الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ترويج البضائع الفاسدة
ثم ذكر الزنداني بعد ذلك (إن معطيات العلوم الحديثة ليست إلا تدعيماً للتوحيد وكشفاً لنوع جديد من الإعجاز القرآني)(1).
ومعلوم أن هذه دعوى زائفة ليست طريق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا من تبعهم بإحسان وإنما هي تطبيق عملي لحذو القذة بالقذة وشبراً بشبر وذراعاً بذراع، والويل لمن خُدِع.
وإنما حصلت الفتنة واستحكمت من جَعْلِ ما فُتِحَ على أعداء الله في هذا الزمان من الضلال علماً وأنه مرغوب فيه ومطلوب بل وينبغي المنافسة عليه، وعلى هذا المقتضى أُصِّلَتْ أصول وتفرّع لها فروع يطول الكلام في بيان ضلالها وإفسادها للملّة، فمن ذلك اللبس العظيم والضلال المبين الذي حصل للمسلمين من ثُنائيَّة أحدثها من لا يعرف الدين وهي:(الدين والعلم) ثم صار يُفضِّل في ذلك ويتكلم من لا يعرف الدين ولا العلم، لأن هؤلاء لو عرفوا العلم الحقيقي لميّزوه عن غيره وعظّموه أن يُرفع إلى غيره إلى مستواه كيف بما يضاده ولَوَ قّروه أن يُدَنّس بما يفسده من
(1) توحيد الخالق، ص153.
علوم الضلال.
كذلك لو علموا أنه هو العلم والعمل، ولا دين إلا بالعلم لكنه علم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاءه من ربه عز وجل.
وتأمل الآن ما سَمّوْه (العلاقة بين العلم والدين) وقد صَنّف بعضهم ذلك إلى ثلاث اتجاهات:
* الاتجاه الأول: ويرى أصحابه من المفكرين ضرورة "الفصل" بين الدين والعلم فصلاً تامًّا، بحيث يكون لكل منهما مجاله الخاص، وهذه الوضعية مرفوضة إسلاميًّا؛ لأن الإسلام هو الدين الشامل الذي يحتوي على الشخصية الإنسانية من جميع نواحيها.
* الاتجاه الثاني: ويرى أصحابه من الكتاب ضرورة "التوفيق" بين الدين والنتائج العلمية، وأن يكون المرجع في عملية التوفيق هذه إلى العِلم لا إلى الدين، وهو الاتجاه الذي تمارسه المسيحية جزئياً عندما يمن عليها الحظ بإمكانية هذا التوفيق.
* الاتجاه الثالث: ويرى مؤيّدوه ضرورة المواجهة بين الدين والفلسفة العلمية المتخفية وراء العلم - ليكون لأحدهما الكلمة العليا، والمسلمون يجعلون الكلمة العليا للدين، والتيار الإلحادي يجعل الكلمة العليا للعِلم. انتهى.
من كتاب (الفكر الإسلامي في مواجهة التيارات الفكرية المعاصرة).
هذا الخلط والخبط جاء بسبب ما سُمِّيَ بعلم وليس بعلم.
قال ابن تيمية رحمه الله: العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يستحق أن يسمى علماً، وما سواه إما أن يكون علماً فلا يكون نافعاً، وإما ألا يكون علماً وإن سُمِّي به، ولئن كان علماً نافعاً فلا بد أن يكون في ميراث محمد صلى الله عليه وسلم ما يُغني عنه مما هو مثله وخير منه. انتهى (1).
وانظر كيف جعل التوفيق بين الدين وما سمّاها: النتائج العلمية بأن يكون المرجع إلى العلم لا إلى الدين، وهذا إضلال مبين فقد أُمرنا برد ما تنازعنا فيه إلى الله والرسول ولأن كتاب الله وسنة نبيه هي العلم وفيهما العلم، ثم جعل فوز المسيحية الإذعان لما سمّاه العلم، وقد بينت في هذا الكتاب ما مع أرباب الكنائس من الحق وجَوْر من جعل كل ما عندهم باطلاً، ثم إن قياس المسلمين بالغربيين وكنائسهم ضلال.
أما قوله: عندما يمنّ عليها الحظ، فالحظ لا يمن وإنما يمن المنان سبحانه وبحمده.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في ردّه على أهل المنطق: فنحن قد بينا أن شريعة الإسلام ومعرفتها ليست موقوفة على شيء يُتعلَّم من غير المسلمين أصلاً وإن كان طريقاً صحيحاً. انتهى (2).
(1) الفتاوى 10/ 664.
(2)
الفتاوى 9/ 215.
تأمل قوله: وأن كان طريقاً صحيحاً فكيف إذا بطرق هؤلاء الضالة المضلة؟ فالحمد لله الذي بعث فينا رسولاً من أنفسنا يعلمنا الكتاب والحكمة ويزكينا.
قال صاحب كتاب توحيد الخالق:
إن قوة التصور هي مصدر الخيال الواسع في حياة الإنسان، ولا يمكن تصديق ما تأتي به قوة التصور إلا بعد فحصه جيداً أمام العقل، ومعظم الأوهام الباطلة التي تتحكم في حياة الناس تنبع من تصورات خاطئة، أما مجال عمل قوة التصور فهو مجال واسع جداً، يشمل جميع مجالات الحواس الخمس.
مَنِ القاضي الذي يفصل؟.
إذا فكرت في الوسائل السابقة، وجدت أن جميعها عرضة للوقوع في الخطأ، فكيف تميز الحق من الباطل؟ لقد جعل الله لنا عقلاً يميز الحق من الباطل، فهو إذن القاضي الذي تعرض عليه كل المعلومات القادمة من الحواس الخمس ومن قوة التصور، فيفصل في أمرها، وقد يقع العقل في خطأ لا من ذاته ولكن بسبب تغرير به أثناء عرض المعلومات، كأن تقدم له معلومات ناقصة أو مشوهة، فتأتي أحكامه ناقصة مغلوطة، مشوهة، ولكن ذلك لا يرجع إليه وإنما يرجع إلى مؤثرات خارجية، ولكن العقل
مع ذلك هو الأساس الذي يقوم عليه العلم الحق (1).
يقال لصاحب كتاب توحيد الخالق: بما أنك تقول: (ولا يمكن تصديق ما تأتي به قوة التصوّر إلا بعد فحصه جيداً أمام العقل) فمع أن كلامك هذا فيه نقص إلا أنك لو استعملته فيما أفرزَتْه أذهان الكفرة المظلمة لما تمادَيْت فيما تماديتَ فيه من الإنهماك بعلومهم واستحسانها وتحسينها.
إنك لو استعملت ميزانك هذا رغم نقصه وعجزه عن أداء النتائج المطلوبة لرَبَأت بنفسك عن مجارات أعداء الله فيما أضلهم به الشيطان الذي هو مُسْتَوْلٍ عليهم. قال تعالى: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ) الآية. يعني: استولى، فأيّ خير يُرجى منهم؟.
وأنا ذكرت نقص كلام الكتاب السابق لأنه أشاد بالعقل ورفع من شأنه ولم يذكر الرجوع للكتاب والسنة، لكن أتى بكلام مجمل وهو قوله:(لقد جعل الله لنا عقلاً يميز الحق من الباطل) وهذا لا يكفي. كيف وقد قال بعد ذلك رافعاً شأن العقل: (فهو إذن القاضي الذي تُعْرض عليه كل المعلومات القادمة من الحواس الخمس) قال: (ولكن العقل مع ذلك هو الأساس الذي يقوم عليه العلم بالحق).
(1) توحيد الخالق، (ص159، 160).
الحقيقة أن هذه إشادة بالعقل تُعَدِّيه طوْره وتتجاوز به حَدَّه، إذْ كماله الحقيقي أن يكون تابعاً لما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم محكّماً له في كل شيء وإلا حصل الضلال ولا بد.
ومما قال صاحب كتاب توحيد الخالق عن العقل في (ص161، 162) من كتابه: (قال: كما يعجز عن إدراك بداية الزمان أو يحيط بنهايته، وكذلك يكِلّ ويعجز عن إدراك نهاية المكان) انتهى كلامه.
هذا نصفه صحيح ونصفه غلط، فالعقل يعجز عن إدراك بداية الزمان ويعجز أيضاً عن الإحاطة بنهايته.
أما العجز عن إدراك نهاية المكان فليس هذا على إطلاقه، فأرباب العلم الحديث ومن قلدهم يقولون هذا الكلام باعتبار ما في خيالاتهم من سعة الكون التي لا نهاية لها وأنه مُرَكّب من كواكب وشموس وأقمار في فضاء لا ينتهي، فعلى مقتضى هذا المعتقد الضّال يعجز العقل عن إدراك نهاية المكان، وهذه عَدْوى أصابتْ المقلِّدة وسيأتي إن شاء الله الكلام على زعمهم أن الكوْن يتسع ويستدلون بقوله تعالى:(وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) وهو باطل وضلال، وقد فسر الآية المتأخرون على مقتضى نظريات الغرب الضالة والمضلة.
والمراد أن إدراك نهاية المكان ممكنة للعقل كما أن ذلك ورد في الشرع.
فنهاية الفضاء جرم السماء الدنيا المشاهدة ذات اللون الأزرق التي نشاهد فيها الشمس والقمر والنجوم وهذا الفضاء هو الذي ذكره الله في كتابه الكريم بقوله تعالى: (وَمَا بَيْنَهُمَا) حين يذكر السماء والأرض في مواضع، وليس ما تتخيّله أذهان الملاحدة المظلمة من أنه لا نهاية له، والأرض محدودة معروف شكلها وجوانبها من البراري والبحار والجبال.
وقد بيّنت ولله الحمد في (هداية الحيران) المسافة بين السماء والأرض على حسب اصطلاح أهل الوقت في تقدير المسافات، كما بينت المسافة بين الأرض وسطح السماء السابعة.
كذلك بينت ما فوق السماء السابعة وهي الجنة وأن فيها مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، كما ورد في الحديث الصحيح وأن فوق الجنة العرش، وهو سقف المخلوقات كلها وفوقه الرب عز وجل.
ثم إن صاحب كتاب توحيد الخالق في عامة كتابه هذا الذي سمّاه يتكلم عن العلوم الحديثة بطرقها الطويلة الدقيقة المخالفة للطريقة الفطرية السهلة الميَسّرة ويُقْحم آيات القرآن بين كلامه عن علومه الحديثة إقحاماً يستشهد بها بزعمه ويستدل على إعجاز القرآن.
وعلى كل حال فليست هذه مسالك المسلمين في معرفة كلام الله وبيانه، والذي يُوصَل إليه بسلوك طرقهم من صواب ينغمر ويتلاشى ويضمحل بجانب ما يستلزمه السالك من الضلال والانحراف.
وفي طريقة القرآن في النّدب للنظر بالآيات المشهودة تمام المعرفة وكمالها، ولولا حصول ذلك لما اختاره الله لنبيه وصفوة خلقه.
وصاحب كتاب توحيد الخالق بعلومه الحديثة يدعو إلى الله بزعمه ومعرفته ولقد تكلم عن العلم بالله (ص167) فذكر العقل وزعم أن علمنا بالله قائم على استنتاج الإيمان من مشاهدة المخلوقات، ويقول: فنحن قد علمنا بربنا بإدراك آثاره في مخلوقاته، ويذكر كلاماً طويلاً يحشر أثناءه الآيات حشراً متنافراً مع ما يذهب إليه.
ويقول: وإيمان المسلم بربه حقيقة تُعرف من استنتاج العقل وفهمه لآثار قدرة ربه في مخلوقاته، وكلامه ليس بالمسدَّد ولا الجيّد بل فيه تضليل فهو يميل إلى جانب النظر في معرفة الله على مقتضى العلوم الحديثة وطرقها، فهذا شَبَه من المتكلمين، وقد غلط هنا غلطاً فاحشاً حيث غَلَّبَ النظر وأهمل جانب الفطرة التي بها حاصلة معرفة الله.
أما النظر في المخلوقات بالتفكر والاعتبار على طريقة السلف فهو يزيد المعرفة والإيمان لأنه أصل، وقد وقفتُ على كلام كثير من سالكي
طرق العلوم الحديثة فرأيتهم يدعون إلى النظر كبداية لمعرفة الله والإيمان به بسلوك طرق العلوم الغربية، وعلمهم عن الفطرة لا يكاد يُذكر.
فمعرفة الله بل ومحبته فطرية والشريعة تكملها وتُفصّل وتبيّن ما لا تستقل الفطرة بتفصيله وبيانه.
ولقد جار أهل النظر في هذا الزمان على الفطرة وكادوا يهملون شأنها وذلك لغلبة جانب النظر على غير الطريقة السلفية فحصل بذلك ضلال عظيم. لأنه نظرٌ على مقتضى علوم الملاحدة وكشوفهم الضالة والمضلة.
وقد أمرنا صلى الله عليه وسلم بإتباعه ونهانا عن الإحداث، وقد قال مُرْسِلُه سبحانه:(وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا).