الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فِي الْمِنْبَر
قَالَ الْعِمَاد لما فتحنا الْقُدس أَمر بتعمير الْمِحْرَاب وترخيمه وتكميل حسنه وتتميمه وَوضع مِنْبَر رسمي فِي أول يَوْم قضى بِهِ الْفَرْض واحتيج بعد ذَلِك إِلَى مِنْبَر حسن رائق بحسنه لَائِق وبجماله شائق وبكماله فائق فَذكر السُّلْطَان الْمِنْبَر الَّذِي أنشأه الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي رحمه الله لبيت الْمُقَدّس قبل فَتحه بنيف وَعشْرين سنة وأودعه لَهُ من ذخائره عِنْد الله حَسَنَة فَأمر أَن يكْتب إِلَى حلب وَيطْلب فَحمل وَعمل على مَا أَمر بِهِ وامتثل فجَاء كالروض النَّضِير والوشي الحبير عديم النظير
وَكَانَ من حَدِيث إحداثه مَا ألهم الله نور الدّين رحمه الله لَا رتياح خاطره إِلَيْهِ وانبعاثه وَقد أوقع فِي روعه من النُّور الفائض من ينبوع ضلوعه أَن الْبَيْت الْمُقَدّس بعده سيفتح وَأَن صُدُور الْمُسلمين الحرجة لأَجله ستشرح وَهُوَ من أَوْلِيَاء الله الملهمين وعباده الْمُحدثين الْمُكرمين وَكَانَ بحلب نجار يعرف بالأختريني من ضَيْعَة تعرف بأخترين لم يلف لَهُ فِي براعته وصنعته قرين فَأمره نور الدّين بِعَمَل مِنْبَر لبيت الله الْمُقَدّس وَقَالَ لَهُ اجْتهد أَن تَأتي بِهِ على النَّعْت المهندم والنحت المهندس
فَجمع الصناع وَأحسن الإبداع وأتمه فِي سِنِين وَاسْتحق بِحسن إحسانه التحسين وَالنَّاس يَقُولُونَ هَذَا أَمر مُسْتَحِيل وَحكم مَاله دَلِيل وَذكر جميل وَأجر جزيل لَو كَانَ إِلَيْهِ سَبِيل وهيهات أَن يعود الْقُدس إِلَى الْإِسْلَام وَيَقْضِي الإصباح فِيهِ على الإظلام فَإِن الفرنج مستولون مستعلون ويكثرون على الْأَيَّام وَلَا يقلون أما ناصفونا على أَكثر أَعمال حوران وَقَابَلُوا بالْكفْر الْإِيمَان وَقد أعجزوا مُلُوك الْإِسْلَام إِلَى الْيَوْم فَمَا
أصعب وأتعب وقم الْقَوْم
وَيَقُول من لَهُ قُوَّة الْيَقِين وَعرف أَن الله كافل بنصره الدّين اصْبِرُوا فلسر هَذِه الْأمة نبأ وَهُوَ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {ويصنع الْفلك وَكلما مر عَلَيْهِ مَلأ}
وَلم يزل لنُور الدّين فِي قلبه من الدّين نور وَأثر تقواه لِلْمُتقين مأثور أزهد الْعباد وأعبد الزهاد وَمن الْأَوْلِيَاء الْأَبْرَار والأتقياء الأخيار وَقد نظر بِنور الفراسة أَن الْفَتْح قريب وَأَن الله لدعائه وَلَو بعد وَفَاته مُجيب ويزيده قُوَّة عزمه جدا وتمده بحياء الْحَيَاة الربانية مدا قد طهره الله من الْعَيْب وأطلعه على سر الْغَيْب ونزهه من الريب لنقاء الجيب وشملت الْإِسْلَام بعده بركته وختمت بافتتاح ملك صَلَاح الدّين مَمْلَكَته وَهُوَ الَّذِي رباه ولياه وأحبه وحباه وَهُوَ الَّذِي سنّ الْفَتْح وسنى النجح
وَاتفقَ أَن جَامع حلب فِي الْأَيَّام النورية احْتَرَقَ فاحتيج إِلَى مِنْبَر ينصب فنصب ذَلِك الْمِنْبَر وَحسن المنظر وَتَوَلَّى حِينَئِذٍ النجار عمل الْمِحْرَاب على الرقم وشابه الْمِحْرَاب الْمِنْبَر فِي الرَّسْم وَمن رأى حلب الْآن شَاهد مِنْهُ على مِثَال الْمِنْبَر الْقُدسِي الْإِحْسَان
وَلما فتح السُّلْطَان الْقُدس تقدم بِحمْلِهِ وَصَحَّ بِهِ فِي الْمِحْرَاب الْأَقْصَى اجْتِمَاع شَمله وَظهر سر الْكَرَامَة فِي فوز الْإِسْلَام بالسلامة وتناصرت الألسن بِالدُّعَاءِ لنُور الدّين بِالرَّحْمَةِ ولصلاح الدّين بالنصرة وَالنعْمَة
وَقَالَ الْعِمَاد فِي مَوضِع آخر من كتاب الْبَرْق وَكَانَ الْملك الْعَادِل
نور الدّين مَحْمُود بن زنكي رحمه الله فِي عَهده عرف بِنور فراسته فتح الْبَيْت الْمُقَدّس من بعده فَأمر فِي حلب باتخاذ مِنْبَر للقدس تَعب النجارون والصناع والمهندسون فِيهِ سِنِين وأبدعوا فِي تركيبه الإحكام والتزيين وَأنْفق فِي إبداع محاسنه وإبداء مزاينه ألوفا وَكَانَ لترديد النّظر فِيهِ على الْأَيَّام ألوفا وَبَقِي ذَلِك الْمِنْبَر بِجَامِع حلب مَنْصُوبًا سَيْفا فِي صوان الْحِفْظ مقروبا حَتَّى أَمر السُّلْطَان فِي هَذَا الْوَقْت بِالْوَفَاءِ بِالنذرِ النوري وَنقل الْمِنْبَر إِلَى مَوْضِعه الْقُدسِي فَعرفت بذلك كرامات نور الدّين الَّتِي أشرق نورها بعده بسنين وَكَانَ من الْمُحْسِنِينَ الَّذين قَالَ الله فيهم {وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ}
قلت وَهَذَا الَّذِي نسبه إِلَى نور الدّين رحمه الله من أَنه كَرَامَة من كراماته لَائِق بمحله ومنزلته من الدّين وَلَيْسَ بالبعيد من مثل ذَلِك
وَكَانَ رحمه الله قد بَدَت لَهُ مخايل ذَلِك بِمَا تسنى لَهُ من فتح الْبِلَاد الشامية والمصرية وقهر الْعَدو بَين يَدَيْهِ مرَارًا وَكَانَ فتح الْقُدس فِي همته من اول ملكه فَإِن لم يكن حصل لَهُ مُبَاشرَة فقد حصل لَهُ تسببا فَإِن الفاتحين لَهُ رحمهم الله بنوا على مَا أسسه لَهُم من الْملك وَالتَّدْبِير وهم أمراؤه وَأَتْبَاعه وأجناده وأشياعه
ثمَّ يحْتَمل أَن يكون رحمه الله وقف على مَا ذكره أَبُو الحكم بن برجان الأندلسي فِي تَفْسِيره فَإِنَّهُ أخبر عَن فتح الْقُدس فِي السّنة الَّتِي فتح فِيهَا وَعمر نور الدّين إِذْ ذَاك إِحْدَى عشرَة سنة وَقد رَأَيْت أَنا ذَلِك فِي
كِتَابه ذكر فِي تَفْسِير أول سُورَة الرّوم أَن الْبَيْت الْمُقَدّس استولت عَلَيْهِ الرّوم عَام سبع وَثَمَانِينَ وَأَرْبع مئة وَأَشَارَ إِلَى أَنه يبْقى بِأَيْدِيهِم إِلَى تَمام خمس مئة وَثَلَاث وَثَمَانِينَ سنة قَالَ وَنحن فِي عَام اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَخمْس مئة فَلم يستبعد نور الدّين رحمه الله لما وقف عَلَيْهِ أَن يَمْتَد عمره إِلَيْهِ فَهَيَّأَ أَسبَابه حَتَّى مِنْبَر الخطابة فِيهِ تقربا إِلَى الله تَعَالَى بِمَا يبديه من طَاعَته ويخفيه
وَهَذَا الَّذِي ذكره أَبُو الحكم الأندلسي فِي تَفْسِيره من عجائب مَا اتّفق لهَذِهِ الْأمة المرحومة وَقد تكلم عَلَيْهِ شَيخنَا أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد فِي تَفْسِيره الأول فَقَالَ وَقد وَقع فِي تَفْسِير أبي الحكم الأندلسي فِي أول سُورَة الرّوم إِخْبَار عَن فتح الْبَيْت الْمُقَدّس وَأَنه ينْزع من أَيدي النَّصَارَى سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة
قَالَ وَقَالَ لي بعض الْفُقَهَاء إِنَّه استخرج ذَلِك من فَاتِحَة السُّورَة قَالَ فَأخذت السُّورَة وكشفت عَن ذَلِك فَلم أره أَخذ ذَلِك من الْحُرُوف وَإِنَّمَا أَخذه فِيمَا زعم من قَوْله تَعَالَى {غلبت الرّوم فِي أدنى الأَرْض وهم من بعد غلبهم سيغلبون فِي بضع سِنِين} فَبنى الْأَمر على التَّارِيخ كَمَا يفعل المنجمون ثمَّ ذكر انهم يغلبُونَ فِي سنة كَذَا ويغلبون فِي سنة كَذَا على مَا تَقْتَضِيه دوائر التَّقْدِير
قَالَ وَهَذِه نجامة وَافَقت إِصَابَة إِن صَحَّ أَنه قَالَ ذَلِك قبل وُقُوعه