها وأقامت عِنْد زَوجهَا