الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل يحتوي على ذكر المفاضلة بَين مصر وَالشَّام والتعريف بِحَال زين الدّين الْوَاعِظ
الَّذِي كَانَ صَلَاح الدّين يكاتبه بوقائعه وَهُوَ الَّذِي نم على عمَارَة وَأَصْحَابه بِمَا كَانُوا عزموا عَلَيْهِ من قلب الدولة الناصرية مصرية كَمَا سبق
وَسبب ذكره هُنَا أَنه هُوَ الَّذِي شرع فِي تَفْضِيل مصر بِكِتَاب كتبه إِلَى السُّلْطَان فِي هَذَا الْعَام وَقد تقدم للْقَاضِي الْفَاضِل كَلَام فِي تَفْضِيل مصر وذم الشَّام فِي أَوَائِل أَخْبَار سنة أَربع وَسبعين
وَله من كتاب آخر فدعونا من بعلبك الْبَلَد الأعسر وَمن رَأس عينهَا الضيقة المحجر وَمن ثلجها الَّذِي تنفش الْجبَال بعهنه وَمن بردهَا الَّذِي لَا يشفع الْجَمْر عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ وعودوا إِلَى مَا أترفتم فِيهِ ومساكنكم فَإِنَّهَا قد علتها وَحْشَة لقطينها فَسَأَلت مطالع دسوتها عَن أقمار سلاطينها واذْكُرُوا النّيل الَّذِي وفى لكم فِي هَذِه السّنة بنقصه وأبى أَن يكون مَاؤُهُ ذخيرة لغير جودكم الَّذِي أَحْصَاهُ الله وَلم نحصه واذْكُرُوا قُرْطهَا وَمَاء طوبتها فقد كَاد يُقيم الْحجَّة على ثلج الشَّام ووخمه ويتغلغل برده فيسري إِلَى قلب الغليل وَكَأَنَّهُ جَار على غير طَرِيق فَمه واذْكُرُوا صِحَة هوائها وتعصبه لأيامكم حَتَّى أنعم الله عَلَيْكُم قبل صِحَة أجسامنا بِصِحَّة أجسامكم
وَمن كتاب آخر وَأما أحوالي فإنني لم أزل ملتاثا مُنْذُ دخلت دمشق لتغير مَائِهَا وهوائها وأبنيتها وأبنائها وأوديتها وأودائها وقراها وقرنائها
وَمن لي بِمصْر فَإِنِّي أقنع بِمَا تنبته أرْضهَا من بقلها وقثائها وأبيع بردى وَمَا عساه بِشَربَة من مَائِهَا وأمتطي متن السَّيْف فِي هجر سوادها وسودائها فالطلل هائل وَلَا طائل وَمَا كُنَّا نسْمع بِهِ من تِلْكَ الْفَضَائِل متضائل حَتَّى إِذا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا فَهِيَ بِلَاد تستجدي وَلَا تجدي وَفعل المَال بهَا لَازم للتعدي
وَقَالَ الْعِمَاد هَذَا زين الدّين عَليّ بن نجا الْوَاعِظ من أهل دمشق وَمن سَاكِني مصر وَهُوَ ذُو لهجة فِي الْوَعْظ فصيحة وبهجة فِي الْفضل صَبِيحَة وَقبُول من الْقُلُوب وفصول فِي فصل الْخطاب للخطوب وَقد تأثث وتأثل وَقبل وَأَقْبل وَأحسن السُّلْطَان إِلَيْهِ بالأعطيات والإقطاعات وأجمل وَأَعْطَاهُ وأجزل وَأتم لَهُ مُرَاده وأكمل
وَكَانَ السُّلْطَان يستشيره ويروقه تَدْبيره ويميل إِلَيْهِ لقديم مَعْرفَته وكريم سجيته
وَوصل مِنْهُ فِي هَذِه السّنة كتاب يشوق إِلَى مصر ونيلها وَنَعِيمهَا وسلسبيلها وَدَار ملكهَا ودارة فلكها وبحرها وخليجها ونشرها وأريجها ومقسمها ومقياسها وإيناس ناسها وقصور معزها ومنازل عزها وجيزتها وجزيرتها وخيرتها وجيرتها وبركتها وبركتها وعدوتها وعدويتها وَتعلق الْقُلُوب بقليوبها واستلاب نفائس النُّفُوس بأسلوبها وملتقى الْبَحْرين ومرتقى الهرمين وروضة جنانها وجنة رضوانها ومساجدها وجوامعها ومشاهدها ومرابعها ونواظر بساتينها ومناظر ميادينها وساحات سواحلها وآيات فضائلها
ورحاب شوارعها وحلاب مشارعها وشروق غربيتها وغروب شرقيتها وَطيب طوبتها ومسار مسراها ومجرى فلكها وَمرْسَاهَا وعجائب بناها وغرائب مناها وَبَيَان عيانها بِلِسَان بلسانها وكياسة أخلاقها ونفاسة أعلاقها وشتاؤها فِي الْفَصْل ربيع نضير وغبارها عبير وماؤها كوثري وترابها عنبري
ثمَّ وصف الْعِمَاد غير ذَلِك ثمَّ قَالَ وَذكر زين الدّين الْوَاعِظ فِي كِتَابه مَا دلّ بِهِ على فَضِيلَة تِلْكَ الديار من الْآيَات وَالْأَخْبَار والآداب والْآثَار وَلَو ظَفرت بِهِ لأوردته بِلَفْظِهِ وجلوته بوعظه لكنني فقدته فعرمت مَعَانِيه وأحكمت مبانيه
قَالَ فَكتبت إِلَى زين الدّين الْوَاعِظ فِي جَوَابه عَن السُّلْطَان عرفنَا طيب الديار المصرية ورقة هوائها وَنحن نسلم لَهُ الْمَسْأَلَة فِي طيبها وتوفر نصِيبهَا ورقة نسيمها ورائق نسيبها لَكِن لَا ريب أَن الشَّام أفضل وَأَن أجر ساكنه أجزل وَأَن الْقُلُوب إِلَى قبله أميل وَأَن الزلَال الْبَارِد بِهِ أعل وأنهل وَأَن الْهَوَاء فِي صيفه وشتائه أعدل وان الزهر بِهِ أشب والنبت بِهِ أكهل وَأَن الْجمال فِيهِ أكمل والكمال فِيهِ أجمل وَأَن الْقلب بِهِ أروح وَالروح بِهِ أقبل ودمشق عقيلته الممشوطة وعقلته المنشوطة وحديقته الناضرة وحدقته الناظرة وَهِي عين إنسانه بل إِنْسَان عينه
وصيرفي نقوده فِي عين نضاره ولجينه فمستامها مستهام وَمَا على محبها ملام وَمَا فِي ربوتها رِيبَة وَفِي كل حبوة مِنْهَا جنيبة وَلكُل شائب من نورها شبيبه وعَلى كل ورقة وَرقا وعَلى كل معانقة من قدود البانات عنقًا وشادياتها على الأعواد تطري وتطرب وساجعاتها بالأوراد تعجم وتعرب وَكم فِيهَا من جوَار ساقيات وسواق جاريات وأثمار بِلَا أَثمَان وروح وَرَيْحَان وَفَاكِهَة ورمان وخيرات حسان وَجَمِيع مَا فِي سُورَة الرَّحْمَن وَنحن نتلو عَلَيْهَا آلاءها إِلَى أَن يرجع إِلَيْنَا فنتلو على منكرها {فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ} وَقد تمسكنا بِالْآيَةِ وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وغنينا بِهَذِهِ الْأَدِلَّة عَن الاختراع والابتداع أما أقسم الله تَعَالَى بِدِمَشْق فِي قَوْله تَعَالَى {والتين وَالزَّيْتُون} وَالْقسم من الله لَهَا أدل دَلِيل على فَضلهَا المصون أما قاول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (الشَّام خيرة الله من أرضه يَسُوق الله إِلَيْهَا خيرته من عباده)
وَهَذَا أوضح برهَان قَاطع على انه خير بِلَاده
أما الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم أَجمعُوا على اخْتِيَار السُّكْنَى بِالشَّام أما فتح دمشق بكر الْإِسْلَام وَمَا ننكر أَن الله تَعَالَى ذكر مصر وسماها أَرضًا فَمَا الذّكر وَالتَّسْمِيَة فِي فَضِيلَة الْقسم وَلَا الْإِخْبَار عَنْهَا دَلِيلا على الْكَرم وَإِنَّمَا اكْتسبت الْفَضِيلَة من الشَّام بِنَقْل يُوسُف الصّديق إِلَيْهَا عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام ثمَّ الْمقَام بِالشَّام أقرب للرباط وَأوجب للنشاط وَأجْمع للعساكر
السائرة من سَائِر الْجِهَات للْجِهَاد وَأَيْنَ قطوب المقطب من سناء سنير وَأَيْنَ ذرى منف المشرف من ذرْوَة الشّرف المنيف الْمُنِير وَأَيْنَ الْهَرم الْهَرم من الْحرم الْمُحْتَرَم وَبَينهمَا فرق مَا بَين الْفرق والقدم وَهل للنيل مَعَ طول نيله وَطول ذيله واستطالة سيله برد بردى فِي نقع الغليل ونفع العليل وَمَا لذاك الْكثير طلاوة هَذَا الْقَلِيل وسيل هَذَا السلسبيل وَإِذا فاخرنا بالجامع وقبة النسْر ظهر عِنْد ذَلِك قصر الْقصر على أَن بَاب الفراديس فِي الْحَقِيقَة بَاب النَّصْر وَمَا رَأس الطابية كباب الْجَابِيَة وَلَو كَانَ لناسها باناس لم يحتاجوا إِلَى قِيَاس المقياس وَنحن لَا نجفوا الوطن كَمَا جفاه وَلَا نأبى فَضله كَمَا أَبَاهُ وَحب الوطن من الْإِيمَان وَمَعَ هَذَا فَلَا ننكر أَن مصر إقليم عَظِيم الشان وَأَن مغلها كثير وماءها غزير وَأَن عدهَا نمير وَأَن ساكنها ملك أَو أَمِير وَلَكِن نقُول كَمَا قَالَ الْمجْلس السَّامِي الأجلي الفاضلي أسماه الله أَن دمشق تصلح أَن تكون بستانا لمصر
وَلَا شكّ أَن أحسن مَا فِي الْبِلَاد الْبُسْتَان
وزين الدّين وَفقه الله قد تعرض للشام فَلم يرض أَن يكون الْمسَاوِي حَتَّى شرع وعد الْمسَاوِي وَلَعَلَّه
يرجع إِلَى الْحق وَيُعِيد سعد إسعاده ووفاقه إِلَى الْأُفق إِن شَاءَ الله
قلت وَقد قيل فِي وصف دمشق شَيْء كثير من النّظم والنثر واشتمل مَا جمعته فِي أول تَارِيخ دمشق على قِطْعَة حَسَنَة كَبِيرَة من ذَلِك وصنف شَيخنَا أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد السخاوي رحمه الله مقامة تشْتَمل على الْمُفَاخَرَة بَين دمشق ومصر وَوصف كلا من البلدين بِمَا يَلِيق بِهِ وَكَانَ أول مَا قدم دمشق يذمها فِي مكاتباته إِلَى مصر نظما ونثرا حبا للوطن
ثمَّ لما اسْتَقر فِيهَا قرت عينه وفضلها فِي بعض مكاتباته وَقد ذكرت كل ذَلِك فِي جُزْء مُسْتَقل بِهِ
وَأما القَاضِي الْفَاضِل رحمه الله فقد قَالَ فِي بعض مكاتباته إِلَى مصر وَمِمَّا أسر بِهِ قلبه الْكَرِيم أنني وصلت إِلَى دمشق المحروسة حِين شرد بردهَا وَورد وردهَا واخضل نبتها وَحسن نعتها وَصفا مَاؤُهَا وضفا رداؤها وتغنت أطيارها وتبسمت أزهارها وافتر زهر أقحوانها فَحكى ثغور غزلانها ومالت قضب بانها فانثنت تثني ولدانها فَلَمَّا قربت من بساتينها ولاح لي فيح ميادينها وتوسطت جنَّة واديها وَرَأَيْت مَا أبدعه الله فِيهَا سَمِعت عِنْد ذَاك حَماما يغرد وهزارا يشدو ويردد وقمريا ينوح
وبلبلا بأشجانه يبوح فوقفت أثني على باريها وأكاد بالدمع أباريها أسفا على أَيَّام خلت بَعْدَمَا حلت مِنْهَا وفيهَا فَعِنْدَ ذَلِك عَايَنت روحي وَزَالَ أنيني ولوحي
(وَكَانَت النَّفس قد مَاتَت بغصتها
…
فَعِنْدَ ذَلِك عَادَتْ روحها فِيهَا)
قلت وَوصف أَيْضا دمشق من أهل مصر من يرجع إِلَى قَوْله ويرضى بِحكمِهِ لفضله وفصله وَهُوَ الْوَزير العادلي صفي الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عَليّ الْمَعْرُوف بِابْن شكر فِي كتاب البصائر لَهُ فَقَالَ دمشق نزهة الْأَبْصَار وعروس الْأَمْصَار ومجرى الْأَنْهَار ومغرس الْأَشْجَار ومعرس السفار ومعبد الْأَبْرَار المستغفرين بالأسحار ظلها الْمَمْدُود ومقامها الْمَحْمُود وماؤها المسكوب وعيبها المسلوب ومحاسنها الْمَجْمُوعَة وفضائلها المروية المسموعة ودرجتها المرفوعة وفاكهتها الْكَثِيرَة لَا مَقْطُوعَة وَلَا مَمْنُوعَة ونسيمها العليل وهجيرها الْأَصِيل وماؤها السلسبيل
وَقد شرفها الله تَعَالَى بِالذكر فِي كِتَابه وآوى إِلَيْهَا من اخْتَار من أنبيائه وأحبابه فَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابه الْمُبين {وآويناهما إِلَى ربوة ذَات قَرَار ومعين} وَلم تزل مقرّ البركات ومعدن النبوات
ومنزل الرسالات ومسكن أَرْبَاب الكرامات وَورد فِي تَفْضِيل بقعتها من الْأَخْبَار مَا لَا يشك فِي
صِحَة إِسْنَاده قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (الشَّام صفوة الله من بِلَاده فِيهَا خيرة الله من عباده)
وَنبهَ فِي خبر آخر على عظم فَضله فَقَالَ (إِن الله تكفل لي بِالشَّام وَأَهله) وَركب فِي سكناهَا أهل الْإِسْلَام بقوله عليه السلام الْبركَة فِي الشَّام
وَذهب بعض الْمُفَسّرين من أهل الِاجْتِهَاد إِلَى أَنَّهَا {إرم ذَات الْعِمَاد الَّتِي لم يخلق مثلهَا فِي الْبِلَاد}
قَالَ وَلما أنعم الله تَعَالَى عَليّ بإسكاني فِي فنائها وتخيري لبنائها ونزهني فِي أفنائها وآنسني بإنسانها مضيت إِلَى جَامعهَا الْجَامِع وشفعت بِإِدْرَاك الْبَصَر مِنْهَا إِدْرَاك المسامع فَلَمَّا وصلت إِلَيْهِ وحللت الحبى لَدَيْهِ رَأَيْت مرأى صغر الرِّوَايَة ورونقا حصل من الْحسن على النِّهَايَة ونورا يجلو الْأَبْصَار وجمعا يفضل على جموع الْأَمْصَار وَعبادَة مَوْصُولَة على الِاسْتِمْرَار وقرآنا يُتْلَى فِي آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار ومنقطعين إِلَيْهِ قد أَنْفقُوا فِي الِاعْتِكَاف بِهِ نفائس الْأَعْمَار
والبركات تحف بجوانبه والعلوم تنشر فِي زواياه ومحاربه وَالْأَحَادِيث عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تسند وتروى والمصاحف بَين أَيدي التالين تنشر وَلَا تطوى وأعلام الْبر فِيهِ ظَاهِرَة