المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثم دخلت سنة تسع وسبعين وخمس مئة - الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية - جـ ٣

[أبو شامة المقدسي]

فهرس الكتاب

- ‌ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسبعين وَخمْس مئة

- ‌ فصل

- ‌فصل كَالَّذي قبله فِي حوادث مُتَفَرِّقَة

- ‌فصل فِي عمَارَة حصن بَيت الأحزان ووقعة الهنفري

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِيمَا فعل مَعَ الفرنج فِي بَاقِي هَذِه السّنة وَأول الْأُخْرَى ووقعة مرج عُيُون

- ‌ثمَّ دخلت سنة خمس وَسبعين وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي تخريب حصن بَيت الأحزان وَذَلِكَ فِي شهر ربيع الأول

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة

- ‌ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسبعين وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي وَفَاة صَاحب الْموصل

- ‌فصل فِي وَفَاة شمس الدولة بن أَيُّوب أخي السُّلْطَان الْأَكْبَر وقدوم رسل الدِّيوَان بالتفويض إِلَى السُّلْطَان مَا طلبه

- ‌فصل فِي رُجُوع السُّلْطَان إِلَى مصر مرّة ثَانِيَة

- ‌ثمَّ دخلت سنة سبع وَسبعين وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي ذكر وَفَاة الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل بن نور الدّين رحمهمَا الله وَمَا تمّ فِي بِلَاده بعده وَذَلِكَ بحلب

- ‌فصل

- ‌فصل فِي أُمُور تتَعَلَّق بولاة الْيمن فِي هَذِه السّنة

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة

- ‌فصل فِي عود السُّلْطَان من الديار المصرية إِلَى الشَّام

- ‌ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسبعين وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي مسير السُّلْطَان إِلَى بِلَاد الْمشرق مرّة ثَانِيَة

- ‌فصل

- ‌فصل فِي وَفَاة فرخشاه بن شاهنشاه بن أَيُّوب

- ‌فصل فِي أَخذ السالكين الْبَحْر لقصد الْحجاز

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة

- ‌فصل فِي فتح آمد

- ‌ثمَّ دخلت سنة تسع وَسبعين وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي فتح حلب

- ‌فصل فِيمَا جرى بعد فتح حلب

- ‌فصل فِي رُجُوع السُّلْطَان إِلَى دمشق وَخُرُوجه مِنْهَا للغزاة بمخاضة الْأُرْدُن

- ‌فصل فِي ولَايَة الْملك الْعَادِل حلب وَولَايَة تَقِيّ الدّين مصر وَغير ذَلِك

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة

- ‌ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌فصل يحتوي على ذكر المفاضلة بَين مصر وَالشَّام والتعريف بِحَال زين الدّين الْوَاعِظ

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة

- ‌وَدخلت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل فِيمَا فعل السُّلْطَان فِي أَمر خلاط وميافارقين وَغَيرهمَا من الْبِلَاد

- ‌فصل فِي انتظام الصُّلْح مَعَ أهل الْموصل وَمرض السُّلْطَان المرضة الْمَشْهُورَة بحران

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة وَمن توفّي فِيهَا من الْأَعْيَان

- ‌ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي ذكر مَا استأنفه السُّلْطَان بِمصْر وَالشَّام من نقل الولايات بَين أَوْلَاده

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة

- ‌فصل

- ‌ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌فصل فِي فتح عكا وَغَيرهَا

- ‌فصل فِي فتح نابلس وَجُمْلَة من الْبِلَاد الساحلية بعد فتح عكا وطبرية وَذكر بعض كتب البشائر الشاهدة لذَلِك

- ‌فصل فِي فتح تبنين وصيدا وبيروت وجبيل وَغَيرهَا ومجيء المركيس إِلَى صور

- ‌فصل فِي فتح عسقلان وغزة والداروم وَغَيرهَا

- ‌فتح الْبَيْت الْمُقَدّس شرفه الله تَعَالَى

- ‌فصل

- ‌فصل فِي نزُول السُّلْطَان على الْبَيْت الْمُقَدّس وحصره وَمَا كَانَ من أمره

- ‌فصل فِي ذكر يَوْم الْفَتْح وَبَعض كتب البشائر إِلَى الْبِلَاد

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي صفة إِقَامَة الْجُمُعَة بالأقصى شرفه الله تَعَالَى فِي رَابِع شعْبَان ثامن يَوْم الْفَتْح

- ‌فَصْل

- ‌فصل فِي إِيرَاد مَا خطب بِهِ القَاضِي محيي الدّين رحمه الله

- ‌فصل فِي الْمِنْبَر

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي حِصَار صور وَفتح هونين وَغير ذَلِك

- ‌فصل فِي وُرُود رسل التهاني من الْآفَاق وقدوم الرَّسُول العاتب من الْعرَاق

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ

الفصل: ‌ثم دخلت سنة تسع وسبعين وخمس مئة

لَك جعَالَة نحملها إِلَيْك فِي كل سنة وترحل عَنَّا فعلنَا فَأجَاب إِلَى ذَلِك ورحل عَنْهُم بعد أَن احتوى عَلَيْهِم

قَالَ وتوافت إِلَيْهِ الفرسان من مصر حَتَّى صَار فِي ثَمَانِي مئة فَارس من الأتراك وَسَار من جبل نفوسة إِلَى قابس فِي يَوْمَيْنِ ثمَّ إِلَى قصر الرّوم وَغَيره من الْمَوَاضِع والقلاع فهجم وَنهب وغنم وَغلب وخافه أهل تِلْكَ النواحي

‌فصل فِي فتح آمد

قَالَ الْعِمَاد ثمَّ سَار السُّلْطَان إِلَى آمد وَنزل عَلَيْهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشر ذِي الْحجَّة بعد أَن اسْتَأْذن الْخَلِيفَة فِي ذَلِك فَأذن لَهُ فنصب السُّلْطَان عَلَيْهَا المجانيق وضايقهم وَطَالَ حصارهم ثمَّ أَخذهَا فِي السّنة الْآتِيَة كَمَا سَيَأْتِي

‌ثمَّ دخلت سنة تسع وَسبعين وَخمْس مئة

قَالَ ابْن أبي طي وَالسُّلْطَان منَازِل لآمد وَاشْتَدَّ قتال الْعَامَّة بهَا فَأمر السُّلْطَان بكتب رقاع فِيهَا إبراق وإرعاد ووعد وإيعاد إِن داموا على الْقِتَال ليستأصلن شأفتهم وَإِن اعتزلوا وسلموا الْبَلَد ليحسنن إِلَيْهِم وليضعن مَا عَلَيْهِم من الكلف والضرائب

وَأمر أَن تعلق تِلْكَ الرّقاع على السِّهَام

ص: 145

وترمى إِلَى آمد فَرمي من ذَلِك شَيْء كثير فكفوا عَن الْقِتَال وأشاروا على أبن نيسان بِطَلَب الْأمان فأومن على أَن يخرج بِجَمِيعِ أَمْوَاله دون الذَّخَائِر وَالسِّلَاح وأمهل ثَلَاثَة أَيَّام فَلَمَّا عول على نقل أَمْوَاله قعد بِهِ أَصْحَابه فَأرْسل إِلَى السُّلْطَان فأنفذ إِلَيْهِ غلمانا ودواب وَضربت لَهُ خيمة بِظَاهِر آمد وَجعل ينْقل مَا يقدر على نَقله من المَال والقماش وآلات الذَّهَب وَالْفِضَّة مُدَّة ثَلَاثَة أَيَّام بعالم عَظِيم كَانُوا يزِيدُونَ على ثَلَاث مئة إِنْسَان وَلم ينْقل عشر مَا كَانَ لَهُ وسرق من أَمْوَاله أَكثر مِمَّا حصل لَهُ لِأَنَّهُ مَا أخرج أحد شَيْئا إِلَّا وَأخذ نصفه أَو أَكثر

وَكَانَ ابْن نيسان قد حصل فِي آمد أَشْيَاء كَثِيرَة لَا يُمكن وصفهَا من الأسلحة وَالْأَمْوَال والغلال والكتب وَلما انْقَضى الْأَجَل أَخذ مَا حصل وَسَار قَاصِدا بِلَاد الرّوم وتسلم السُّلْطَان مَدِينَة آمد بأموالها وذخائرها وَنصب أَعْلَامه على سورها وَذَلِكَ فِي رَابِع عشر محرم وَوجد فِيهَا من الغلال وَالسِّلَاح وآلات الْحصار من المناجيق واللعب والعرادات أَشْيَاء كَثِيرَة لَا يُمكن أَن تُوجد فِي يلد مثلهَا وَوجد فِيهَا برج من أبراجها فِيهِ مئة ألف شمعة وبرج مَمْلُوء نصول النشاب وَأَشْيَاء يطول شرحها

وَكَانَ فِيهَا خزانَة كتب كَانَ فِيهَا ألف ألف وَأَرْبَعُونَ ألف كتاب فوهب السُّلْطَان الْكتب للْقَاضِي الْفَاضِل فانتخب مِنْهَا حمل سبعين جمازة وَيُقَال إِن ابْن قرا أرسلان بَاعَ من ذخائر آمد وخزائنها مِمَّا لَا حَاجَة لَهُ بِهِ مُدَّة سبع سِنِين حَتَّى

ص: 146

امْتَلَأت الأَرْض من ذخائرها

وَكَانَ السُّلْطَان لما تسلم آمد وَهبهَا لنُور الدّين مُحَمَّد بن قرا أرسلان بِمَا فِيهَا وَكتب لَهُ بهَا وبأعمالها توقيعا ووفى لَهُ بِمَا وعده بِهِ

وَقيل للسُّلْطَان إِنَّك وعدته بآمد وَمَا وعدته بِمَا فِيهَا من الْأَمْوَال والذخائر وفيهَا من الذَّخَائِر مَا يُسَاوِي ثَلَاثَة آلَاف ألف دِينَار

فَقَالَ لَا أضن عَلَيْهِ بِمَا فِيهَا من الْأَمْوَال فَإِنَّهُ قد صَار من أتباعنا وأصحابنا

قَالَ وَفِي فتح آمد يَقُول سعيد الْحلَبِي من قصيدة فِي السُّلْطَان

(رمى آمدا بالصافنات فأذعنت

لَهُ طَاعَة آكامها ووعورها)

(فَمَا عز ناديها وَلَا اعتاص ثغرها

وَلَا جاش طاميها وَلَا رد سورها)

(وأنزلت بالكره ابْن نيسان محرجا

كَمَا أنزل الزباء كرها قصيرها)

(نهدت لَهَا حَتَّى إِذا انْقَادَ صعبها

وقر على طول الشماس نفورها)

(سمحت بهَا جودا لمن ظلّ بُرْهَة

يغاورها طورا وطورا يغيرها)

(وملكت مَا ملكت مِنْهَا تخولا

وَكَانَ قَلِيلا فِي نداك كثيرها)

(وَإِن بلادا تجتديك مُلُوكهَا

لأجدر أَن يَرْجُو نداك فقيرها)

وَقَالَ ابْن سَعْدَان الْحلَبِي يذكر فتح آمد يَقُول

ص: 147

(فيا سَاكِني الرعناء من سفح آمد

أرى عارضا ينهل بِالْمَوْتِ هاطله)

(لَئِن غضِبت يَوْمًا عَلَيْكُم عروشها

فَهَذَا ابْن أَيُّوب وهذي معاقله)

(وَلَو رامها يَوْمًا سواهُ لَقطعت

أباهره من دونهَا وأباجله)

قلت وَقَالَ آخر

(لَو عرفت آمد من جاءها

يخْطب فِي الْإِسْلَام تَسْلِيمهَا)

(لصيرت أَعلَى شراريفها

لمن على الأَرْض سلاليمها)

قَالَ الْعِمَاد وَأما آمد فَحصل فتحهَا يَوْم الْأَحَد فِي الْعشْر الأول من الْمحرم وَكَانَ مُدبر آمد ابْن نيسان فَهُوَ رئيسها والقائم بأمرها وَكَانَ لآمد أَمِير قديم يُقَال لَهُ إيكلدي من أَيَّام السلاطين القدماء وَولده مَحْمُود شيخ كَبِير عِنْده يطعمهُ ويسقيه وَيَدعِي أَنه من غلمانه ومصطنعيه وَأَنه يحفظ الْبَلَد لَهُ وَأَنه لَا يغدر بِهِ وَلَا يُؤثر بدله وَإِذا جَاءَ رَسُول يحضرهُ عِنْد أميره ويسند مَا يدبره إِلَى تَدْبيره وَيَقُول إِنَّه غُلَام وَمَا مَعَه كَلَام

وحافظ على سر هَذِه السريرة وَأمن باحتياطه من جور الجيرة بل مَا مِنْهُم إِلَّا من يخَاف مكره ويحفظ مِنْهُ وَكره وينكر عرفه وَيعرف نكره

وَلم يزل الْحصار عَلَيْهِم إِلَى أَن أذعنوا للانقياد وَخرجت نِسَاؤُهُم سحرًا إِلَى المخيم الفاضلي يطلبن الْأمان فَأَمنَهُمْ السُّلْطَان على أَنهم

ص: 148

يخرجُون بعد ثَلَاث ويحملون مَا قدرُوا عَلَيْهِ من المَال والأثاث وَأَعَانَهُمْ السُّلْطَان على نقل الْأَمْوَال بالدواب وَالرِّجَال

فَلَمَّا انْقَضتْ مُدَّة الْأمان تسلمها السُّلْطَان وَسلمهَا إِلَى نور الدّين بن قرا أرسلان وأعمالها وَمَا فِيهَا

وَكَانَ السُّلْطَان وعده بهَا قبل ذَلِك فأنجز لَهُ الْوَعْد وَقد كَانَ أَبوهُ عاناها مُدَّة وتمناها فَمَا قدر عَلَيْهَا

ثمَّ وصف الْعِمَاد مَا كَانَ فِي قلعة آمد من الذَّخَائِر وَالْأَمْوَال والحواصل والأمتعة وَأَن أَصْحَابهَا لم يقدروا فِي تِلْكَ الْأَيَّام الثَّلَاثَة إِلَّا على تَحْويل مَا خف مِنْهَا وَاسْتغْنى المساعدون لَهُم فِي تحويلها إِلَيْهِم

وَكتب الْفَاضِل عَن السُّلْطَان إِلَى الدِّيوَان بِبَغْدَاد ورد إِلَى الْخَادِم التَّقْلِيد الشريف بِولَايَة آمد فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقرًّا عِنْده قَالَ هَذَا مفتاحها

وَسمع الْوَصَايَا فاستضاء بهَا فِي ظلمات الْقَصْد وَقَالَ هَذَا مصباحها

وتناوله فَمَا ظَنّه إِلَّا كتابا أنزل عَلَيْهِ من السَّمَاء فِي قرطاس وَمَا تيقنه إِلَّا نورا يمشي بِهِ فِي النَّاس فَسَار بِهِ وَلَوْلَا الْعَادة مَا استصحب جنديا وعول عَلَيْهِ وَلَوْلَا الزِّينَة مَا تقلد هنديا وطرق بَابه بإقليده ولولاه مَا اسطاع الْأَوْلِيَاء أَن يظهروه وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نقبا وناشد الْمُقِيم بتقليده ثَلَاثَة أَيَّام بِثَلَاث رسائل فَلَو كَانَ ذَا سمع أصغى وَلَو كَانَ ذَا لب لبّى

فَلَمَّا انْقَضتْ ضِيَافَة أَيَّام النذارة واحتقر من بآمد نَار الْحَرْب جَاهِلا أَن وقودها النَّاس

ص: 149

وَالْحِجَارَة عمد لَهَا فِي الْيَوْم الرَّابِع فزلزل عمدها وقاتلها فأزال جلدهَا وزيل جلمدها ثمَّ رأى أَن الشَّوْكَة رُبمَا أَصَابَت غير ذَات الشَّوْكَة من جندها وَأَن الْمُسلم قد آمنهُ الله من عَذَاب الْحَرِيق وَلَا يَأْمَن أَن تحرقه القسي من السِّهَام بشرار زندها فَعدل إِلَى منجنيقه الَّذِي أمل صَاحبهَا مِنْهُ منجى نيقه وَرَأى أَنه سَوط سطوته يضْرب الْحجر وَيضْرب عَن أَن يُبَاشر الْبشر وَتلك الأبرجة قد شمخت بأنفها ونأت بعطفها وتاهت على وامقها وغضت عين رامقها فَهِيَ فِي عِقَاب لوح الجو كالطائر إِلَّا أَن المنجنيق أغرى بهَا عقابيه وضغمها بمخلبيه وجثم أمامها يخاصمها وَقَامَ إِلَى الْغَيْر يحاكمها وَيضْرب بعصاه الْحجر فتنبجس من النقوب أعين لَا ترسل المَاء وَلَكِن تروي العطاش إِلَى منهل الْمَدِينَة وتنهل الظماء كَذَلِك أَيَّامًا حَتَّى محا من الشرفات شنب ثغرها وتناوبها كأس فتك تبين بهز أبراجها آثَار سكرها وعلت الْأَيْدِي الرامية لَهَا وغلت الْأَيْدِي المحامية عَنْهَا فَلم يبْق على سورها من يفتح جفنا وَشن المنجنيق عَلَيْهَا غارته إِلَى أَن صَارَت شنا وفضت صناديق الْحِجَارَة المقفلة وفصلت مِنْهَا أَعْضَاء السُّور الْمُتَّصِلَة وَوَجَب الْقِتَال لِئَلَّا يظنّ بالخادم أَلا جند لَهُ إِلَّا جندله فأوعز بالتقدم إِلَيْهَا وَدخُول النقابين فِيهَا فأثخنت جراحا بالنقوب وهتك الْحجاب من أضالع الْبَلَد فكاد يُوصل إِلَى مَا وَرَاءَهَا من الْقُلُوب وخشيت معرة الْجَيْش فِي

ص: 150

وَقت هجمه وروسل صَاحبهَا بِأَنَّهُ كشف لَهُ الخذلان حَتَّى بصر على شكه بِعِلْمِهِ فَأَعَادَ الرَّسُول مستكنفا بحجب النجَاة بإرسال ذَوَات الْحجاب وإبرازهن ومستكفا ليد الْقَتْل بِمن لم يكن جَوَابه غير إحرازه وإحرازهن وَلم يُعَارض فِي نَفسه وَلَا فِي قومه وَلَا فِي أَمْوَاله وَهِي مَا هِيَ ذخائر موفرة ومكاسب من أرباح مخسرة كَانَت الْحُقُوق عَنْهَا مذودة والآمال دونهَا مطرودة

وغض الْخَادِم كل عين عَن عينه وورقه وصانه فِي مخيمه من الْفقر صيانته فِي ذَات سوره وخندقه وَاسْتوْفى شَرط الْوَفَاء بِمَا أعطَاهُ من موثقه

وَهَذِه آمد فَهِيَ مَدِينَة ذكرهَا بَين الْعَالم متعالم وطالما صادم جَانبهَا من تقادم فَرجع مقدوعا أَنفه وَإِن كَانَ فحلا وقرعها فريد الهمة واستصحب حفلا وَرَأى حجرها فَقدر أَنه لَا يفك لَهُ حجر وسوادها فَحسب أَنه لَا ينسخه فجر وحمية أنف أنفها فَاعْتقد أَنه لَا يستجيب لزجر من مُلُوك كلهم طوى صَدره على الغليل إِلَى موردها ووقف بهَا وقُوف الْمُحب الْمسَائِل فَلم يفز بِمَا أمل من جَوَاب معهدها

ثمَّ ذكر تَسْلِيمهَا إِلَى ابْن قرا أرسلان ثمَّ قَالَ وَلما رأى صَاحب ميافارقين أَن أُخْت صاحبته قد ابتني بهَا خَافَ أَن يجمع لَهُ بَين الْأُخْتَيْنِ

ص: 151

فراسل ببذل الْخدمَة الَّتِي يكون فِيهَا لنُور الدّين ثَانِي اثْنَيْنِ

ثمَّ ذكر اجْتِمَاع المواصلة وشاه أرمن وَصَاحب ماردين وَصَاحب أرزن وبدليس وَغَيرهم على قصد الْخَادِم ونزلوا تَحت الْجَبَل فَلَمَّا صَحَّ عِنْدهم قَصده ظنُّوا أَنه وَاقع بهم فَأخذُوا أَعِنَّة الْفِرَار بِقُوَّة وَذكروا مَا فِي لِقَائِه من عوائد كَانَت عِنْدهم مخوفة وَعِنْده مرجوة وَسَار كل فريق على طَرِيق بنية عَدو وَفعل صديق وَالْخَادِم يَقُول مهما أَرَادَت فِيهِ الآراء الشَّرِيفَة أَتَاهُ وَمهما نَوَت فِيهِ من إِحْسَان قرب عَلَيْهِ مَا نَوَاه فَهَذِهِ آمد لما أرسل إِلَيْهِ مفتاحها وَهُوَ التَّقْلِيد فتحهَا وَهَذِه الْموصل لما تَأَخّر عَنهُ الْمِفْتَاح منعهَا وَمَا منحها وَلَو أعين بِهِ لعظمت على الْإِسْلَام عائدته وَظَهَرت فِي رفع مناره فَائِدَته لِأَن الْيَد كَانَت تكون بِهِ على عَدو الْحق وَاحِدَة والهمة لآلات النَّصْر واجدة

فَإِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يُمَيّز بَين أوليائه وَينظر أَيهمْ أبر بأوليائه وَأَشد على أعدائه وأقوم بِحقِّهِ وَحقّ آبَائِهِ وَأثبت رَأيا وروية فِي مَوَاقِف راياته ومجالس آرائه وَأعظم إقداما على ملحدين كلهم كَانَ ينازعه رِدَاء علائه وَكَانَ السَّابِق من وُلَاة الدولة العباسية قَاصِر السَّيْف عَن أَن نسيغ الغصة بمائه وأيهم أترك للْفراش الممهد وأهتك للطراف الممدد وأهجر فِي سَبِيل الله لراحه وأصبر فِي جِهَاد عَدو الله على مضض جراحه وأسلى عَن رَيْحَانَة فؤاد وَأكْثر ممارسة لحية وَاد فيختار لهَذِهِ الْأمة الَّتِي جعله الله لَهَا إِمَامًا وأميرا أسعد من أجْرى فِي طَاعَته ضامرا وملأ بولائه ضميرا فَمن عدله أَن يولي عَلَيْهَا الْعدْل الَّذِي يقر عينهَا وَمن فَضله أَن

ص: 152

لَا ينسى الْفضل بَينهَا

وَقد ورد ذَلِك المنشور بآمد فأورد الميسور بِأَن ورده المنشور الْمشَار إِلَيْهِ بالجزيرة وَمَا وسقت فَإِنَّهُ نور على نور وَمَا يحْسب الْخَادِم أَن كيدا لِلْعَدو الْكَافِر أكيد وَلَا جهدا لأهل الضلال أجهد وَلَا عَائِدَة بغيظ رُؤَسَاء أهل الْإِلْحَاد أَعُود من تفخيم أَمر الْخَادِم بمزيد الِاسْتِخْدَام وَإِلَّا فَلْينْظر هَل يشق على الْكفَّار مزِيد أحد سواهُ من وُلَاة الْإِسْلَام فَكل ذِي سُلْطَان هُوَ الطاعم الكاسي المحمي بالمناصل لَا الحامي المكفي لَا الْكَافِي يقْضِي عمره وَهُوَ لَا يشْهد الطعْن إِلَّا فِي الميدان وَلَا يتَمَثَّل الْهَام طائرا لَوْلَا الكرة فِي الصولجان وَلَا يشقى بسهمه إِلَّا قرطاسه وَلَا يحظى برفده إِلَّا أكياسه فَأَعَادَ الله بأمير الْمُؤمنِينَ هَذَا الدّين إِلَى معالم حَقه الأولى وَأطَال يَد سُلْطَانه الطُّولى إِلَى أَن تَأْخُذ الْأُمُور مآخذها عدلا واعتدالا وسلما وقتالا فتعود إِلَى الْإِسْلَام عوائد ارتياحه وَأَيَّام منصوره وسفاحه

وَمن كتاب آخر فاضلي عَن السُّلْطَان إِلَى وَزِير بَغْدَاد أصدر هَذِه الْوَسِيلَة إِلَى الْمجْلس السَّامِي معولا على كرمه فِيمَا حَملته من اللبانة مستغنيا بشهرة الْحَال المتجددة عَن الْإِبَانَة فَإِن آمد قصر الأمد فِي الظفر بهَا وإنقاذها من الْمَظَالِم الَّتِي كَانَت تلبس نَهَارهَا نقبة غيهبها وَسَار إِلَيْهَا بِبَقِيَّة العساكر يعد الَّذين سَارُوا إِلَى الشَّام وَأَقَامُوا قبالة الْكفَّار بعدة اقْتصر عَلَيْهَا أَكْثَرهَا من عَسَاكِر الديار المصرية على بعد تِلْكَ الديار ليظْهر

ص: 153

لمن نوى المناواة ويتبين لمن كَانَ على مُنَافَاة الملاقاة أَن رجَالًا من مصر فتحُوا آمد بعد سنة من البيكار وَبعد غزوتين قد طولع بهما فِي تواريخهما إِلَى الْكفَّار فَفِي ذَلِك مَا يغص الْحَاسِد ويغض الحاقد وَيعلم أَن فِي أَوْلِيَاء الدولة مَا رد كل مارد

فَلَمَّا حل بعقوتها أَرَادَ أَن يجْرِي الْأَمر على صَوَابه ويلج الْأَمر من بَابه وَأَن ينذر المغتر ويوقظه ويعظه بالْقَوْل الَّذِي رأى من الرِّفْق أَلا يغلظه فَبعث إِلَيْهِ أَن يهب من كراه ويعد لضيف التَّقْلِيد قراه وينجو بِنَفسِهِ منجى الذُّبَاب وَلَا يتَعَرَّض لِأَن يكون منتجى للذباب فَإِذا عريكته لَا تلين إِلَّا بالعراك وطريدته لَا تصاد إِلَّا بالأشراك فهناك رأى عَاجلا مَا هُنَاكَ وقوتل حق الْقِتَال فِي يَوْم وَاحِد عرف مَا بعده من الْأَيَّام وَوَقع الإشفاق من روعة الْحَرِيم وَسَفك الدَّم الْحَرَام وَنصب المنجنيقات فَأرْسل عارضها مطره وَفطر السُّور بقدرة الَّذِي فطره وخطب أمامها خطيب خطبه وأغمد الصارم اكْتِفَاء بضربه وترفه أهل الْحَرْب لحسن المناب مِنْهُ عَن حربه فَصَارَ فِي أقرب الْأَوْقَات جبلها كثيبا مهيلا وعفرت الأبرجة وَجها تربا وَنظرت القلعة نظرا كليلا حَتَّى إِذا أمكنت النقوب أَن تُؤْخَذ وكبد السُّور أَن تفلذ رأى الَّذِي لَا يصبر

ص: 154

على بعضه وَاعْتذر إِلَيْهِ الْبناء الَّذِي بِنَاء الْأَمر إِن لم يقضه فَلَا بُد من نقضه وَسَأَلَ فَأُجِيب إِلَى الْأمان على نَفسه وَخرج مِنْهَا وَإِنَّمَا أخرجه الظُّلم وَسلم وَهُوَ يرى السَّلامَة إِمَّا من الْحلم وَإِمَّا من الْحلم

ثمَّ قَالَ وَلَوْلَا تَقْلِيد أَمِير الْمُؤمنِينَ لما فتح لَهُ الْبَاب الَّذِي قرعه وَلَا أنزل عَلَيْهِ النَّصْر الَّذِي أنزل مَعَه وَلَا ساعد سَيْفا ساعد وَلَا نَالَتْ يَد مدت من مصر فَأخذت آمد وَمن بآمد وَلَو قبلت مَسْأَلته فِي تَقْلِيد الْموصل لَكَانَ ولجها وَلَو بدلجة ادلجها وَأَخذهَا وَلَو بحصاة نبذها وَهُوَ يتَوَقَّع فِي جَوَاب هَذَا الْفَتْح أَن يمد بِجَيْش هُوَ الْكَلَام ورماح هِيَ الأقلام وَنصر هُوَ وَافد الْأَمر وترشيد هُوَ فك الْحجر وَلَيْسَ ذَلِك لوسائل تقدّمت من دولة أَقَامَهَا بعد ميل عروشها وَلَا لدَعْوَة قَامَ فِيهَا بِمَا تصاغرت دونه همم جيوشها وَلَكِن لِأَن هَذِه الجزيرة الصَّغِيرَة مِنْهَا تنبعث الجريرة الْكَبِيرَة وَهِي دَار الْفرْقَة ومدار الشقة وَلَو انتظمت فِي السلك لانتظم جَمِيع عَسْكَر الْإِسْلَام فِي قتال الشّرك ولكان الْكفْر يلقِي بيدَيْهِ وينقلب على عَقِبَيْهِ ويغشاه الْإِسْلَام من خَلفه وَمن بَين يَدَيْهِ ويغزى من مصر برا وبحرا وَمن الشَّام سرا وجهرا وَمن الجزيرة مدا وجزرا وَيكون خادمه قد وَجب أَن يتَمَثَّل بقوله تَعَالَى {وَلَقَد مننا عَلَيْك مرّة أُخْرَى}

وَمن كتاب آخر كتَابنَا هَذَا وَالْمَدينَة قد فتحت أَبْوَابهَا وعذقت بدولتنا أَسبَابهَا وَتكلم لِسَان علمنَا فِي فَم قلعتها

وَبعد أَن لبستها دولتنا وَفينَا بموعد خلعتها فَالْحَمْد لله الَّذِي تتمّ النِّعْمَة بِحَمْدِهِ وينجح الأمل

ص: 155

بِقَصْدِهِ {مَا يفتح الله للنَّاس من رَحْمَة فَلَا مُمْسك لَهَا وَمَا يمسك فَلَا مُرْسل لَهُ من بعده}

قَالَ الْعِمَاد ثمَّ دخل السُّلْطَان مَدِينَة آمد وَجلسَ فِي دَار الْإِمَارَة وَحلف نور الدّين بن قرا أرسلان على أَنه يظْهر بهَا الْعدْل ويقمع الْجور وَيكون سَامِعًا مُطيعًا للسُّلْطَان من معاداة الْأَعْدَاء ومصافاة الخلان فِي كل وَقت وزمان وَأَنه مَتى استمده من آمد لقِتَال الفرنج وجده لذَلِك يقظان وَإِلَيْهِ عطشان

قَالَ وَكَانَ هَذَا نور الدّين فِي خدمَة السُّلْطَان بِنَفسِهِ وَعَسْكَره مُنْذُ عبر الْفُرَات ثمَّ إِن رسل مُلُوك الْأَطْرَاف اجْتمعت عِنْد السُّلْطَان كل يطْلب لصَاحبه الْأمان وَأَن يَتَّخِذهُ من جملَة الأعوان مِنْهُم صَاحب ماردين وَصَاحب ميافارقين وهما قَرِيبا ابْن قرا أرسلان فَرد السُّلْطَان كل رَسُول بسوله وَأجَاب إقباله بقبوله

ثمَّ رَحل السُّلْطَان من آمد وَعبر الْفُرَات لقصد حلب وولاياتها فتسلم فِي طَرِيقه تل خَالِد بِالرُّعْبِ وَلم يكن مِنْهُم بِالْقربِ فَأقر أَهلهَا فِيهَا ثمَّ نزل على عين تَابَ فبادر صَاحبهَا نَاصح الدّين مُحَمَّد بن خمارتكين إِلَى خدمَة السُّلْطَان فَأَعَادَهُ إِلَى مَكَانَهُ بِالْإِحْسَانِ

وَقَالَ ابْن أبي طي تسلم السُّلْطَان تل خَالِد فِي رَابِع عشر محرم

ص: 156