الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السقطة إِلَّا ليوفر حظك من هَذِه الْغِبْطَة
فتوكل على الله عَازِمًا وَجَاز الْأُرْدُن حازما وأرعب جأش الْكفْر وَكسر جيوشه وثل عروشه وَوَقع فِي الشّرك إبرنس الكرك فوفى بِضَرْب عُنُقه نَذره
وَأما القومص فَإِنَّهُ أَخذ فِي الْمُلْتَقى بالهزيمة حذره وَلما وصل إِلَى طرابلس أخافه فِي مأمنه الْقدر وفجأة فِي صَفوه الكدر وتسلمه مَالك إِلَى سقر
فصل
هَذَا الَّذِي تقدم من وصف كسرة حطين هُوَ عين مَا ذكره عماد الدّين رحمه الله فِي كِتَابيه الْفَتْح والبرق اختصرته مِنْهُمَا وَهُوَ مطول فيهمَا وَقد وقفت على كَلَام لغيره فِي ذَلِك فَأَحْبَبْت إِيرَاده على وَجهه لما فِيهِ من شرح مَا تقدم وتقويته وَرُبمَا اشْتَمَل على زيادات من فَوَائِد تتَعَلَّق بذلك لم يتَعَرَّض لَهَا أَو مُخَالفَة لبَعض مَا ذكره
قَالَ القَاضِي أَبُو المحاسن بن شَدَّاد لما كَانَ الْمحرم سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ عزم السُّلْطَان على قصد الكرك فسير إِلَى حلب من يستحضر الْعَسْكَر وبرز من دمشق فِي منتصف الْمحرم فَسَار حَتَّى نزل بِأَرْض الكرك منتظرا لِاجْتِمَاع العساكر المصرية والشامية وَأمر العساكر المتواصلة إِلَيْهِ بشن الْغَارة على مَا فِي طريقهم من الْبِلَاد الساحلية فَفَعَلُوا ذَلِك وَأقَام رحمه الله بِأَرْض الكرك حَتَّى وصل الْحَاج الشَّامي إِلَى الشَّام وأمنوا
غائلة الْعَدو
وَوصل قفل مصر وَمَعَهُ بنت الْملك المظفر وَمَا كَانَ لَهُ بالديار المصرية وتأخرت عَنهُ العساكر الحلبية بِسَبَب اشتغالها بالفرنج بِأَرْض أنطاكية وبلاد ابْن لاون وَذَلِكَ أَنه كَانَ قد مَاتَ ووصى لِابْنِ أَخِيه لاون بِالْملكِ وَكَانَ الْملك المظفر بحماة وَبلغ الْخَبَر السُّلْطَان فَأمره بِالدُّخُولِ إِلَى بِلَاد الْعَدو وإخماد نائرته
فوصل تَقِيّ الدّين حلب وَنزل فِي دَار الْعَفِيف ابْن زُرَيْق وانتقل إِلَى دَار طمان وَفِي تَاسِع صفر خرج بعسكر حلب إِلَى حارم ليعلم الْعَدو أَن هَذَا الْجَانِب لَيْسَ بمهمل
وَعَاد السُّلْطَان فوصل إِلَى السوَاد وَنزل بعشترا سَابِع عشر ربيع الأول ولقيه وَلَده الْأَفْضَل ومظفر الدّين وَجَمِيع العساكر وَكَانَ تقدم إِلَى الْملك المظفر بمصالحة الْجَانِب الْحلَبِي مَعَ الفرنج ليتفرغ البال مَعَ الْعَدو فِي جَانب وَاحِد فَصَالحهُمْ وَتوجه إِلَى حماة يطْلب خدمَة السُّلْطَان للغزاة فسارت العساكر الشرقية فِي خدمته وهم عَسْكَر الْموصل مقدمهم مَسْعُود بن الزَّعْفَرَانِي وعسكر ماردين إِلَى أَن أَتَوا عشترا فَلَقِيَهُمْ السُّلْطَان وَأكْرمهمْ
ثمَّ عرض السُّلْطَان العساكر منتصف ربيع الآخر على تل يعرف بتل تسيل ورتبهم واندفع قَاصِدا إِلَى بِلَاد الْعَدو فِي وسط نَهَار الْجُمُعَة وَكَانَ أبدا يقْصد بوقعاته الْجمع لَا سِيمَا أَوْقَات صَلَاة الْجُمُعَة تبركا بِدُعَاء الخطباء على المنابر فَرُبمَا كَانَت أقرب إِلَى الْإِجَابَة
وبلغه أَن الفرنج اجْتَمعُوا فِي مرج صفورية بِأَرْض عكا فقصد
نحوهم للمصاف مَعَهم فَسَار وَنزل على بحيرة طبرية عِنْد قَرْيَة تسمى الصنبرة ورحل من هُنَاكَ وَنزل على غربي طبرية على سطح الْجَبَل لتعبئة الْحَرْب منتظرا أَن الفرنج إِذا بَلغهُمْ ذَلِك قصدوه فَلم يتحركوا من مَنْزِلَتهمْ فَنزل جَرِيدَة على طبرية وَترك الأطلاب على حَالهَا قبالة وَجه الْعَدو ونازل طبرية وزحف عَلَيْهَا فهجمها وَأَخذهَا فِي سَاعَة من نَهَار وامتدت الْأَيْدِي إِلَيْهَا بالنهب والأسر والحريق وَالْقَتْل واحتمت القلعة وَحدهَا
فَرَحل الفرنج وقصدوا طبرية للدَّفْع عَنْهَا فَأخْبرت الطَّلَائِع الإسلامية الْأُمَرَاء بحركة الفرنج فسيروا إِلَى السُّلْطَان من عرفه ذَلِك فَترك على طبرية من يحفظ قلعتها وَلحق الْعَسْكَر هُوَ وَمن مَعَه فَالتقى العسكران على سطح جبل طبرية الغربي مِنْهَا وَحَال اللَّيْل بَين الفئتين فباتتا على مصَاف شاكين فِي السِّلَاح إِلَى صَبِيحَة الْجُمُعَة فَركب العسكران وتصادما وَذَلِكَ بِأَرْض قَرْيَة تسمى اللوبيا وَلم تزل الْحَرْب إِلَى أَن حَال بَينهم الظلام
وَجرى فِي ذَلِك الْيَوْم من الوقائع الْعَظِيمَة والأمور الجسيمة مَا لم يحك عَمَّن تقدم وَبَات كل فريق فِي سلاحه ينْتَظر خَصمه فِي كل سَاعَة وَقد أقعده التَّعَب عَن النهوض حَتَّى كَانَ صباح السبت الَّذِي بورك فِيهِ فَطلب كل من الْفَرِيقَيْنِ مقَامه وَعلمت كل طَائِفَة أَن الْمَكْسُورَة مِنْهَا مدحورة الْجِنْس مَعْدُومَة النَّفس وَتحقّق الْمُسلمُونَ أَن من ورائهم الْأُرْدُن وَمن بَين أَيْديهم بِلَاد الْقَوْم وَلَا ينجيهم إِلَّا الله
وَكَانَ الله قد قدر نَصره للْمُسلمين فيسره وأجراه على وفْق مَا قدره
فَحملت الأطلاب الإسلامية من الجوانب وَحمل الْقلب وصاحوا صَيْحَة الرجل الْوَاحِد فَألْقى الله الرعب فِي قُلُوب الْكَافرين {وَكَانَ حَقًا علينا نصر الْمُؤمنِينَ}
وَكَانَ القومص ذكي الْقَوْم وألمعيهم فَرَأى أَمَارَات الخذلان قد نزلت بِأَهْل دينه وَلم يشْغلهُ ظن محاسنة جنسه عَن يقينه فهرب فِي أَوَائِل الْأَمر قبل اشتداده وَأخذ طَرِيقه نَحْو صور وَتَبعهُ جمَاعَة من الْمُسلمين فنجا وَحده وَأمن الْإِسْلَام كَيده واحتاط أهل الْإِسْلَام بِأَهْل الْكفْر والطغيان من كل جَانب وانهزمت مِنْهُم طَائِفَة فتبعها أبطال الْمُسلمين فَلم ينج مِنْهَا وَاحِد واعتصمت الطَّائِفَة الْأُخْرَى بتل حطين وَهِي قَرْيَة عِنْده وَعِنْدهَا قبر النَّبِي شُعَيْب عليه السلام فضايقهم الْمُسلمُونَ على التل وأشعلوا حَولهمْ النيرَان وقتلهم الْعَطش وضاق بهم الْأَمر حَتَّى كَانُوا يستسلمون للأسر خوفًا من الْقَتْل فَأسر مقدموهم وَقتل الْبَاقُونَ وأسروا وَكَانَ الْوَاحِد مِنْهُم الْعَظِيم يخلد إِلَى الْأسر خوفًا على نَفسه وَلَقَد حكى لي من أَثِق بقوله أَنه لَقِي بحوران شخصا وَاحِدًا وَمَعَهُ طُنب خيمة وَفِيه نَيف وَثَلَاثُونَ أَسِيرًا يجرهم وَحده لخذلان وَقع عَلَيْهِم
وَأما القومص الَّذِي هرب فَإِنَّهُ وصل إِلَى طرابلس وأصابه ذَات الْجنب فَأَهْلَكَهُ الله بهَا
وَأما مقدمو الإسبتارية والداوية فَإِن السُّلْطَان اخْتَار قَتلهمْ فَقتلُوا عَن بكرَة أَبِيهِم
وَأما البرنز أرناط فَكَانَ السُّلْطَان قد نذر أَنه إِن ظفر بِهِ قَتله وَذَلِكَ انه كَانَ عبر بِهِ بالشوبك قفل من الديار المصرية فِي حَالَة الصُّلْح فنزلوا عِنْده بالأمان فغدر بهم وقتلهم فناشدوه الله وَالصُّلْح الَّذِي بَينه وَبَين الْمُسلمين فَقَالَ مَا يتَضَمَّن الاستخفاف بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ قُولُوا لمحمدكم يخلصكم
وَبلغ ذَلِك السُّلْطَان فَحَمله الدّين وَالْحمية على أَنه نذر إِن ظفر بِهِ قَتله فَلَمَّا فتح الله عَلَيْهِ بالنصر وَالظفر جلس فِي دهليز الْخَيْمَة فَإِنَّهَا لم تكن نصبت وَالنَّاس يَتَقَرَّبُون إِلَيْهِ بالأسارى وبمن وجدوه من المقدمين ونصبت الْخَيْمَة وَجلسَ فَرحا مَسْرُورا شاكرا لما أنعم الله بِهِ عَلَيْهِ ثمَّ استحضر الْملك جفري وأخاه والبرنز أرناط وناول الْملك شربة من جلاب بثلج فَشرب مِنْهَا وَكَانَ على أَشد حَال من الْعَطش ثمَّ ناول بَعْضهَا البرنز أرناط فَقَالَ السُّلْطَان للترجمان قل للْملك أَنْت الَّذِي تسقيه وَإِلَّا أَنا ماسقيته وَكَانَ على جميل عَادَة الْعَرَب وكريم أَخْلَاقهم أَن الْأَسير إِذا أكل أَو شرب من مَال من أسره أَمن فقصد بذلك الجري على مَكَارِم الْأَخْلَاق ثمَّ أَمر بمسيرهم إِلَى مَوضِع عين لنزولهم فَمَضَوْا وأكلوا شَيْئا ثمَّ عَاد واستحضرهم وَلم يبْق عِنْده أحد سوى بعض الخدم فَأقْعدَ الْملك فِي الدهليز واستحضر البرنز أرناط وَأَوْقفهُ على مَا قَالَ وَقَالَ لَهُ هَا أَنا أنتصر لمُحَمد صلى الله عليه وسلم ثمَّ عرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام فَلم يفعل ثمَّ سل النمجاة وضربه بهَا فَحل كتفه وتمم عَلَيْهِ من حضر وَعجل الله بِرُوحِهِ إِلَى النَّار فَأخذ وَرمي على بَاب الْخَيْمَة فَلَمَّا رَآهُ الْملك قد أخرج على تِلْكَ الصُّورَة لم
يشك فِي أَنه يثني بِهِ فَاسْتَحْضرهُ وَطيب قلبه وَقَالَ لم تجر عَادَة الْمُلُوك أَن يقتلُوا الْمُلُوك وَأما هَذَا فَإِنَّهُ جَاوز حَده فَجرى مَا جرى
وَبَات النَّاس تِلْكَ اللَّيْلَة على أتم سرُور وأكمل حبور ترْتَفع أَصْوَاتهم بِالْحَمْد لله وَالشُّكْر لَهُ وَالتَّكْبِير والتهليل حَتَّى طلع الصُّبْح فِي يَوْم الْأَحَد فَنزل رحمه الله على طبرية وتسلم فِي بَقِيَّة ذَلِك الْيَوْم قلعتها وَأقَام بهَا إِلَى يَوْم الثُّلَاثَاء
قلت وَذكر مُحَمَّد بن القادسي فِي تَارِيخه أَنه ورد فِي هَذِه السّنة كتب إِلَى بَغْدَاد فِي وصف هَذِه الْوَقْعَة مِنْهَا كتاب من عبد الله بن أَحْمد الْمَقْدِسِي يَقُول فِيهِ كتبت هَذَا الْكتاب من عسقلان يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة وَفِيه
وَلَو حمدنا الله عز وجل طول أعمارنا مَا وَفينَا بِعشر معشار نعْمَته الَّتِي أنعم بهَا علينا من هَذَا الْفَتْح الْعَظِيم فَإنَّا خرجنَا إِلَى عَسْكَر صَلَاح الدّين وتلاحق الأجناد حَتَّى جَاءَ النَّاس من الْموصل وديار بكر وإربل فَجمع صَلَاح الدّين الْأُمَرَاء وَقَالَ هَذَا الْيَوْم الَّذِي كنت أنتظره وَقد جمع الله لنا العساكر وَأَنا رجل قد كَبرت وَمَا أَدْرِي مَتى أَجلي فاغتنموا هَذَا الْيَوْم وقاتلوا لله تَعَالَى لَا من أَجلي
فَاخْتَلَفُوا فِي الْجَواب وَكَانَ رَأْي أَكْثَرهم لِقَاء الْكفَّار فَعرض جنده ورتبهم وَجعل تَقِيّ الدّين فِي الميمنة ومظفر الدّين فِي الميسرة وَكَانَ هُوَ فِي الْقلب وَجعل بَقِيَّة الْعَسْكَر فِي الجناحين ثمَّ
سَارُوا على مَرَاتِبهمْ حَتَّى نزلُوا الأقحوانة فتركوا بهَا أثقالهم وَسَارُوا حَتَّى نزلُوا بِكفْر سبت فأقاموا يَوْمَيْنِ ينتظرون أَن يبرز لَهُم الْكفَّار وَكَانَ عَسْكَر الْكفَّار على صفورية فَلم يبرزوا فَعَاد صَلَاح الدّين حَتَّى نزل على طبرية فَتقدم فرسانه وحماته ورماته والنقابون فَدَخَلُوا حَتَّى الْحصن فَلَمَّا تمكن النقب مِنْهُ انهار من غير وقود نَار وَدخل الْمُسلمُونَ فانتهبوا يَوْم الْخَمِيس وَأَصْبحُوا فِي يَوْم الْجُمُعَة فشرعوا فِي نقب القلعة فَلَمَّا كَانَ وَقت الصَّلَاة جَاءَ الْخَبَر أَن الْكفَّار قد توجهوا إِلَيْنَا فارتحل صَلَاح الدّين على صفوفه فَلَقِيَهُمْ ثمَّ لم يزَالُوا يتقدمون حَتَّى صَار الْمُسلمُونَ محيطين بهم وَصَارَ قلب الْمُسلمين خَلفهم فتراموا سَاعَة وَبَات كل فريق على مَصَافهمْ ثمَّ أَصْبحُوا فَسَار الْكفَّار يقصدون طبرية والمسلمون حَولهمْ يلحون عَلَيْهِم بِالرَّمْي فاقتلع الْمُسلمُونَ مِنْهُم فوارس وَقتلُوا خيالة ورجالة فانحاز الْمُشْركُونَ إِلَى تل حطين فنزلوا عِنْده ونصبوا الْخيام وَأقَام النَّاس حَولهمْ إِلَى أَن انتصف النَّهَار وهبت الرِّيَاح فهجم الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم فَانْهَزَمُوا لَا يلوون على شَيْء وَلم يفلت مِنْهُم إِلَّا نَحْو من مئتين وَكَانُوا كَمَا قيل اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ ألفا وَقيل ثَلَاثَة وَعشْرين ألفا لم يتْركُوا فِي بِلَادهمْ من يقدر على الْقِتَال إِلَّا قَلِيلا
وَكَانَ الَّذِي أسر الْملك درباس الْكرْدِي وَغُلَام الْأَمِير إِبْرَاهِيم المهراني أسر الإبرنس وَقتل صَلَاح الدّين الإبرنس بِيَدِهِ لِأَنَّهُ كَانَ قد غدر وَأخذ قافلة من طَرِيق مصر
ثمَّ عَاد صَلَاح الدّين إِلَى طبرية فَأخذ قلعتها بالأمان ثمَّ ضرب أَعْنَاق الأسرى الَّذين كَانُوا فِي الْعَسْكَر وَأرْسل إِلَى دمشق فَضربت أَعْنَاق الَّذين بهَا مِنْهُم
قَالَ وَورد كتاب آخر فِيهِ هَذِه الْفتُوح الَّتِي مَا سمع بهَا قطّ وَهَذَا ذكر بَعْضهَا مُخْتَصرا مَعَ أَنه لَا يقدر أحد يصف ذَلِك لِأَن الْأَمر أكبر من ذَلِك الَّذِي يبشر بِهِ الْمُسلمُونَ أَن مَدِينَة طبرية فتحت بِالسَّيْفِ وَأخذت قلعتها بالأمان وَاجْتمعَ عَسْكَر الفرنج جَمِيعهم والتقوا بِالْمُسْلِمين عِنْد قبر شُعَيْب النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَقتل من الإفرنج ثَلَاثُونَ ألفا
وَكَانَ عدد الإفرنج ثَلَاثَة وَسِتِّينَ ألفا بَين فَارس وراجل وَأسر مِنْهُم ثَلَاثُونَ ألفا وَبلغ ثمن الْأَسير بِدِمَشْق ثَلَاثَة دَنَانِير وَاسْتغْنى عَسْكَر الْإِسْلَام من الأسرى وَالْأَمْوَال والغنائم بِحَيْثُ لَا يقدر أحد يصف ذَلِك وَمَا سلم من عَسْكَر الفرنج سوى قومص إطرابلس مَعَ أَرْبَعَة نفر وَهُوَ مَجْرُوح ثَلَاث جراحات
وَأخذ جَمِيع أُمَرَاء الفرنج وَكم قد سبي من النِّسَاء والأطفال يُبَاع الرجل وَزَوجته وَأَوْلَاده فِي المناداة بيعَة وَاحِدَة وَلَقَد بيع بحضوري رجل وَامْرَأَة وَخَمْسَة أَوْلَاد ثَلَاث بَنِينَ وابنتان بِثَمَانِينَ دِينَارا وَأخذ صَلِيب الصلبوت فعلق على قنطارية مُنَكسًا وَدخل بِهِ القَاضِي ابْن أبي عصرون إِلَى دمشق وكل يَوْم يرى من رُؤُوس الفرنج مثل الْبِطِّيخ وَأخذ من الْبَقر وَالْغنم وَالْخَيْل وَالْبِغَال مَا لم يَجِيء من يَشْتَرِيهَا من كَثْرَة السَّبي والغنائم
قَالَ وَفِي كتاب آخر وَكَانَ الفرنج خَمْسَة وَأَرْبَعين ألفا فَلم يسلم مِنْهُم سوى ألف وَقتل الْبَاقُونَ واستأسروهم وَكَذَلِكَ الْمُلُوك
قلت وَبَلغنِي أَن بعض فُقَرَاء الْعَسْكَر وَقع بِيَدِهِ أَسِير وَكَانَ مُحْتَاجا إِلَى نعل فَبَاعَهُ بهَا فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ أردْت أَن يذكر ذَلِك وَيُقَال بلغ من هوان أسرى الفرنج وكثرتهم أَن بيع وَاحِد مِنْهُم بنعل وَللَّه الْحَمد
وَمَا أحسن مَا قَالَ أَبُو الْحسن بن الذروي الْمصْرِيّ من قصيدة
(شرحت صَلَاح الدّين بالسمر والظبى
…
من الْمجد معنى كَانَ من قبل يغمض)
(وَمَا كَاد جَيش الرّوم يبرم كَيده
…
إِلَى أَن سرت مِنْك المهابة تنقض)
(حميت ثغور الْمُسلمين فَأَصْبَحت
…
ثغورا بأمواه الْحَدِيد تمضمض)
(أسرت مُلُوك الْكفْر حَتَّى تركته
…
وَمَا فِيهِ عرق عَن قوى النَّفس ينبض)
وَكَانَ القَاضِي الْفَاضِل غَائِبا عَن هَذِه الكسرة بِدِمَشْق فَلَمَّا بلغته كتب إِلَى السُّلْطَان لِيهن الْمولى أَن الله قد أَقَامَ بِهِ الدّين الْقيم وَأَنه كَمَا قيل أَصبَحت مولَايَ وَمولى كل مُسلم وَأَنه قد أَسْبغ عَلَيْهِ النعمتين الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة وأورثه الْملكَيْنِ ملك الدُّنْيَا وَملك الْآخِرَة
كتب الْمَمْلُوك هَذِه الْخدمَة والرؤوس إِلَى الْآن لم ترفع من سجودها والدموع لم تمسح من خدودها وَكلما فكر الْمَمْلُوك أَن البيع تعود وَهِي مَسَاجِد وَالْمَكَان الَّذِي كَانَ يُقَال فِيهِ إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة يُقَال الْيَوْم فِيهِ إِنَّه وَاحِد جدد لله شكرا تَارَة يفِيض من لِسَانه وَتارَة يفِيض من جفْنه وجزى يُوسُف خيرا عَن إِخْرَاجه من سجنه والمماليك ينتظرون أَمر الْمولى فَكل من أَرَادَ أَن يدْخل الْحمام بِدِمَشْق قد عول على دُخُول حمام طبرية
(تِلْكَ المكارم لَا قعبان من لبن
…
وَذَلِكَ الْفَتْح لَا عمان واليمن)
(وَذَلِكَ السَّيْف لَا سيف ابْن ذِي يزن
…
)
وللألسنة بعد فِي هَذَا الْفَتْح سيح طَوِيل وَقَول جليل
وللعماد رحمه الله قصائد يذكر فِيهَا وقْعَة حطين لم يذكر مِنْهَا شَيْئا هُنَا بل ذكر بَعْضهَا عِنْد ذكر فتح نابلس وَبَعضهَا عِنْد ذكر فتح الْقُدس فنقلت مِنْهَا إِلَى هَذَا الْمَكَان مَا يتَعَلَّق بِهِ وَالْبَاقِي يذكر فِي مَكَانَهُ إِن شَاءَ الله قَالَ
(يَا يَوْم حطين والأبطال عابسة
…
وبالمعجاجة وَجه الشَّمْس قد عبسا)
(رَأَيْت فِيهِ عَظِيم الْكفْر محتقرا
…
معفرا خَدّه وَالْأنف قد تعسا)
(يَا طهر سيف بَرى رَأس الْبُرْنُس فقد
…
أصَاب اعظم من بالشرك قد نجسا)
(وغاص إِذْ طَار ذَاك الرَّأْس فِي دَمه
…
كَأَنَّهُ ضفدع فِي المَاء قد غطسا)
(مَا زَالَ يعطس مزكوما بغدرته
…
وَالْقَتْل تسميت من بالغدر قد عطسا)
(عرى ظباه من الأغماد مهرقة
…
دَمًا من الشّرك رداها بِهِ وكسا)
(من سَيْفه فِي دِمَاء الْقَوْم منغمس
…
من كل من لم يزل فِي الْكفْر منغمسا)
(أفناهم قَتلهمْ والأسر فانتكسوا
…
وَبَيت كفرهم من خبثهمْ كنسا)
وَقَالَ أَيْضا يُخَاطب صَلَاح الدّين رحمه الله
(سحبت على الْأُرْدُن ردنا من القنا
…
ردينية ملدا وخطية ملسا)
(حططت على حطين قدر مُلُوكهمْ
…
وَلم تبْق من أَجنَاس كفرهم جِنْسا)
(وَنعم مجَال الْخَيل حطين لم تكن
…
معاركها للجرد ضرسا وَلَا دهسا)
(غَدَاة أسود الْحَرْب تعتقل القنا
…
أساود تبغي من نحور العدى نهسا)
(أتواشكس الْأَخْلَاق خشنا فلينت
…
حُدُود الرقَاق الخشن أخلاقها الشكسا)
(طردتهم فِي الْمُلْتَقى وعكستهم
…
مجيدا بِحكم الْعَزْم طردك والعكسا)
(فَكيف مكست الْمُشْركين رؤوسهم
…
ودأبك فِي الْإِحْسَان أَن تطلق المكسا)
(كسرتهم إِذْ صَحَّ عزمك فيهم
…
ونكستهم إِذْ صَار سهمهم نكسا)
(بواقعة رجت بهَا الأَرْض تَحْتهم
…
دمارا كَمَا بست جبالهم بسا)
(بطُون ذئاب الأَرْض صَارَت قُبُورهم
…
وَلم ترض أَرض أَن تكون لَهُم رمسا)
(وطارت على نَار المواضي فراشهم
…
ضلالا فزادت من خمودهم قبسا)
(وَقد خَشَعت أصوات أبطالها فَمَا
…
يعي السّمع إِلَّا من صليل الظبى همسا)
(تقاد بَدَأَ مَاء الدِّمَاء مُلُوكهمْ
…
أُسَارَى كسفن اليم نطت بهَا القلسا)
(سَبَايَا بِلَاد الله مَمْلُوءَة بهَا
…
وَقد شريت بخسا وَقد عرضت نخسا)
(يُطَاف بهَا الْأَسْوَاق لَا رَاغِب لَهَا
…
لكثرتها كم كَثْرَة توجب الوكسا)
(شكا يبسا رَأس الْبُرْنُس الَّذِي بِهِ
…
تندى حسام حاسم ذَلِك اليبسا)
(حسا دَمه ماضي الغرار لغدره
…
وَمَا كَانَ لَوْلَا غدره دَمه يحسى)
(فَللَّه مَا أهْدى يدا فتكت بِهِ
…
وأطهر سَيْفا معدما رجسه النجسا)
(نسفت بِهِ رَأس الْبُرْنُس بضربة
…
فَأشبه رَأْسِي رَأسه العهن والبرسا)
(تبوغ فِي أوداجه دم بغيه
…
فصَال عَلَيْهِ السَّيْف يلحسه لحسا)
(بعثت أَمَام أمة النَّار نَحْوهَا
…
إمَامهمْ أرناطها ذَلِك الجبسا)
(وَللَّه نَص النَّصْر جَاءَ لنصله
…
فَلَا قونسا أبقى لرأس وَلَا قنسا)
(حكى عنق الداوي صل بضربة
…
طرير الشبا عودا بمضرابه حسا)
(أيوم وغى يَدعُوهُ أم يَوْم نائل
…
وَأَنت وهبت الْغَانِمين بِهِ الخمسا)
(وَقد طَابَ ريانا على طبرية
…
فيا طيبها ريا وَيَا حسنها مرسى)
وللشهاب فتيَان الشاغوري من قصيدة سَيَأْتِي بَعْضهَا فِي مدح صَلَاح الدّين رَحمَه الله
(جَاشَتْ جيوش الشّرك يَوْم لقيتهم
…
يتدامرون على متون الضمر)
(أوردت أَطْرَاف الرماح صُدُورهمْ
…
فولغن فِي علق النجيع الْأَحْمَر)
(فهناك لم ير غير نجم مقبل
…
فِي إِثْر عفريت رجيم مُدبر)
(فَمن الَّذِي من جيشهم لم يخترم
…
وَمن الَّذِي من جَمِيعهم لم يؤسر)
(حَتَّى لقد بِيعَتْ عقائل أرهقت
…
بِالسَّبْيِ بِالثّمن الأخس الأحقر)
(سقت المماليك الْكِرَام مُلُوكهمْ
…
كأسا بِهِ سقت اللَّئِيم الهنفري)
(وعجمت عود صليبهم فَكَسرته
…
وَسوَاك ألفاه صَلِيب المكسر)
(أغْلى الأداهم من أسرت وأرخصت
…
بيض الصوارم من نهاب الْعَسْكَر)
(وَجعلت شَرق الأَرْض يحْسد غربها
…
بك فَهُوَ دَاع دَعْوَة الْمُسْتَنْصر)
(لَا يعدمنك الْمُسلمُونَ فكم يَد
…
أوليتهم معروفها لم يُنكر)
(أمنت سربهم وصنت حريمهم
…
ودرأت عَنْهُم قاصمات الْأَظْهر)
(مَا إِن رآك الله إِلَّا آمرا
…
فيهم بِمَعْرُوف ومنكر مُنكر)
(متواضعا لله جل جلاله
…
وَبِك اضمحلت سطوة المتكبر)
(لم تخل سمعا من هناء مهنئ
…
للْمُسلمين وَمن سَماع مُبشر)
(واستعظم الْأَخْبَار عَنْك معاشر
…
فاستصغروا مَا استعظموا بالمخبر)
(مَضَت الْمُلُوك وَلم تنَلْ عشر الَّذِي
…
أُوتِيتهُ من منجح أَو مفخر)
وَقَالَ أَبُو الْحسن عَليّ بن الساعاتي فِي فتح طبرية
(جلت عزماتك الْفَتْح المبينا
…
فقد قرت عُيُون المؤمنينا)
(رددت أخيذة الْإِسْلَام لما
…
غَدا صرف الْقَضَاء بهَا ضمينا)
(وَهَان بك الصَّلِيب وَكَانَ قدما
…
يعز على العوالي أَن يهونا)
(يُقَاتل كل ذِي ملك رِيَاء
…
وَأَنت تقَاتل الْأَعْدَاء دينا)
(غَدَتْ فِي وجنة الْأَيَّام خالا
…
وَفِي جيد الْعلَا عقدا ثمينا)
(فيالله كم سرت قلوبا
…
ويالله كم أبكت عيُونا)
(وَمَا طبرية إِلَّا هدي
…
ترفع عَن أكف اللامسينا)
(حصان الذيل لم تقذف بِسوء
…
وسل عَنْهَا اللَّيَالِي والسنينا)
(فضضت ختامها قسرا وَمن ذَا
…
يصد اللَّيْث أَن يلج العرينا)
(لقد أنكحتها صم العوالي
…
فَكَانَ نتاجها الْحَرْب الزبونا)
(منال بذ أهل الأَرْض طرا
…
سواك وَمَعْقِل أعيا القرونا)
(قست حَتَّى رَأَتْ كُفؤًا فَلَانَتْ
…
وَغَايَة كل قَاس أَن يلينا)
(قضيت فَرِيضَة الْإِسْلَام مِنْهَا
…
وصدقت الْأَمَانِي والظنونا)
(تهز معاطف الْقُدس ابتهاجا
…
وترضي عَنْك مَكَّة والحجونا)
(فَلَو أَن الجماد يُطيق نطقا
…
لنادتك ادخلوها آمنينا)
(جعلت صباح أهليها ظلاما
…
وأبدلت الزئير بهَا أنينا)
(تخال حماة حوزتها نسَاء
…
بموضون الْحَدِيد مقنعينا)
(لبيضك فِي جماجمهم غناء
…
لذيذ علم الطير الحنينا)
(تميل إِلَى المثقفة العوالي
…
فَهَل أمست رماحا أم غصونا)
(يكَاد النَّقْع يذهلها فلولا
…
بروق القاضبات لما هدينَا)
(فكم حازت قدود قناك مِنْهَا
…
قدودا كالقنا لونا ولينا)
(وغيدا كالجآذر آنسات
…
كغيد نداك أَبْكَارًا وعونا)
(وَلما باكرتها مِنْك نعمى
…
بنان تفضج الْغَيْث الهتونا)
(أعدت بهَا اللَّيَالِي وَهِي بيض
…
وَقد كَانَت بهَا الْأَيَّام جونا)
(فَلَيْسَ بعادم مرعى خصيبا
…
أَخُو سغب وَلَا مَاء معينا)
(فَلَا عدم الشَّام وساكنوه
…
ظبى تشفي بهَا الدَّاء الدفينا)
(سهاد جفونها فِي كل فتح
…
سهاد يمنح الغمض الجفونا)
(فألمم بالسواحل فَهِيَ صور
…
إِلَيْك وَألْحق الْهَام المتونا)
(فَقلب الْقُدس مسرور وَلَوْلَا
…
سطاك لَكَانَ مكتئبا حَزينًا)
(أدرت على الفرنج وَقد تلاقت
…
جموعهم عَلَيْك رحى طحونا)
(فَفِي بيسان ذاقوا مِنْك بؤسا
…
وَفِي صفد أتوك مصفدينا)
(لقد جَاءَتْهُم الْأَحْدَاث جمعا
…
كَأَن صروفها كَانَت كمينا)
(وخانهم الزَّمَان وَلَا ملام
…
فلست بمبغض زَمنا خؤونا)
(لقد جردت عزما ناصريا
…
يحدث عَن سناه طور سينا)
(فَكنت كيوسف الصّديق حَقًا
…
لَهُ هوت الْكَوَاكِب ساجدينا)
(لقد أَتعبت من طلب الْمَعَالِي
…
وحاول أَن يسوس المسلمينا)
(وَإِن تَكُ آخرا وخلاك ذمّ
…
فَإِن مُحَمَّد فِي الآخرينا)
قَالَ ابْن أبي طي حَدثنِي وَالِدي حميد النجار قَالَ كنت بالموصل فِي سنة خمس وَخمسين وَخمْس مئة فزرت الشَّيْخ عمر الملاء فَدخل إِلَيْهِ رجل فَقَالَ أَيهَا الشَّيْخ رَأَيْت البارحة فِي النّوم كَأَنِّي بِأَرْض غَرِيبَة لَا أعرفهَا وَكَأَنَّهَا مَمْلُوءَة بالخنازير وَكَأن رجلا بِيَدِهِ سيف وَهُوَ يقتل الْخَنَازِير وَالنَّاس ينظرُونَ إِلَيْهِ
فَقلت لرجل هَذَا عِيسَى ابْن مَرْيَم هَذَا الْمهْدي قَالَ لَا
فَقلت من هَذَا قَالَ هَذَا يُوسُف مَا زادني على ذَلِك
قَالَ فتعجبت الْجَمَاعَة من هَذِه الرُّؤْيَا وَقَالُوا إِنَّه سيقتل النَّصَارَى رجل يُقَال لَهُ يُوسُف
وحدست الْجَمَاعَة أَنه يُوسُف بن عبد الْمُؤمن صَاحب الْمغرب وَكَانَ المستنجد بِاللَّه قد ولي الْخلَافَة تِلْكَ السّنة فحدس بعض الْجَمَاعَة عَلَيْهِ قَالَ وأنسيت أَنا هَذِه الْوَاقِعَة فَلَمَّا كَانَت سنة كسرة حطين ذكرتها وَكَانَ يُوسُف الْملك النَّاصِر رحمه الله
قَالَ وحَدثني ظئر لي من نسَاء الحلبيين كَانَت تدَاخل أُخْت السُّلْطَان الْملك النَّاصِر قَالَت كَانَت وَالِدَة السُّلْطَان تخبر أَنَّهَا أتيت فِي نومها وَهِي حَامِل بالسلطان فَقيل لَهَا إِن فِي بَطْنك سَيْفا من سيوف الله تَعَالَى