الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضلال في نشأة الكون
وفي صفحة 183 تكلم صاحب كتاب توحيد الخالق في كتابه تحت عنوان: (قدَّر فهدى) تكلم عن انفصال الأرض عما في السماء فقال: (فهدى الأرض عند انفصالها عما في السماء من أجسام أن تنفصل بالقدْر المناسب).
وقال أيضاً في نفس الصفحة: (إن انفصال الأرض عما في السماء كان وِفْق تقدير محكم) وقال في صفحة 342 في كتابه هذا تحت عنوان: (آيات صريحة تسبق العلوم في تقرير حقائق ثابتة) قال: انفصال الأرض: لقد ثبت لدى العلماء بصفة فعلية أن الأرض انفصلت عما في السماء).
يقال لصاحب كتاب توحيد الخالق: هؤلاء الذين تسميهم علماء لو أنزلتهم منزلتهم في القرآن (إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ)، لما أطلقت عليهم هذا الاسم بل تُقَيِّده بما يبينه فتقول: علماء الكفار الضلاّل، أو علماء الملاحدة ونحو ذلك، لأن هذا الإطلاق لا ينصرف إلا لعلماء الشريعة، ثم إن تعظيمكم لهم وإنزالكم إياهم في غير منازلهم أوْرَث ذلاً نفسياً ظهوره بَيِّن في نفوس أهل الوقت.
حيث صورتموهم لهم بصورة من يستحق المدح ويسْتوجب التعظيم إذ أن الله فتح عليهم العلم، بمخلوقاته بما لم يفتحه للمسلمين وهم أضل من الحمير، وكفى بهذا شراً.
والمراد كلامه عن الأرض وانفصالها عما في السماء كما زعم، وقد ذكر ذلك أيضاً في كتابه الذي سماه (العلم طريق الإيمان)، وهو إنما ينقل من الملاحدة وكأن كلامهم قرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فهو يعتقد ويُقرّر نظريات انفصال الأرض عما في السماء مما يسميه الملاحدة (السديم)، وذكر أن انفصال الأرض والكواكب من غازات وأتربة كانت تدور في الكون وذلك في كتابه الذي سماه:(العلم طريق الإيمان) ص42.
لقد خاض صاحب كتاب توحيد الخالق فيما خاض به الملاحدة في شأن المخلوقات وبدايتها ونهايتها ولكن خوض ثماره الضلال والإضلال وعاقبته لا شك خسران وَوَبال، لأنه سَيْر في ظلمات لا يهتدي السالك فيها ولا ينجو من آفاتها، وإن كثيرين سلكوا تلك الطرق المظلمة فأظلمت قلوبهم وضلّت عن معرفة خالقهم فأنكروه وجحدوه.
وكثيرون من أهل هذه الطريق صار أحسن أحوالهم الشك، وحسْبك به مصيبة، ويأتي إن شاء الله الدليل على بداية المخلوقات وأنها ضد
كلامهم في قوله تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) الآيات.
إن ما خاضوا به من بداية الكون من أول خطوة باطل وكذب وضلال مبين، ويكفي قول صاحب كتاب توحيد الخالق:(إن نشأة الأرض والكواكب كانت منذ 4.5 بليون سنة تقريباً)(1).
نحن ولله الحمد لا نقبل مثل هذه الإحالات الكاذبة من أعداء الله ورسوله ولسنا بحاجة إلى أن يخبرونا عن بداية الكون ولا نهايته لأن الكفار وكفرهم شر والشر لا يأتي بالخير، ولقد أضلّهم إبليس بمكره وكيْده حتى عن إثبات وجود الخالق سبحانه بسبب هذه العلوم، وهم لو أثبتوا وجوده ما خرجوا عن دين أبي جهل.
نحن عندنا كلام ربنا خالق الكون ومُبْدعه وقد أخبرنا عن بداية الكون ونهايته بما يكفينا ويغنينا عن دَجَل الدجاجلة وخوض الخائضين مما يزيدنا إيماناً بربنا وعلماً بكمال قدرته وحكمته وجميع أسمائه الحسنى من لطفه بعباده بما خلق لهم وسَخّر.
لم يُحْوِجْنا الله ولا نبينا صلى الله عليه وسلم للكفار، فالعلم الذي يستحق أن يسمى علماً عندنا وهو وحي ربنا خالق الكون العليم به سبحانه، والحقيقة أن ما تهوّك به المتهوكون من هذا العلم الحديث وكشوفاته ما هو إلا فتنة.
(1) العلم طريق الإيمان، (ص42).
لقد ذكر الله في كتابه بداية المخلوقات وأنها مادة وهي (الدخان) وقد ذكرت في (هداية الحيران) كلام شيخ الإسلام في بداية المخلوقات أنقله هنا:
قال رحمه الله: وأهل الملل متفقون على أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام وخلق ذلك من مادة كانت موجودة قبل هذه السموات والأرض وهو (الدخان) الذي هو البخار كما قال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) وهذا الدخان هو بخار الماء الذي كان حينئذ موجود كما جاءت بذلك الآثار عن الصحابة والتابعين وكما عليه أهل الكتاب (1).
فليحذر المسلم من ملايين وبلايين الدهرية المعطلة هي والله متاهة وضلالة وخيالات مضلمة، وإنك لا تجد في كلام السلف هذه الخيالات التي هي إحالات أعداء الله، فهم يقصدون بذلك تعظيم نفوسهم وعلومهم وليَسْتَوْطِن اليأس قلب الناظر في علومهم وكشوفاتهم من أول نظرة فيها وأول خطوة يخطوها في طريقهم أن الأمر كله مُسَلَّم لهم بلا منازعة ولا نظر ولا فكر، ولذلك لجأوا إلى هذه الإحالات الشيطانية.
(1) مجموعة الفتاوى 5/ 564.
وليحذر العاقل من هؤلاء النقلة المقلِّدة إذْ أن غايتهم أن ينقلوا كلام الملاحدة لا أقول: على عِلاّته لأنه كله عِلّة لا دواء لها إلا الرجوع إلى الوحي المطهر بتفسير السلف الصالح، وأعجب الآن مما يقول هذا: أما أقرب نجم إلينا فيبعد عنا أربع سنوات ضوئية، وأما أبعد شبه نجم (الكازار) فتفصله عنا مسافة تزيد عن عشرة مليارات سنة ضوئية، فالإنسان حتى الآن لم يكتشف من الفضاء إلا مقدار نقطة ماء من محيط، ولقد أنبأ المولى في تنزيله بأن الإنسان سينفذ من أقطار السموات والأرض بواسطة سلطان العلم، كما أنبأ أيضاً بأن النفاذ من أقطار السموات يبقى محفوفاً بالمخاطر، ومنها تعرُّض المركبات ومن فيها لشواظٍ من النار والنحاس:(يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ)(1).
فالإنس والجن لن يستطيعا استكشاف جميع أقطار السموات والأرض أو العيش طويلاً خارج أقطار الأرض، وتاريخ اكتشاف الفضاء لم يخلُ يوماً من المآسي، ومنها انفجار المكوك الفضائي الأميركي (تشالنجر) وبالرغم من أن علماء الفلك يخططون اليوم للنفاذ إلى الأجرام البعيدة بواسطة محطات فضائية، إلا أن قدرتهم على سبر آفاق الكون تبقى محدودة جداً بالنسبة للمقاييس الكونية الهائلة، ولو سلّمنا جدلاً،
(1) الرحمن، آية:35.
كما يقول أحد علماء الفلك، أن باستطاعة العلم بناء مركبة فضائية تصل سرعتها إلى سرعة الضوء، أي 300 ألف كلم في الثانية (وهذا في حدود الاستحالة، فأسرع المركبات اليوم لا تتجاوز سرعتها 30 كلم في الثانية)، فسيبقى الإنسان مدة أربع سنوات على ظهر مركبة تسير بسرعة الضوء حتى يصل إلى أقرب نجم إلينا وثلاثين ألف سنة حتى يصل إلى مركز مجرّتنا اللبنية، و200 ألف سنة حتى يدور حولها، وعشرة مليارات سنة ونيّفاً ليصل إلى أبعد نجم استطاع أن يرصده، و40 مليار سنة ليدور حول هذا الكون، هذا إن بقي الكون بدون توسُّع منذ انطلاقه!!! انتهى (1).
واعلم أن علوم هؤلاء الضلال وكشوفاتهم المحصورة بخيالاتهم المظلمة تُغَيِّر الفطرة، وقد ذكر شيخ الإسلام أن عوام النصارى تنكر فطرهم ما يقوله علماؤهم عن الله ولكنهم يتبعونهم فتتغير فطرهم. قال رحمه الله في نقض التأسيس 2/ 534.
مع أن هذا حين تقوله علماؤهم لعامتهم تنكره فطرهم وتدفعه عقولهم لِما يجدون في أنفسهم من العلم الضروري بنفي ذلك (المراد هنا أن الفِطَر تُنكر دوران الأرض وتنكر اتساع الكون ببلايين المجرات لأنه مخالف للفطرة من طلب الرب في العلو دائماً وصغر الكون بالنسبة
(1) علم الفلك القرآني، (ص125).
لخيالات وهذيانات الملاحدة) ثم قال شيخ الإسلام: فإنهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) فالنصارى مولودون على الفطرة التي تُنكر ذلك، ولكن الدين الذي وجدوا عليه آباءهم هو الذي أوْجب تغيير فطرتهم. انتهى.
والمراد منه بيان تغيير الفطرة من طلب الرب في العلو دائماً حيث أن علوم المعطلة مُغَيّرة للفطرة، مُفسدة للدين ولما تكلم شيخ الإسلام عن أمثال هؤلاء المعطلة قال: فإذا دُفع صِِيَالهم وبُيِّن ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله (1).
وانظر الإحالات الضالة المضلة في العالَم العلوي والسفلي:
فالأرض والكواكب في علومهم نشأت منذ 4.5 بليون سنة والمجرات بلايين وبينها مسافات تُقَدّر بالسنين الضوئية وسرعة الضوء، بزعمهم ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة.
وبعض جسيمات الذرّة لا يُعَمّر في الذرة أكثر من عشرة أجزاء من مليون جزء من الثانية، وقد تقدم ذكر هذا الهذيان وأنه لا يُحيل مثل هذه الإحالات إلا من لا يدري ما يخرج من رأسه.
ومن الإحالات العجيبة الاستدلال البعيد ما ذكره صاحب كتاب توحيد الخالق عند قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) قال:
(1) نقض التأسيس 2/ 592.
ولقد ثبت لدى الباحثين أن بعض البكتيريا تستطيع الحياة بدون هواء غير أنه لا يمكن مطلقاً أن توجد حياة بدون ماء كما تشير الآية إلى ذلك من قبل أن يعرف البشر شيئاً من ذلك (1).
صاحب كتاب توحيد الخالق يريد أن يغصب آيات القرآن لمجاراة علوم الكفار فيقول بالقرآن برأيه، والآية على تقدير أن ما قاله في شأن ما لا يُرى بالعين صحيح فلا تدل عليه بوجه من الوجوه وإنما هو تأويل كلام الله على غير مراده سبحانه بل على هزليات لا يخاطب الله عباده بمثلها، فإن المراد بالآية أن أصل الأحياء كلها الماء، والسنة تُفسر القرآن وتوضحه فقد ذكر ابن كثير في تفسيره لهذه الآية بعد أن ذكر أن معناها أن أصل الأحياء هو الماء ذكر حديث أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرّت عيني فأنبئني عن كل شيء؟ قال: (كل شيء خُلق من ماء)(2).
قال ابن كثير بعد أن أوْرده: إسناده على شرط الصحيحين فالذي جاء في الحديث وهو مبين للقرآن أن أصل الأحياء هو الماء وانظر إلى أين ذهب صاحب كتاب توحيد الخالق.
وسوف يأتي من إحالات صاحب كتاب توحيد الخالق معاني الآيات ما يبيّن كيف يكون الضلال والإضلال.
(1) توحيد الخالق، (ص343).
(2)
رواه الإمام أحمد في مسنده (2/ 295، 493) والحاكم في مستدركه (4/ 176). الحديث.
لقد تكلم سلف هذه الأمة في معاني القرآن والحديث وبعضهم تَوَسّع في ذلك لكنهم مع ذلك لم تتزيف عقولهم إلى مستوى أن يتلقّنوا من الكفرة تخريفهم وهذيانهم مثل هذا الزمان.
تكلموا في عمر الدنيا وما تجاوزوا سبعة آلاف سنة.
وتكلموا في الفضاء وما تجاوزوا مسيرة خمسمائة عام وذلك يقارب 9 ملايين كيلو متر حسب اصطلاح أهل الوقت، وتكلموا في الأرض ونشأتها والسموات ولا يوجد في كلامهم ما نراه في كلام هؤلاء الدجاجلة الذين فرحوا بما عندهم من العلم واحْتالوا بهذه الإحالات ليُسَلَّم لهم الأمر. ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يتركنا عيالاً على المعطلة في معرفة مخلوقات ربنا.
وتكلم العلماء في الأيام المذكورة في القرآن وما تجيء المسافات والأزمنة التي يذكرونها قِطْرة في بحور هؤلاء الكفرة.
أتكون خزائن العلم مغلقة عن خير القرون ومن بعدهم الذين هم خير أمة أخرجت للناس وأُعطي مفاتيحها الملاحدة المعطلة ويكون السلف في جهالة في معرفة مخلوقات ربهم من الصحابة فمن بعدهم؟ يقرءون آياتاً لا يعرفون معناها، ويتفكرون في خلق السموات والأرض على عماية (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى) ومن يلحق غبارهم في العلم بالمخلوقات وخالقها؟.
ومن الأمثلة أيضاً ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية عن استواء الله على العرش بعد خلقه السموات والأرض في ستة أيام فذكر ألوف السنين، قال رحمه الله: وقد أخبر أنه استوى عليه (يعني العرش) لما خلق السموات والأرض في ستة أيام وأخبر بذلك عند إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بألوف السنين، (ولم يذكر الملايين والبلايين). انتهى (1).
وتتميماً للفائدة وإن كان الذي سوف أذكره من كلام شيخ الإسلام ليس هو موضوع البحث لكن قد يتساءل الناظر في الآيات الواردة في ذكر استواء الرب سبحانه على عرشه بعد خلق السموات والأرض فيقول في نفسه: أين كان سبحانه قبل ذلك؟ أو يتخيل أن يكون الله داخلاً في المخلوقات أثناء خلقها أو بعد خلقها فهذا كله باطل، فقد ذكر شيخ الإسلام في موضع آخر من فتاويه أن الرب سبحانه كان عالٍ على العرش قبل خلق السموات والأرض وإنما حصل الاستواء عليه بعد خلق السموات والأرض.
والمراد هنا ذكر الأزمنة والمسافات وأن السلف لم يتلاعب بهم الشيطان كما تلاعب بعقول هؤلاء.
(1) الفتاوى 5/ 579.
ولما كان الكلام على دَعْوى انفصال الأرض عما في السماء وتقرير صاحب كتاب توحيد الخالق وغيره ما يقوله الملاحدة في ذلك وتلمّسهم ما يدل على ذلك من القرآن بزعمهم مثل قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا) وقوله تعالى: (أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا).
يبحث صاحب كتاب توحيد الخالق عن آيات يغصبها لتجاري علوم الملاحدة ويزعم أن ذلك من إعجاز القرآن وأنه يُوجب الإيمان.
ولقد تكلم هو وكثيرون غيره في بَدْء الخلق وفي وصف الأرض وما فوقها بكلام هو من أخطر الكلام وأضره على عقيدة المسلم.
والآيات المذكورة لا تدل على ما ذهبوا إليه فإن كلام السلف فيها مخالف من كل وجه لكلام هؤلاء فآية سورة الأنبياء كلام السلف فيها ابن عباس وعطية العوفي وأبو صالح ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ويحيى وابن كثير كلامهم في الآية أن السموات والأرض متصل بعضها ببعض ففتق هذه من هذه فجعل السموات سبعاً والأرض سبعاً وفصل بين السماء الدنيا والأرض بالهواء، ومعنى (رتقاً) أن السماء لا تمطر والأرض لا تُنبت ففتق هذه بالمطر وفتق هذه بالنبات، وأن السماء
واحدة ففتق منها سبع سموات وكانت الأرض واحدة ففتق منها سبع أرضين، وأنه فصل بين الأرض والسماء بالهواء.
هذا خلاصة كلام المفسرين في الآية وقد ذكر ابن كثير رحمه الله وهو مخالف لتخرصات ودجل الملاحدة فالسلف تكلموا عن بداية الخلق على نور من خالقه، ففسروا آيات القرآن التي ذكر الله فيها بداية تكوينه هذا الكون وهم مُقرون بالخالق وقدرته الباهرة على الخلق والتكوين وتكلموا بذلك على ما يقتضيه كلام الخالق نفسه سبحانه لا آرائهم وكشوفاتهم فجاء كلامهم كلام أهل علم وتقوى وَوَرَع وبصائر فذة فأصابوا الحق في العلم بالمخلوقات كما كانوا على الإصابة والسداد في العلم بخالقها إذْ أنهم لم يتَعَدَّوا طورهم ولا حَكّموا آرائهم ولا ركنوا في معرفة مخلوقات الخالق إلى الجاحدين له المنكرين لوجوده، حتى أرواحهم ينكرونها، وأي خير يُرجى من المعطلة؟ إن الشر لا يأتي بالخير.
هذه طريقة السلف في الكلام في الكون، أما المعطلة فمن أول خطوة ينظرون إلى الكون على أنه لا خالق له فتخرصوا في كلامهم في بداية الكون وأصله كلاماً يليق بهم وهم نَضْحُ آنيتهم وهو نتيجة ظلمة أفكارهم فزاد ضلالهم وأضلوا من قلَّدهم.
ولذلك تكلموا في أزمان سحيقة لا حقيقة لها وإنما هي خيالات في أذهانهم الخاوية، كما تكلموا في أبعاد خيالية مُتناسبة مع تلك الأزمان وكل ذلك صور مرسومة في أذهانهم لا وجود لها في الخارج.
والصور الذهنية الخيالية لا حَدَّ لها وهي تذهب في الماضي الخيالي السحيق، والمستقبل الخيالي البعيد، بل والحاضر المباشر العتيد، كل ذلك في مجال التصوّر والخيال لا حدّ له ولا ضابط.
والمراد أنهم حاولوا في الماضي على أبعاد خيالية سحيقة وقد مَرَّ كلام صاحب كتاب توحيد الخالق أن الأرض والكواكب نشأت منذ 4.5 بليون سنة.
أصل الكون عندهم هو السديم أو الضباب الكوني أو الغبار أو الدخان، وهذه كلها مواد متشابهة، ويزعمون أن هذه المادة الغازية كانت تدور بسرعة فانفصلت منها الكواكب ومن ضمنها الأرض.
وصارت هذه المنفصِلات تدور بنفس الطريقة والوجهة التي عليها المادة الأولى التي انفصلت عنها حسب نظرية نيوتن، وبعد الملايين والبلايين من السنين بردت الأرض وتصلّبت وصارت صالحة للحياة، ومن هنا يُكمل الداروينيون المنظومة فيبدأ طور الأميبا إلى آخر الدّجَل.
وإياك أن تسأل عن السديم من أين جاء أو من أوْجده؟ أو من الذي جعله يدور فكل هذا لا يهم سالك طريق القوم إنما المهم أن نتابع ونسكت لنحظى بالشرف الرفيع والعزّ المنيع.
هذا الطريق سار عليه أكثر أهل هذا العصر غايتهم أن ينظروا ما يصل إليهم من نظريات هذا العلم الحديث مُسَلِّمين لأهله أزمّتهم مُعَظمين لهم ومُبَجلين، ويَرون أن الاعتراض على نظرياتهم وكشوفاتهم لا يُفكر فيه إلا مُحَنَّط حسب تعبيرهم، كيف يُعْترض على من غزوا الفضاء ووصلوا إلى القمر وغاصوا في البحار وكشفوا المجهول، وأذهلوا بحضارتهم العقول، إن الاعتراض على هؤلاء السادة مرفوض غير مقبول.
هذا الصنف من المقلِّدَة الأتباع وَطَّنوا نفوسهم على ألا يرفعوا رأساً أمام السادة ولا يلتفتوا إلى مُعترض عليهم إذْ أحسن أحواله عندهم أنه جاهل، فهؤلاء رضوا بذل نفسي لا يفارق قلوبهم.
وكثيرون منهم فارقوا دينهم حيث ولجوا بحاراً لُجّيَّة، إذْ أن هذه العلوم تبدأ بالتعطيل وتنتهي إليه، إنه لا ذكر لله ولا مجرد الاسم في نظرياتهم وكشوفاتهم وعلومهم، لأنهم من أول خطوة لا يعترفون ولا يقرّون بخالق لمعارضة ذلك لأصولهم التي أهمّها عدم الإيمان والإقرار بغير المحسوس، لكن ما يوجد في علومهم من ذكر الله من آيات القرآن أو الأحاديث فهذا من تصرف المترجمين لتروج البضاعة بهذا الخداع والتغرير، ويا ويلهم من هذا اللبس.
أما الصنف الآخر فهم الذين خلطوا هذه العلوم الحديثة والكشوفات بعلم الدين وهم الذين أقحموا آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم إقحاماً
وغصبوها غصباً لتجاري هذه العلوم وتُماشيها، وخطر هؤلاء عظيم إذْ أنهم يرومون الجمع بين الحق والباطل، والنور والظلمة، مع أن الأضداد ما تزال ولن تزال متضادّة مُتنافرة لا سيما وأن الذي بين الحق والباطل زيادة على المضادة والمنافرة المباغضة لكن رام الجمع من لم يُحَكِّم براهين السمع.
لقد تقدم ذكر بعض آيات خُلِطَتْ مع بضائع مُزْجاة فاسدة لِتُرَوِّجها ويأتي غيرها:
والناس أكثرهم فأهل ظَوَاهرٍ
…
تبدو لهم ليسوا بأهل معاني
فهُمُ القشور وبالقشور قَوَامهم
…
واللّب حَظُّ خلاصة الإنسان
ونرجع الآن إلى الانفصال المزعوم، بما أن السديم يدور فكل ما انفصل عنه يدور والأرض كذلك، وهنا أعيد قولي المتقدم وهو: وإياك أن تسأل لعلمي أن هذا الكلام مرفوض عند الصنف الثاني الذين تقدم ذكرهم إذْ أنهم يقولون: بل اسأل يا أخي عن هذه العلوم والكشوفات تأتيك الإجابات آيات من القرآن وأحاديث عن الرسول، محفوفة قبلها أو بعدها بعبارة:(من علّم النبي الأمي منذ 1400 سنة بأن كذا وكذا).
تقدم أن السلف من المفسرين وغيرهم تكلموا في الكون على مقتضى كلام مُكَوِّنِه وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، أما هؤلاء فلا يؤمنون بالأنبياء ولا
يلتفتون إلى أخبارهم، ولذلك هاموا بأودية ضلالة لا تُحَدُّ بحدود، ضلوا وإن كانوا من قبل في ضلال وأضلوا كثيراً.
فيقال: خُرافة السديم باطلة من أولها إلى آخرها وأدَلّ دليل على بطلانها بلايين السنين الخيالية المزعومة وقد تقدم كلام السلف في الأزمنة وحاشاهم من هذا الهذيان فلا بد أن يكون هؤلاء أهدى من سلف الأمة سبيلاً، وأدَلّ دليل أيضاً على بطلان هذه النظرية من أولها إلى آخرها أن الأرض ثابتة ساكنة قارة لا تدور لا دورة يومية حول نفسها كما زعموا ولا دورة سنوية حول الشمس فكل هذا باطل وقد بيّنت بطلانه في كتاب:(هداية الحيران في مسألة الدوران).
فالذي يعتقده أهل الإسلام في الكون أنه مخلوق من مادة وهي (الدخان) واستدلوا بقوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) وهو دخان لا يدور، وتقدم كلام شيخ الإسلام.
فموافقة الملاحدة على وجود هذه المادة قبل المخلوقات لسنا ولله الحمد بحاجة إليها ولا يتوقف تصديقنا ربنا ونبينا على ما يُقره الكفار أو يُنكرونه.
والآن جاء مفترق الطرق فدخان الملاحدة أو سديمهم أو غبارهم (جاء لا يعلم من أين ولكن جاء)(1)، إنه جاء من نفسه وصار يدور من نفسه وانفصلت عنه الكواكب الأسطورية من نفسها ودارت حوله بنفسها وكان الممسك لها الأجرام العظيمة الدائرة بالفضاء حول توابعها:(إسحاق نيوتن) بنظرية الجاذبية، وقد تقدم ذكر ذلك.
والآن جاء دَور صاحب الإعجاز حيث يقول: نعم هؤلاء كفار ملاحدة معطلة لكن هذا علم ونحن نأخذ منهم العلم، فنأخذ نظرية السديم أو الدخان ونتابع معهم نشأة الكون وفَرْقٌ بيننا وبينهم، فهم لا يُقِرِّون بالخالق ونحن نُقِرُّ به، نقول: الذي أوجد هذه المادة الأولى هو الله، والذي جهل هذه الكواكب ومن ضمنها الأرض تدور هو الله، والممسك لها هو الله.
تأمل معي أيها القارئ في هذا المفترق ما انجرّ على عقيدة أهل الإسلام من البلاء العظيم، هذه النظرية مبنيّة على التعطيل وتنتهي إليه ومع هذا يُقال: إن هذا فعل الله وخلق الله وتكوين الله وتُلتمس آيات من القرآن تُقْسَرُ قسْراً لتجاري العلوم والكشوف.
(1) مأخوذ من قول بعض شعراء الضلال والحيرة:
جئتُ لا أعلمُ من أين ولكني أتيْتُ
…
ولقد أبصرتُ قُدّامي طريقاً فمشيْتُ
كيف جئت كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري.
أما كلام السلف فنظروا للكون بنور كلام خالقه وتكلموا على هذا المقتضى، فهم يصفون المخلوقات كما وصفها خالقها.
هذا النموذج من الطريقة المسلوكة في هذا العصر لإثبات الإعجاز المزعوم، ولذلك لما قُوبَلَتْ نظريات الملاحدة مثل هذه النظرية بنصوص القرآن التي تبين بطلانها لم يلتفت إليها المقلِّدة.
فالقول بدوران الأرض منفي بنصوص تهدم البناء من أصله، حيث أنه بلا شك أن الأرض ثابتة وقد وضّحتُ ذلك في (هداية الحيران) فبطلتْ أسْطورة السديم وما انفصل عنه بطريقة الدوران الميكانيكية وبقي ما ذكره الله في القرآن وتكلم به السلف وهو (الدخان) وقد تقدم كلام السلف في ذلك مما يدل أن الله سبحانه خلق الأرض والسموات من مادة، أما أن هذه المادة تدور وانفصل منها كواكب تدور فهذا هذيان.
ولتعلم مراد إبليس من تأسيس نظرية الدوران في السديم المزعوم فانظر فروع هذا الأساس وتابعها يظهر لك بجلاء أن الأمر مُبْرم بليل من قِبَلِ من قال لربك: (وَلأُضِلَّنَّهُمْ) فقد حصل له فوق مراده بهذه النظرية إذْ أنها تقود حَتْماً إلى الضلال عن الخالق المعبود سبحانه.
فالسديم عندهم في فضاء لا حَدَّ له ولا يوجد في أذهانهم وتصوّراتهم غيره وقد انفصلت عنه بسبب دورانه الشموس ويسمونها النجوم، والشموس بفعل الدوران انفصلت عن كل شمس مجموعتها، فهذه
التي يسمونها (المجموعة الشمسية) من مواليد السديم ولم ينته الأمر على هذا فأمثال هذه المجموعة الشمسية ملايين سابحة في الفضاء الذي لا حدّ له وإن شِئْت قل: بلايين، فقلب الميم باءً لا يؤثّر في هذه الخيالات، والأتباع قدْ وطّنوا نفوسهم على قبول المحالات وتَرَوَّضوا على التصديق بفاسد الخيالات.
ثم إن هذه المجموعة الشمسية تُكَوِّن بدورها مجرات وهي تدور حولها، والمجرات بلايين، ولم ننْتَه بعد فالتوالد مُستمر من السديم، وكل شيء يدور في فضاءٍ خلاءٍ بالمجرات معمور.
والسؤال الوارد الآن ولا بد أن يُورده المسلم، وهو: أين خالق الكون؟ أما أرباب هذه العلوم الحديثة فلا يخطر ببالهم هذا، لأنهم قد تخلّصوا من اعتقاد خالق من أول خطوة في علومهم هذه، فالكون واحد لا إثْنَيْنِيَّة فيه عندهم.
وإنما الشأن بالمسلم، إنه إذا سرح بخياله مع القوم وتخيّل فضاءً لا حَدّ له وبلايين مجرات تدور ويُدار حولها كيف يعرف خالقه ومعبوده وكيف يُثبت وجوده؟ إن خياله على مقتضى هذه النظريات لا يحتمل الزيادة فقد امْتَدّ إلى غير مدى كيف والكون يتّسع والمجرات تتوالد؟.
اعلم أن نتائج وعواقب هذا الاعتقاد الضلال المضمون، وسالك هذا الطريق تائه عن ربه لا يدري أين هو وتجارته تجارة خاسر مغبون.